الصفحات

مُقارَنةٌ بين: (الدُّعاءُ هو العبادة) و (الدُّعاءُ مُخُّ العبادة)


بسم الله الرَّحمٰن الرَّحيم
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتمِ رسلِ اللهِ
أمّا بعد، فهٰذان حديثان مشهوران، أخرجهما الحافظ الترمذي في "سننه" على التوالي:
(3371 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ».
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هٰذَا الوَجْهِ، لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
3372 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ».
ثُمَّ قَرَأَ:
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60).
هٰذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مَنْصُورٌ، وَالأَعْمَشُ، عَنْ ذَرٍّ، وَلا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ذَرٍّ).
فأمّا الأول -حديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فضعَّف الوالدُ إسنادَه بابنِ لهيعة؛ كما في "هداية الرواة" (2/ 409)، وقال في "أحكام الجنائز" -ط الأولىٰ للطبعة الجديدة/ المعارف- ص247 بعد ذكر حُكم الحافظِ الترمذي (هٰذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هٰذَا الوَجْهِ، لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ):
"قلتُ: وهو ضعيفٌ؛ لِسُوءِ حِفْظِه، فيُستَشهَد بِِه، إلا ما كان مِن رِوايةِ أَحَدِ العَبادِلة عنه، فيُحْتَجُّ به حينئذ، وليس هٰذا منها، لٰكنّ مَعناه صحيحٌ بدليلِ حديثِ النُّعمان" اﻫ.
وأمّا الثاني -حديث النُّعمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فصحيح، كما في "صحيح الترغيب والترهيب" (1627).
وقد ذَكَرَ -الوالدُ رَحِمَهُ اللهُ- هٰذين الحديثَين خلال شرحه للحديث القدسيِّ ذي الرقم (3382) مِن "صحيح الترغيب والترهيب"، والذي أوَّلُه:
«قال اللهُ تَعَالَىٰ: يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي؛ غَفَرْتُ لَكَ عَلَىٰ مَا كَانَ فِيكَ[1]، وَلا أُبَالِي».
وهٰهنا جزءٌ مِن هٰذا الشرح مما فيه النقطةُ المرادَة، كما أن فيه فائدةً في مسألةِ حُكمِ تقسيمِ الإسلامِ إلىٰ لُبٍّ وقشور، بما له صلةٌ بالمقصود:
قال رَحِمَهُ اللهُ وضَاعَفَ حَسَناتِهِ:
"هٰذا الحديث فيه ترغيبٌ للمسلم علىٰ أن يكون دائمًا ظنُّه باللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنًا، راجيًا منه أن يُعاملَه بفضلِه، وأن لا يُعاملَه بعَدْلِه تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، ولٰكنْ هنا شيء؛ يقول:
«مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي».
هٰذا الشيء ينبغي أن نقف عنده وأن نُدندن حولَه شيئًا قليلاً:
«مَا دَعَوْتَنِي» فيجب أن نَعْلَم أنَّ توجُّهَ المسلمِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَضرِّعًا خاشعًا بين يديه في دعائه- هو مِن أعظمِ العبادات التي جاء بها الإسلام، كما قال ربُّنا عَزَّ وَجَلَّ في القرآن:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60)، قال علماءُ التفسير -بناءً على الحديثِ الصحيح[2]-:
{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دُعائي.
ذٰلك لأن استِنكافَ الإنسانِ عن دعاءِ الله عَزَّ وَجَلَّ هو استكبارٌ عليه، واستغناءٌ عن رحمتِه ومغفرتِه، وهٰذا لا يَفعله إلا أَكْفَرُ الكافِرين، ولذٰلك؛ استَشْهَد عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بهٰذه الآيةِ علىٰ قولِه حين قال:
«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»، وتلا هٰذه الآيةَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) إلىٰ آخرِها.
وليس صحيحًا هٰذا الحديثُ باللفظِ المشهورِ علىٰ ألسنةِ الناس:
(الدُّعاءُ مُخُّ العبادة).
هٰذا ليس صحيحًا.
