الصفحات

عبادةُ الاستعانةِ وفوائدُ مِن آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ رسالة الجوّال


36- تَجْمَعُ عِبادةُ الاستعانةِ بين أصْلَين؛ ما هما؟
وكيف دلّتْ آيةُ الفاتحة علىٰ أنها عِبادةٌ فلا تُصرَفُ لغَيرِ الله؟
وبيِّني عِظَمَ شأنِ هٰذه الآيةِ في الدِّين.


البيان
قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ*:
قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ**} (الفاتحة:5) ).
قال فضيلةُ الشيخ عبدُ الرحمٰن بن محمد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"* وَأَنَّهَا عِبَادَةٌ، بَلْ أَجَلُّ الْعِبَادَاتِ، وَهِي تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ[1]:
الثِّقَةَ بِاللهِ.
وَالاعْتِمَادَ عَلَيهِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ:
(تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ؛ فَإذا هُوَ سُؤَالُ اللهِ الْعَونَ عَلَىٰ مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي (الْفَاتِحَةِ) فِي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}).[2]
** الدِّينُ كُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَىٰ هٰذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَسِرُّ الْخَلْقِ وَالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وَالثَّوابِ وَالْعقابِ يَرْجِعُ إِلَىٰ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَعَلَيهِمَا مَدَارَ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ[3].
والأَوَّلُ: تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْكِ.
وَالثَّانِي: تَبَرُّؤٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ.
وَهٰذَا الْمَعْنىٰ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ.
وَتَقْديمُ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أََيْ: نَسْتَعِينُ بِكَ وَحْدَكَ دُونَ كُلِّ مَنْ سِواكَ.
فَهٰذَا النَّوعُ أَجَلُّ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، فَصَرْفُهُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ أَكْبرُ[4].
وَكَذَا قَوْلَهُ: {إِيَّاكِ نَعْبُدُ} أََيْ: لا نَعْبُدُ أَحَدًا سِواكَ.
فَالْعِبَادَةُ للهِ وَحْدَهُ.
والاسْتِعانَةُ بِهِ وَحْدَهُ.
جَلَّ وَعلا وَتَقَدَّسَ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص55 و56.


[1] - يُنظر "مدارج السالكين" (1/ 161، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).
[2] - نقلها عنه تلميذُه الإمامُ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ؛ كما في "المستدرك على الفتاوىٰ" (1/ 175)، و"مدارج السالكين" (1/ 167، مصدر سابق).
[3] - يُنظر "مدارج السالكين" (1/ 159، مصدر سابق).
[4] - ذكر العلامة العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- مِن فوائد آية الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في "تفسير القرآن الكريم/ الفاتحة - البقرة" (1/ 14 و15 ، ط 1، 1423 ﻫ، دار ابن الجوزي - بواسطة الشاملة):
"إخلاص الاستعانةِ بالله عَزَّ وَجَلَّ؛ لقوله تعالىٰ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، حيث قدّم المفعول". ثم قال:
"فإنْ قال قائل:
كيف يقال: إخلاص الاستعانةِ لله، وقد جاء في قولِه تَعَالَىٰ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىٰ} (المائدة: 2) إثباتُ المعونةِ مِن غيرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ: صَدَقَةٌ» ["صحيح مسلم" (1009)]؟
فالجواب: أن الاستعانة نوعان:
استعانةُ تفويض؛ بمعنى أنكَ تعتمد على الله عَزَّ وَجَلَّ، وتتبرّأ مِن حَولِكَ، وقوَّتك؛ وهٰذا خاص بالله عزّ وجلّ.
واستعانةٌ بمعنى المشارَكة فيما تريد أن تَقوم به؛ فهٰذه جائزةٌ إذا كان المستعانُ به حيًّا قادرًا على الإعانة؛ لأنه ليس عِبادة؛ ولهٰذا قال اللهُ تَعَالَىٰ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىٰ} (المائدة: 2).
فإنْ قال قائل: 
وهل الاستعانةُ بالمخلوق جائزةٌ في جميعِ الأحوال؟
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادرًا عليها؛ وأمّا إذا لم يكن قادرًا فإنه لا يجوز أن تَستعينَ به.
كما لو استعان بصاحبِ قبرٍ؛ فهذا حرام، بل شِرْك أكبر؛ لأن صاحِبَ القبر لا يُغني عن نفسِه شيئًا؛ فكيف يُعِينُهُ؟!
وكما لو استعان بغائبٍ في أمرٍ لا يَقْدِر عليه، مِثْلَ أن يَعتقد أنّ الوَلِيَّ الذي في شَرْقِ الدُّنيا يُعِينُهُ علىٰ مهمته في بلده: فهٰذا أيضًا شِرْكٌ أكبر؛ لأنه لا يَقْدِر أن يُعِينَهُ وهو هناك.
فإنْ قال قائل
هل يجوز أن يَستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانتُه به؟
فالجواب: الأَولىٰ أن لا يَستعين بأحدٍ إلا:
عند الحاجة.
أو إذا عَلِمَ أنّ صاحِبَه يُسَرُّ بذٰلك، فيَستعين به مِن أجْلِ إدخالِ السُّرورِ عليه.
وينبغي لِمَن طُلِبَتْ منه الإعانةُ علىٰ غيرِ الإثمِ والعدوانِ أن يَستجيب لذٰلك" اﻫ.