وصايا للحُجّاج مِن سورة البقرة
(الآيات: 158 و: 196 – 203)
مستقاة من نبع تفسير العلامة السعدي رحمه الله تعالى، فكلُّ ما بين " " فهو مِن "تيسير الكريم الرحمٰن" ص: 77 و 90 - 93
إِنَّ الحمْدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغْفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنَا، ومنْ سيّئاتِ أعمالِنَا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومنْ يُضلِلْ فَلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أما بَعدُ:
قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
وقال:
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}.
أي وَفْدَ الله![1]
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
· جَرِّدوا حجَّكم وعمرتَكم لله، فقد قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ففي قولِه: {لِلَّهِ} "الأمرُ بإخلاصهما لله تعالى".
· تابِعوا نبيَّكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ، فأمْرُه تعالى بالإتمام دلالة على "وجوب إتمامهما بأركانهما، وواجباتهما، التي قد دلَّ عليها فِعلُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقولُه: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[2]".
· تطوَّعوا للهِ مُسْتَغْنين بالسُّنّةِ الصحيحةِ عن البِدَع، فقد قال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} "وَدَلَّ تقييدُ التطوُّع بالخير: أنّ مَن تطوَّع بالبِدع التي لم يشرعها اللهُ ولا رسولُه؛ أنه لا يَحصل له إلا العَناء، [وأن عَمَله لا يُشكَر][3] وليس بخيرٍ له، بل قد يكون شَرًّا له إن كان متعمِّدًا عالِمًا بعدمِ مشروعية العمل".
· احرصوا على إتقان الحج والعمرة، فالله تعالى لم يقل: (وأدُّوا) بل قال: {وَأَتِمُّوا}، ففيه: "الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهذا قدْرٌ زائدٌ على فِعل ما يَلزم لهما".
{وَاتَّقُوا اللَّهَ}
· اتقوا الله؛ فأنتم في عبادة عظيمة، والشيطانُ حريص على إفسادها، فتذكّروا أنّه سبحانه أمركم بتقواه ضمن آيات الحج – وتكرر هذا، كما سيأتي إن شاء الله-؛ فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} "أي: في جميع أموركم، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومِن ذلك: امتثالكم لهذه المأمورات، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية".
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
· وتذكّروا موجب التقوى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} "أي: لمن عصاه، وهذا هو الموجب للتقوى؛ فإن مَن خاف عقابَ الله؛ انكفَّ عما يوجب العقاب، كما أن مَن رجا ثوابَ الله؛ عَمِلَ لِما يُوصله إلى الثواب، وأما مَن لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب؛ اقتحم المحارم، وتجرّأ على ترك الواجبات".
وقد خصّ سبحانه -مِن جملة ما يُتَّقى- أمورًا؛ فـ
· احذروا الرفث والفسوق والجدال؛ فقد قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} "أي: يجب أن تعظِّموا الإحرامَ بالحج، وخصوصًا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كلِّ ما يفسده أو ينقصه، مِن:
الرفث، وهو: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصًا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق، وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.
والفسوق، وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.
والجدال، وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة".
· حقِّقوا المقصودَ مِن الحج، وهو: "الذلّ والانكِسار لله، والتقرُّب إليه بما أمكن مِن القُربات، والتنزّه عن مقارَفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة[4]، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كلِّ مكان وزمان؛ فإنها يتغلّظ المنعُ عنها في الحج.
· واعلم[ـوا] أنه لا يتمّ التقربُ إلى الله بتَرْكِ المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أتى بـ (مِن) للتنصيص على العموم، فكلُّ خيرٍ وقُربةٍ وعبادة، داخل في ذلك، أي: فإنّ اللهَ به عليم، وهذا يتضمّن غايةَ الحثِّ على أفعالِ الخير، وخصوصًا في تلك البِقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارُكُ ما أمكن تدارُكُه فيها، من:
صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وطوافٍ، وإحسانٍ قوليٍّ وفعليّ.
صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وطوافٍ، وإحسانٍ قوليٍّ وفعليّ.
{وَتَزَوَّدُوا}
· استَغنُوا عن المخلوقين جهدَكم، فقد أمر اللهُ تعالى بالتزوّد للحج فقال: {وَتَزَوَّدُوا} "فإنَّ التزوُّدَ فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكفّ عن أموالهم، سؤالاً واستشرافًا".
· أكثِروا مِن الزاد إنْ تيسَّر؛ فـ"في الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين.
