الصفحات

المسجد الذي أُسس على التقوى من أولِ يوم

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنِ أبي سعيدٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟
فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ:
«هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا» لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
رواه مسلم والترمذي، والنسائي، ولفظه: قال:
تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَقَالَ رجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«هُوَ مَسْجِدِي هَذَا».

"صحيح الترغيب والترهيب" (11- كتاب الحج/ 14- الترغيب في الصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة / 2/ 45 و46/ ح 1176 (صحيح)).

هذا، وثمة أحاديثُ أخرى تدلُّ على أنَّ المرادَ بالمسجدِ الذي أُسس على التقوى المذكورِ في آية التوبة: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)﴾- هو مسجدُ قُباء، كما في حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾، قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ"[1]؛ فلابد مِن الجمع، وها هو كما ذكره أبي رَحِمَهُ اللهُ:
"إذا علمتَ ما تقدَّم أنَّ ظاهرَ الآيةِ وسببَ النزول يفيد أنه مسجدُ قباء، وأنَّ الحديثَ بخلافِ ذلك يفيد أنه المسجد النبويُّ؛ فلا بد مِن التوفيق بينهما، فقال ابن كثير:
"ولا منافاة بين الآية وبين هذا؛ لأنه إذا كان مسجدُ قباءٍ قد أُسِّس على التقوى مِن أول يومٍ؛ فمسجدُ رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطريقِ الأولى والأحرى".
وكأنه مِن كلام شيخه ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ؛ فقد قال في "تفسير سورة الإخلاص" (ص 172):
"قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاءً كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ : ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، وَكَانَ مَسْجِدُهُ هُوَ الْأَحَقَّ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» يُرِيدُ أَنَّهُ أَكْمَلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاء، وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ أَيْضًا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَبِسَبَبِهِ (كذا) نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَلِهَذَا قَالَ : ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، وَكَانَ أَهْلُ قُبَاءٍ مَعَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، وَتَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْ جِيرَانِهِمُ الْيَهُودِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَاكَ [هُوَ] الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى دُونَ مَسْجِدِهِ، فَذَكَرَ [أَنَّ] مَسْجِدَهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَسَّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَوْلُهُ : ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى يَتَنَاوَلُ مَسْجِدَهُ وَمَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، بِخِلَافِ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ ".
وقد ذهب إلى هذا الجمعِ الحافظُ ابن حجر ونَقَل نحوَه عن الداودي والسهيلي وغيرِهما، وهو الحق الذي يجب المصيرُ إليه؛ لأنَّ خلافَه يَلزم منه إمَّا ردُّ ما أفاده القرآنُ مِن أجْلِ الحديثِ، أو العكس، وكلٌّ مِن الأمْرَين خطأ، بل ضلال، وقد قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»" اﻫ المراد من "الثمر المستطاب" (2/ 540 و 541).

السبت 18 ذي الحجة 1438هـ



[1] - رواه أبو داود، وفي إسناده ضعف، وصحَّحه الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- لشواهده، يُنظر "صحيح أبي داود" الأمّ (1/ 74 -76)، و"الإرواء" (1/ 48 و85).