الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ
خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
(ترغيبُ مَن نَزَلتْ به فاقةٌ أو حاجةٌ أن يُنزلَها
باللهِ تعالى)
عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ
نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ؛ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ.
وَمَنْ
نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ؛ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ،
أَوْ آجِلٍ».
رواه أبو داود والترمذي وقال: "حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ"، والحاكم وقال:
"صحيح الإسناد"، إلا أنه قال
فيه:
«أَوْشَكَ
اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى؛ إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى آجِلٍ».
(يوشك) أي: يسرع، وزنًا
ومعنًى.
"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/ 9- ترغيب مَن نزلت به فاقة أو حاجة
أن ينزلها بالله تعالى / 1/ 507/ ح 838 (صحيح)).
فائدة (1)
حقق أبي -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديثَ في
"الصحيحة" (2787)، وقال:
"هذا وثمة
اختلافٌ آخر بين الرواة يدور حول قوله في آخر الحديث:
«إما بموت عاجل،
أو غنى عاجل».
وذلك على وجوه:
الأول: ما في حديث الترجمة:
«موت عاجل»، و هو رواية الحاكم ومن بعده، وكذا أبي داود، وأحمد في رواية.
الثاني: بلفظ:
«موت آجل»،
و هو لأحمد في رواية أخرى.
الثالث: بلفظ:
«أجل آجل»،
و هو للطبراني و أبي نعيم.
الرابع: بلفظ:
«برزق عاجل
أو آجل» و هو للترمذي.
وهذا اللفظ الأخير
مع تفرُّد الترمذي به، فهو مخالف لما قبله من الألفاظ، مع احتمال أن يكون حرف (أو)
فيه شكًّا من الراوي، فلا يحتج به للشك أو المخالفة.
وأما اللفظ الثاني
والثالث فهما وإن كانا في المعنى واحدًا، إلا أنّ النفس لم تطمئن لهما لمخالفتهما اللفظ
الأول؛ لأنه هو المحفوظ في رواية الأكثرين من الرواة و المخرجين، فهو الراجح إن شاء
الله تعالى، و به التوفيق.
وإذا كان الأمر
كذلك؛ فما معنى قوله:
«إما بموت عاجل، أو غنى عاجل»؟
فأقول : لم أقف
على كلامٍ شافٍ في ذلك لأحد من العلماء، وأجمع ما قيل فيه ما ذكره الشيخ محمود السبكي
في " المنهل العذب " ( 9/ 283 ) قال:
"إما بموتِ
قريبٍ له غنيٍّ، فيرثه.
أو بموت الشخصِ
نفسِه، فيَستغني عن المال.
أو بغنًى ويَسارٍ
يَسوقه اللهُ إليه مِن أيِّ باب شاء، فهو أعمُّ مما قبله، ومصداقُه قولُه تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق من 2 و3]"". اﻫ من "الصحيحة" (6/
ق1/ 680و681).
فائدة (2)
أورد الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ-
حديثَ ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هذا في تفسيره لآيتين من سورتين في كتاب
الله تعالى:
الأولى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)﴾ [الإسراء].
الثانية: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ [الطلاق من الآية 3].
وكذلك قال العلامة الطيبي في شرح الحديث:
"وفي معناه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ وبلوغُ
أمره إمّا بموتٍ عاجل، أو غنًى عاجل" اﻫ مِن "شرح الطيبي على المشكاة" (5/ 1519 ، ط 1، 1417ﻫ، مكتبة نزار مصطفى
الباز).
وأخيرًا!
رُبَّ موتٍ يكون غنًى!
فالرسول
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«اثْنَتَانِ
يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ،
وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ».
وأخبرنا
أنه سيأتي زمان يكون الموتُ نعمةً يُغبَط عليها صاحبُها! «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَني مَكانَهُ»!
وللموت
عند الصادقين شأنٌ رفيع، إنه أمرٌ يُنتظَر! ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ [الأحزاب].
ومن
عجائب الموت أنه هو نفسه عزاءُ كلِّ فَقْدٍ ولو كان فَقْدَ حبيبٍ بالموتٍ! ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا
لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾ [البقرة].
ليس في
هذا دعوةٌ لِتمني الموت بإطلاقٍ -فهو جائز فرارًا من الفتن-!
بل دعوة
لِاعتباره راحةً بعد العناء! ولكنْ للصالحين، وفرجًا بعد الأسر! ولكنْ للموقنين.
ففي
الدعاء المأثور: «وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ».
وفي
الخبر الصادق: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا
إِلَى رَحْمَةِ اللهِ».
ليست
دعوة لتمني الموت، بل دعوة للثباتِ عند حلوله على النفس وعلى الأحباب، وتلقِّيه
على أنه علاوة على أنه أمر لابد منه فإن فيه (غنًى) و(خيرًا) و(راحةً)!
قال
الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
"الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ:
حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الْأَبْدَانَ، وَخَلَاصِهَا مِنْ هَذَا
السِّجْنِ وَضِيقِهِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ فَضَاءً وَرَوْحًا وَرَيْحَانًا وَرَاحَةً،
نِسْبَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ،
أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ!
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لِتَكُنْ مُبَادَرَتُكَ
إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا كَمُبَادَرَتِكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ
الضَّيِّقِ إِلَى أَحِبَّتِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِي الْبَسَاتِينِ الْمُونِقَةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: ﴿فَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ
(89)﴾ [الواقعة].