{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
· تَعاهَدوا التقوى فإنها {خَيْرَ الزَّادِ}، فالمذكور أعلاه هو الزّاد الماديّ -"الذي المراد منه إقامةُ البنية- [فهو] بُلْغَةٌ ومَتاعٌ. وأما الزّاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه؛ فهو زاد التقوى، الذي: هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجلِّ نعيمٍ دائمٍ أبدًا، ومَن تَرك هذا الزّاد؛ فهو المنقطع به الذي هو عُرضة لكل شر، وممنوع مِن الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدْحٌ للتقوى".
· اثبَتُوا على التقوى، فقد كرَّر اللهُ سبحانه الحثَّ عليها في سياق آيات الحج فـ "أَمَرَ بها أُولي الألباب فقال: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ} أي: يا أهل العقول الرَّزينة! اتقوا ربَّكم الذي تَقْواه أعظمُ ما تَأمُر به العقول، وتَرْكُها دليلٌ على الجهل، وفسادِ الرّأي".
· وصيةٌ خاصّةٌ بمن سيخرج حاجًّا متكسِّبًا: قال عَزَّ وَجَلَّ في سياق آياتِ الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فـ "أَخْبَر تعالى أنّ ابتغاءَ فضلِ الله بالتكسُّبِ في مواسم الحجّ وغيره، ليس فيه حَرَجٌ:
- إذا: لم يشغل عما يجب، إذا كان المقصود هو الحج.
- وكان الكسب حلالاً.
- منسوبًا إلى فضلِ الله، لا منسوبًا إلى حذقِ العبد، والوقوفِ مع السبب، ونسيانِ المسبب، فإنّ هذا هو الحرَج بِعَينه!".
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ}
· أيها الحجاج! اذكروا الله.. اذكروا الله.. اذكروا الله... تأمَّلوا كم تَكرَّر ذِكْرُ الذِّكْرِ في آيات الحج!:
§ {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، فيه "الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، ..... يكون ليلة النحر بائتًا بها، وبعد صلاة الفجر، يقف في المزدلفة داعيًا، حتى يسفر جدًّا[5]. ويدخل في ذكر الله عنده: إيقاعُ الفرائضِ والنوافل فيه".
§ {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} "أي: اذكروا اللهَ تعالى كما مَنّ عليكم بالهدايةِ بعد الضلال، وكما علَّمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه مِن أكبرِ النِّعَم، التي يجب شُكرُها ومقابَلتُها بذِكر المنْعِمِ بالقلب واللسان".
§ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "ولَمّا كانت [هذه] الإفاضةُ، يُقصَد بها ما ذُكِر، والمذكوراتُ آخرَ المناسِك؛ أَمَرَ تعالى عند الفراغ منها باستغفارِه والإكثارِ مِن ذِكره، فالاستغفارُ لِلخَلل الواقع مِن العبد في أداء عبادته وتقصيرِه فيها، وذِكرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق لِهذه العبادة العظيمة والمنّة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد: كلما فَرَغ مِن عبادة أن يَستغفرَ اللهَ عنِ التقصير، ويَشكرَه على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكملَ العبادة، ومَنَّ بها على ربِّه، وجَعلت له محلاً ومنزلةً رفيعة! فهذا حقيقٌ بالمقْتِ، ورَدِّ الفعل، كما أنّ الأولَ حقيقٌ بالقبول والتوفيق لأعمالٍ أُخَر".
§ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}[6] .
§ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} "يأمر تعالى بذِكره في الأيام المعدودات -وهي أيامُ التّشريق الثلاثةُ بعد العيد-؛ لِمزيَّتِها وشَرَفِها، وكونِ بقيةِ أحكام المناسك تُفعَل بها، ولِكونِ الناس أضيافًا للهِ فيها، ولهذا حرم صيامها، فلِلذِّكر فيها مزيّةٌ ليست لغيرها، ولهذا قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ»[7]، ويدخل في ذِكر الله فيها: ذِكرُه عند رمي الجمار، وعند الذّبح، والذّكرُ المقيَّد عقب الفرائض، بل قال بعضُ العلماء: إنه يستحبّ فيها التكبيرُ المطلَق، كالعشْر، وليس ببعيد".
