الصفحات

هل تُكفِّر الصلواتُ الخمسُ الكبائرَ أيضًا؟

الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعده، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديه
أمَّا بعد
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟»
قَالُوا: لَا يَبْقَىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ:
«فَكذَٰلِكَ(1) مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»(2).
رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
ورواه ابن ماجه من حديث عثمان.
(الدَّرَنَ): بفتْحِ الدال المهْمَلة والراءَ جميعًا: هو الْوَسَخُ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ(3)».
رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
_____________________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) كذا وجُد بإقحام الكاف، وصوابُه "فذٰلك"، وهو لفظُ الحديث، وفي القرآن: ﴿ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ. نبَّه عليه الناجي.
 (2) قال ابن العربي: وَجْهُ التَّمْثِيلِ أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يَتَدَنَّسُ بِالْأَقْذَارِ الْمَحْسُوسَةِ فِي بَدَنِهِ وَثوبِهِ وَيُطَهِّرُهُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ؛ فَكَذَٰلِكَ الصَّلَوَاتُ تُطَهِّرُ الْعَبْدَ مِنْ أَقْذَارِ الذُّنُوبِ حَتَّىٰ لَا تُبْقِيَ لَهُ ذَنْبًا إِلَّا أَسْقَطَتْهُ وكّفَّرَتْهُ. واللهُ أعلمُ.
(3) أي: ما لم يؤتَ. قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ في "شرح مسلم":
"مَعْنَاهُ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلّهَا تُغْفَرُ إِلَّا الْكَبَائِرَ، فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يُغْفَرُ شَيْءٌ مِنَ الصَّغَائِر، فَإِنَّ هَٰذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَسِيَاق الْحَدِيث يَأْبَاهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللهُ: هَٰذَا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوب مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ، أَوْ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَىٰ وَفَضْلُه. واللهُ أَعْلَمُ".
قلتُ: هٰذا الحَصْرُ ينافي الاستفهامَ التقريريَّ في الحديث الذي قبله: «هَلْ يَبْقَىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» كما هو ظاهر؛ فإنه لا يُمكن تفسيرُه علىٰ أنَّ المرادَ به الدَّرّنُ الصغيرُ، فلا يَبقىٰ منه شيءٌ، وأمَّا الدَّرَنُ الكبيرُ فيَبقىٰ كلُّه كما هو! فإنَّ تفسيرَ الحديثِ بهٰذا ضَرْبٌ له في الصَّدر، كما لا يَخفىٰ. وفي الباب أحاديث أخرىٰ لا يمكن تفسيرُها بالحَصْرِ المذكور، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَم يَفْسُقْ؛ رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وسيأتي إن شاء اللهُ تَعَالَىٰ.
فالذي يبدو لي -واللهُ أعلم- أنَّ اللهَ تَعَالَىٰ زاد في تَفَضُّلِه علىٰ عِبادِه، فوَعَدَ المصلِّين منهم بأن يَغفر لهمُ الذنوبَ جميعًا وفيها الكبائرُ، بَعد أن كانتِ المغفرةُ خاصَّةً بالصَّغائر، ولعلَّ ممَّا يؤيِّد هٰذا قولَه تَعَالَىٰ: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، فإذا كانت الصغائرُ تُكفَّر بمجرَّد اجتناب الكبائر، فالفَضْلُ الإلٰهيُّ يَقتضي أن تكون لِلصَّلاة وغيرِها مِن العبادات فضيلةٌ أُخرىٰ تتميز بها علىٰ فضيلةِ اجتنابِ الكبائر، ولا يبدو أنَّ ذٰلك يكون إلا بأن تُكَفَّر الكبائرُ. واللهُ أعلمُ.
ولٰكنْ ينبغي على المصلِّين أن لا يَغترُّوا؛ فإنَّ الفضيلةَ المذكورةَ لا شكَّ أنه لا يستحقُّها إلا مَن أقام الصَّلاةَ، وأتمَّها وأَحْسَن أداءها كما أُمِر، وهٰذا صريحٌ في حديث أبي أيوبَ المتقدِّم (4- الطهارة/ آخر الباب 7) «مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ، وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ». وأنَّىٰ لِجماهير المصلّين أن يُحقِّقوا الأمْرَين المذكورَين؛ لِيَستحقُّوا مغفرةَ اللهِ وفضْلَهُ العظيمَ؟! فليس لنا إلا أن ندعوَ اللهَ أن يُعامِلنا برحْمَتِه، وليس بما نَستحقُّه بأعمالنا!".
"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 13- الترغيب في الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والإيمان بوجوبها/ 1/263 و264/ ح 352 - 354 (صحيح/ صحيح لغيره/ صحيح)).

الأربعاء 21 رمضان 1436ه.