وَيَكْفِي فِي طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ: مُرَافَقَةُ
الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمُفَارَقَةُ الرَّفِيقِ الْمُؤْذِي الْمُنَكِّدِ، الَّذِي
تُنَغِّصُ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ الْحَيَاةَ، فَضْلًا عَنْ مُخَالَطَتِهِ وَعِشْرَتِهِ،
إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
(69)﴾ [النساء]، فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَدْ قُلْتُ إِذْ مَدَحُوا الْحَيَاةَ فَأَسْرَفُوا
* فِي الْمَوْتِ أَلْفُ فَضِيلَةٍ لَا تُعْرَفُ
مِنْهَا أَمَــــــــــانُ لِقَــــــــــــــــــــــــــائِهِ بِلِقَائِهِ * وَفِرَاقُ كُلِّ مُعَاشِـــــــــــــــــرٍ لَا يُنْصِفُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْتِ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا
أَنَّهُ بَابُ الدُّخُولِ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَيْهَا؛
لَكَفَى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ.
جَزَى اللهُ
عَنَّا
الْمَوْتَ خَيْرًا
فَإِنَّهُ * أَبَرُّ بِنَا مِنْ
كُلِّ
بِرٍّ
وَأَلْطَفُ
يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الْأَذَى * وَيُدْنِي إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ
فَالِاجْتِهَادُ فِي هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ وَالْمُدَّةِ
الْقَلِيلَةِ، وَالسَّعْيُ وَالْكَدْحُ، وَتَحَمُّلُ الْأَثْقَالِ، وَالتَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ-
إِنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ.
وَالْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا.
وَهِيَ يَقَظَةٌ، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَيَاةِ نَوْمٌ.
وَهِيَ عَيْنٌ، وَمَا قَبْلَهَا أَثَرٌ.
وَهِيَ حَيَاةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ الْمَكْرُوهِ،
وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ، فِي مَقَامِ الْأُنْسِ، وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، حَيْثُ لَا
يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، وَلَا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ، حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ،
وَالْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ، حَيْثُ لَا عِبَارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِهَا؛
لِأَنَّهَا فِي بَلَدٍ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ، وَلَا إِلْفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَاكِنِهِ،
فَالنَّفْسُ لِإِلْفِهَا لِهَذَا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمَانًا طَوِيلًا
تَكْرَهُ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ
مُفَارَقَتَهُ.
وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا وَصَلَ
إِلَيْنَا بِخَبَرٍ إِلَهِيٍّ عَلَى يَدِ أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَنْصَحِهِمْ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَتْ شَوَاهِدُهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ،
حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ هَذَا
الظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالْخَيَالِ الْمُضْمَحِلِّ، وَالْعَيْشِ الْفَانِي الْمَشُوبِ
بِالتَّنْغِيصِ وَأَنْوَاعِ الْغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَشَوْقًا
إِلَى ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ، وَوَجْدًا بِهَذَا السُّرُورِ، وَطَرَبًا عَلَى هَذَا الْحَدِّ،
وَاشْتِيَاقًا لِهَذَا النَّسِيمِ الْوَارِدِ مِنْ مَحَلِّ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَى بَلَدِ الْعَدْلِ وَالْخِصْبِ
وَالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ صَبَرَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى كُلِّ مَشَقَّةٍ وَإِعْوَازٍ
وَجَدْبٍ، وَفَارَقَ الْمُتَخَلِّفِينَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَابَ الْمُنَادِي
إِذَا نَادَى بِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ بَذْلَ
الْمُحِبِّ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ، وَوَاصَلَ السَّيْرَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ،
فَحَمِدَ عِنْدَ الْوُصُولِ مَسْرَاهُ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْمُسَافِرُ السُّرَى
عِنْدَ الصَّبَاحِ.
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى * وَفِي الْمَمَاتِ
يَحْمَدُ الْقَوْمُ اللِّقَا
وَمَا هَذَا -وَاللهِ!- بِالصَّعْبِ وَلَا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذَا
الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ كَسَاعَةٍ
مِنْ نَهَارٍ
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ [الأحقاف: 35].
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ
النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: 45].
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً
أَوْ ضُحَاهَا(46)﴾ [النازعات].
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا
غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: 55].
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا
لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)﴾ [المؤمنون].
فَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ
وَالْحِجَارَةَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَلَا غَبْنًا
فِي جَنْبِ مَا يُوَقَّاهُ.
فَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى بَصِيرَةٍ شَاهَدَتْ هَاتَيْنِ الْحَيَاتَيْنِ
عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى،
وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ، وَمِنْهُ ابْتِدَاءُ
كُلِّ شَيْءٍ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ، أَقْعَدَ نُفُوسَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ
الشَّقَاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، وَجَذَبَ قُلُوبَ مَنْ سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى، وَأَقَامَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ
الْأَخْطَارِ، فَأَضَاعَ أُولَئِكَ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ،
وَقَطَعَ هَؤُلَاءِ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ السَّائِرِينَ، وَعُقِدَتِ الْغَبَرَةُ
وَثَارَ الْعَجَاجُ، فَتَوَارَى عَنْهُ السَّائِرُونَ وَالْمُتَخَلِّفُونَ.
وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ الْعَامِلُونَ، وَيَخْسِرُ
الْمُبْطِلُونَ.
وَمِنْ طِيبِ
هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى
الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ
يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، لِمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللهِ لَهُ» يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً
أُخْرَى" اهـ المراد من "مدارج السالكين" (2/ 153
- 158، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).
الثلاثاء 7 شوال 1437هـ