· أيها الحجاج! هذا موسمٌ للدُّعاء مَشهور، ولكنِ احرِصُوا على الدعاءِ في أُمورِ الآخرة، فلا تكن دَعواتكم على أمورِ الدنيا مقتصِرة! فقد ذمّ سبحانه الأولَ، مع أنه يَدعو! ومَدَح الثاني ووَعَده خيرًا؛ قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} "أخبر تعالى عن أحوالِ الخلق، وأنّ الجميع يسألونه مَطالبَهم، ويَستدفعونه ما يضرُّهم، ولكنّ مقاصدَهم تختلف، فمنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} أي: يسأله مِن مَطالب الدنيا ما هو مِن شهواته، وليس له في الآخرة من نصيب؛ لرغبته عنها، وقَصْرِ هِمّتِه على الدُّنيا. ومنهم: مَن يدعو اللهَ لِمصلحة الدَّارَين، ويفتقر إليه في مهمّات دِينه ودنياه.
وكلٌّ مِن هؤلاء وهؤلاء لهم نصيبٌ مِن كسْبِهم وعَملِهم، وسيجازيهم تعالى على حَسَب أعمالهم، وهمّاتهم ونيّاتهم، جزاءً دائرًا بين العدلِ والفضل، يُحمَد عليه أكملَ حَمْدٍ وأَتمَّهُ.
وفي هذه الآية دليلٌ على أنّ الله يجيب دعوةَ كلِّ داع، مسلمًا أو كافرًا أو فاسقًا، ولكن ليست إجابتُه دعاءَ مَن دعاه دليلاً على محبَّتِه له وقُربِه منه، إلا في مطالِبِ الآخرة ومهمّات الدّين.
والحسَنةُ المطلوبة في الدنيا يَدخُل فيها كلُّ ما يَحسن وَقْعُه عند العبد، مِن:
رِزقٍ هنيءٍ واسعٍ حلالٍ
وزوجةٍ صالحةٍ
وولَدٍ تَقرُّ به العَين
وراحةٍ
وعلمٍ نافعٍ
وعملٍ صالحٍ
ونحوِ ذلك مِن المطالبِ المحبوبة والمباحة.
وحَسَنةُ الآخرةِ هي:
السلامةُ مِن العقوبات، في القبر، والموقف، والنار.
وحصولُ رضا اللهِ.
والفوزُ بالنعيمِ المقيم.
والقُربُ مِن الرَّبِّ الرَّحيم.
فصار هذا الدعاءُ، أَجْمَعَ دعاءٍ وأكملَه، وأَولاهُ بالإيثار، ولهذا؛ كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثر مِن الدعاءِ به[8]، والحثِّ عليه[9]".
{وَاتَّقُوا اللَّهَ}
· وختام الوصايا: التقوى أيضًا، فقد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، "{لِمَنِ اتَّقَى} أي: اتقى اللهَ في جميعِ أمورِه، وأحوالِ الحجّ، فمَنِ اتقى اللهَ في كلِّ شيء؛ حَصل له نَفْيُ الحرَج في كلِّ شيء، ومَنِ اتّقاه في شيءٍ دون شيء؛ كان الجزاءُ مِن جنسِ العمل.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، فمجازيكم بأعمالِكم، فمنِ اتّقاه؛ وَجَدَ جزاءَ التقوى عنده، ومَن لم يَتَّقْهِ؛ عاقَبه أشدَّ العقوبة، فالعِلمُ بالجزاء مِن أعظمِ الدَّواعي لِتقوى اللهِ، فلهذا؛ حثّ تعالى على العلمِ بذلك".
· استذكروا أسماءَ الله الحسنى وصفاتِه العلى وأفعالَه الكاملة -تبارك وتعالى وتقدّس-، والتي ورد منها هنا أنه جَلَّ جَلالُهُ:
{شاكرٌ عليمٌ} 158
{شَديدُ العقاب} 196
{هَدَاكُم} 198
{غَفورٌ رحيم}199
{سَريعُ الحساب} 202
{إلَيهِ تُحشَرون} 203
فاذكُروها، واستحضِروا في قلوبكم مَعانيها:
-راجين شُكرَه تعالى؛ فـ "الشاكرُ والشكور، مِن أسماء الله تعالى، الذي:
§ يَقبل مِن عِبادِهِ اليسيرَ مِن العمل، ويجازيهم عليه العظيمَ مِن الأجر.
§ الذي إذا قام عَبْدُه بأوامرِه، وامتثلَ طاعتَه؛ أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومَدَحه، وجازاه:
في قَلبه: نورًا وإيمانًا وسعة.
وفي بدنه: قوةً ونشاطًا.
