الصفحات

مِنَ اللوازمِ الباطلةِ لأقوالِ نُفاةِ الصِّفات


بسم الله الرحمٰن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
أما بعد
قال العلامة ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
"قال شيخُ الإسلام:
إنْ كان الحقُّ فيما يقوله هؤلاء النُّفاةُ الذين لا يوجَد ما يقولونه في الكتاب والسُّنةِ وكلامِ القرون الثلاثة المعظَّمةِ على سائرِ القرون، ولا في كلام أحدٍ مِن أئمةِ الإسلام المقتدَىٰ بهم، بل ما في الكتاب والسُّنة وكلام السلف والأئمة يوجَد دالاًّ علىٰ خِلاف الحقِّ عندهم، إما نصًّا وإما ظاهرًا، بل دالاًّ عندهم على الكفرِ والضلال؛ لَزِمَ مِن ذٰلك لوازمُ باطلةٌ:
منها:
الأول: أن يكون اللهُ سبحانه قد أنزل في كتابه وسُنَّةِ نبيِّه مِن هٰذه الألفاظ ما يُضِلُّهم ظاهرُه، ويوقِعُهم في التشبيهِ والتمثيل!

الثاني: ومنها: أن يكون قد ترك بيانَ الحقِّ والصوابِ لهم، ولم يُفصِح به، بل رمز إليه رمزًا وألغزه إلغازًا لا يُفهَم منه ذٰلك إلا بعد الجهد الجهيد!

الثالث: ومنها: أن يكون قد كَلَّف عِبادَه أن لا يَفهموا مِن تلك الألفاظ حقائقَها وظواهرَها، وكلَّفَهم أن يَفهَموا منها ما لا تدلُّ عليه! ولم يجعل معها قرينةً تُفهِم ذٰلك!

الرابع: ومنها: أن يكون دائمًا متكلِّمًا في هذا الباب بما ظاهرُه خلافُ الحقِّ بأنواعٍ متنوِّعةٍ مِنَ الخطاب:
تارة بأنه استوىٰ علىٰ عرشه
وتارة بأنه فوق عباده
وتارة بأنه العليُّ الأعلىٰ
وتارة بأنّ الملائكة تَعرج إليه
وتارة بأنّ الأعمال الصالحة تُرفَع إليه
وتارة بأنّ الملائكة في نزولِها مِنَ العلوِّ إلىٰ أسفل تَنْزِل مِن عندِه
وتارة بأنه رفيعُ الدرجات
وتارة بأنه في السماء
وتارة بأنه الظاهِرُ الذي ليس فوقه شيء
وتارة بأنه فوق سمواته علىٰ عرشه
وتارة بأنّ الكتاب نزل مِن عنده
وتارة بأنه ينزل كلَّ ليلةٍ إلىٰ سماء الدنيا
وتارة بأنه يُرىٰ بالأبصار عيانًا، يراه المؤمنون فوق رؤوسهم.
إلىٰ غير ذلك مِن تنوُّعِ الدِّلالات علىٰ ذٰلك، ولا يتكلَّم فيه بكلمة واحدة يوافِق ما يقوله النفاةُ، ولا يقول في مقامٍ واحدٍ فقط ما هو الصواب فيه، لا نصًّا ولا ظاهرًا ولا يُبيِّنُه!

الخامس: ومنها: أن يكون أفضلُ الأمةِ وخيرُ القرون قد أَمْسَكوا مِن أوَّلِهم إلىٰ آخرِهم عن قولِ الحقِّ في هٰذا الشأن العظيم، الذي هو مِن أهم أصولِ الإيمان! وذٰلك:
إمّا جهلٌ يُنافي العلمَ
وإما كتمانٌ ينافي البيانَ.
ولقد أساء الظنَّ بخيار الأمة مَن نَسَبَهم إلىٰ ذٰلك، ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلُّمُ بالباطل والسكوت عن بيانِ الحقِّ؛ تولَّد مِن بينهما جهلُ الحقِّ، وإضلالُ الخلق، ولِهٰذا؛ لَمَّا اعتقد النفاةُ التعطيلَ صاروا يأتون مِن العبارات بما يدلُّ على التعطيلِ والنفيِ نصًّا وظاهرًا، ولا يتكلمون بما يدلُّ على حقيقةِ الإثبات لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإذا وَرَدَ عليهم مِن النصوص ما هو صريحٌ أو ظاهرٌ في الإثبات حَرَّفوه أنواعَ التحريفاتِ، وطلبوا له مُستكرَهَ التأويلات.

السادس: ومنها: أنهم التزموا لذٰلك تجهيلَ السلف، وأنهم كانوا أُمِّيِّين مُقْبِلين على الزهدِ والعبادةِ والورعِ والتسبيحِ وقيامِ الليلِ، ولم تَكُنِ الحقائقُ مِن شأنهم!

السابع: ومنها: أنّ تَرْكَ الناسِ مِن إنزالِ هٰذه النصوص كان أنفَعَ لهم وأقرَبَ إلى الصواب؛ فإنهم ما استفادوا بنزولِها غيرَ التعرُّضِ للضلال، ولم يستفيدوا منها يقينًا ولا عِلمًا بما يجب لله ويمتنع عليه إذ ذاك، وإنما يُستفاد مِن عقول الرجال وآرائها!

فإن قيل: استفدنا منها الثوابَ علىٰ تلاوتها وانعقادَ الصلاةِ بها.
قيل: هٰذا تابعٌ للمقصود بها بالقَصد الأولِ، وهو الهدىٰ والإرشاد والدلالة علىٰ إثبات حقائقِها ومعانيها والإيمانِ بها؛ فإنّ القرآن لم يُنزَل لمجرد التلاوةِ وانعقاد الصلاةِ عليه؛ بل أُنزِل ﻟ :
يُتَدَّبَرَ ويُعقَل
ويُهدىٰ به عِلمًا وعَملاً
ويبصِّرَ مِنَ العمىٰ
ويرشِدَ مِنَ الغيِّ
ويُعلِّم مِنَ الجهل
ويَشفي مِنَ العِيِّ
ويَهدي إلىٰ صراطٍ مستقيم.
وهٰذا القصدُ ينافي قَصْدَ تحريفِه وتأويلِه بالتأويلات الباطلةِ المستكرَهةِ التي هي مِن جنس الألغاز والأحاجي، فلا يَجتمع قَصْدُ الهدىٰ والبيانِ، وقَصْدُ ما يُضادُّه أبدًا. وبالله التوفيق".

"الصواعق المرسلة" (1/ 314 – 316).