وفي جميع أحواله: زيادةَ بركةٍ ونماء.
وفي أعماله: زيادةَ توفيق.
ثم بعد ذٰلك: يَقدُم على الثواب الآجِل عند ربِّه كاملاً موفَّرًا، لم تنقصه هذه الأمور.
§ ومِن شُكره لعَبْدِه: أنّ مَن ترك شيئًا لله؛ أعاضه اللهُ خيرًا منه، ومَن تقرّب منه شبرًا؛ تقرّب منه ذراعًا، ومَن تقرّب منه ذراعًا؛ تقرَّب منه باعًا، ومَن أتاه يمشي؛ أتاه هرولة، ومَن عامله؛ ربح عليه أضعافًا مضاعَفة[10].
ومع أنه شاكر؛ فهو:
{عَليمٌ} بمن يستحق الثواب الكامل، بحسب: نيته، وإيمانه، وتقواه، ممن ليس كذلك،
{عَليمٌ} بأعمال العباد؛ فلا يضيعها، بل يجدونها أوفر ما كانت، على حسب نيّاتهم التي اطّلع عليها العليمُ الحكيم".
- راهبين أنه سبحانه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} "أي: لمن عصاه، وهذا هو الموجب للتقوى؛ فإن مَن خاف عقابَ الله؛ انكفَّ عما يوجب العقاب، كما أن مَن رجا ثوابَ الله؛ عَمِلَ لِما يُوصله إلى الثواب، وأما مَن لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب؛ اقتحم المحارم، وتجرّأ على ترك الواجبات".
فبَيْنَ الرجاءِ والرهبةِ يَنجو الحاجُّ الصادق، ولا يَزهد في عملٍ صالح -ولو صغر- فيأتيه، ولا يستهين بذنب -ولو حقر- فيجتنبه، فربُّه سبحانه {سَريعُ الحِسَاب}[11].
[1] - روى الحافظ البزار عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ»، حسّنه الوالد رَحِمَهُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1820).
[2] - أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة، واللفظ للنسائي، ينظر "إرواء الغليل" (1074).
[3] - إضافةٌ مني -عفا اللهُ عني-؛ نظرًا لِكَونِ الآية هنا -ورقمها: 158-: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، أمّا آيةُ: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فهي في آياتِ الصِّيام مِن (سورة البقرة) أيضًا، ورقمُها: 184.
[4] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» "صحيح البخاري" (1773).
[5] - قال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في وصفِ حجة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ: (حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا) "صحيح مسلم" (1218).
[6] - "وقوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} اختلفوا في معناه، فقال ابن جُرَيج، عن عطاء: هو كقولِ الصبي: "أبَهْ أمَّهْ"، يعني: كما يَلْهَجُ الصبيُّ بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك. وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس. وروى ابنُ جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس -نحوه.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس [قال]: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ويحمل الديات]. ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن أنس بن مالك، وأبي وائل، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة في إحدى رواياته، ومجاهد، والسدي، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة، والله أعلم.
والمقصود منه: الحث على كثرة الذكر لله عَزَّ وَجَلَّ" اﻫ مِن "تفسير الحافظ ابن كثير" (1/ 557، ط دار طيبة).
[8] - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا! آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» متفق عليه، وهو في "صحيح البخاري" (4522).
[9] - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَادَ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ! مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللهِ! لا تُطِيقُهُ -أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ-، أَفَلا قُلْتَ: اللهُمَّ! آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ. "صحيح مسلم" (2688).
[10] - روى الإمام مسلم في "صحيحه" (2687) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً».
[11] - قال الحافظ الطبري رحمة الله عليه: "وَإِنَّمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَفْسَهُ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يُحْصِي مَا يُحْصَى مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ بِغَيْرِ عَقْدِ أصَابِعٍ وَلَا فِكْرٍ وَلَا رَوَيَّةِ فِعْلِ الْعَجَزَةِ الضَّعَفَةِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَكِنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ، وَلا فِي السَّمَاءِ، وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِيهِمَا، ثُمَّ هُوَ مُجَازٍ عِبَادَهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ؛ فَلِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ امْتُدِحَ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، وَأَخْبَرَ خَلْقَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ بِمِثْلٍ فَيَحْتَاجُ فِي حِسَابِهِ إِلَى عَقْدِ كَفٍّ أَوْ وَعْيِ صَدْرٍ" اﻫ مِن "تفسير الطبري" (3/ 549 ، ط هجر).