وإنما الصحيحُ الثابتُ عنِ الرسولِ عَلَيْهِ السَّلامُ هو اللفظُ الأول:
«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»
وهٰذا أبْلَغُ[3] مِن اللفظِ الضعيفِ غيرِ الصحيح، بخلافِ ما يظنُّه بعضُ الناس؛ لأنّ قولَه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ:
«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»
هو علىٰ وِزَانِ أو نحو قولِه:
«الحَجُّ عَرَفَة».
يعني: كأنّ العبادةَ كلَّها هي الدعاء، وكأنَّ الحجَّ كلَّه هو الوقوفُ بعرفة.
فهٰذه مبالَغة عظيمة جدًّا في تقديرِ وزْنِ الدعاء مِن حيث كونِه عِبادة، [وفي تقديرِ وزنِ الوقوف بعرفة مِن حيث كونِه][4] رُكنًا أساسيًّا في الحج.
وليس كذٰلك الحديث الضعيف: (الدُّعاءُ مُخُّ العِبادةِ)؛ فهو يَجعل العبادةَ قِسمَين:
مُخًّا.
وقِشْرًا!
وكان هٰذا بلاءً لكثيرٍ مِن الناس اليوم في هٰذا العصر، حينما تلفِتُ نَظَرَه إلىٰ بعض الأمور الهامّة، إمّا أن يكون مما أمرَ اللهُ أو رسولُه بها، أو نَهىٰ عنها؛ يقول لك:
(يا أخي! اتركونا مِن القشور هٰذه!).
شيءٌ جاء به ربُّ العالمين، وتَحدَّث به رسولُه الكريم؛ يوصَف بأنه قِشْرٌ؛ أولاً!
وبناءً علىٰ هٰذا الوصف الباطل؛ يقال: دَعُونا منه؛ ثانيًا!
هٰذا انحرافٌ عن الإسلام خطير جدًا.
لذٰلك؛ نحن لا نُسلِّم بأنَّ في الإسلامِ قِشْرًا ولُبًّا، وإنْ كُنّا نَعْرِف أنّ أحكامَ الإسلام ليست تُسَاقُ مَسَاقًا واحدًا، هٰذا لا شَكَّ فيه، لأننا نعرف مثلاً أنَّ هناك فيما يَتقرَّب به الإنسانُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ما هو فَرْض، وما هو نَفْل، هٰذا الفرْض إذا قَصَّر فيه؛ عُذِّب يومَ القيامة بمقدارِ تَقصيرِه فيه، ومقابلَ هٰذا الفرْضِ: النَّفْلُ، فإذا لم يأتِ بشيءٍ مِنَ النَّفْل؛ لا يؤاخَذ عليه.
كذٰلك هناك محرَّمات وهناك مكروهات، يوجد هٰذا التفاوت، لٰكن لا يَصحّ أن نُسمّيَ أقلَّ حُكمٍ مرغوبٍ فيه إسلاميًّا بأنه (قِشْر)؛ لأنَّ هٰذا اللفظَ فيه إهانةٌ لِهٰذا الحُكمِ الشرعيِّ مهما كان خَطْبُه يَسِيرًا، كيف لا وقد ذَكَرْتُ لكم مرارًا وتكرارًا قولَه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ:
(أولُ ما يحاسَب [به] العبدُ يوم القيامة: الصلاة، فإن تمت فقد أفلح وأَنْجَح، وإن نقصتْ؛ فقد خَاب وخسِر)، وفي الحديث الآخَر عن أبي هريرة:
(فإنْ نقصت قال الله عَزَّ وَجَلَّ لملائكته: انظروا هل لِعبدي مِن تَطوُّع فتُتِمُّوا له به فريضتَه)[5].
إذًا؛ هٰذا التطوُّع هو إنْ كان هناك حُكْمٌ في الشَّرع يَصِحُّ ويَجوز للمسلمِ أن يُسمِّيَه قشرًا؛ فهو هٰذا التطوّع؛ لأنك لو تركتَه؛ ما عليك مِن مسؤوليةٍ يومَ القيامة، لٰكنْ:
لم يأتِ هٰذا الاصطلاح؛ أولاً.
وثانيًا: رأيتم قيمةَ هٰذا التطوُّعِ الذي قد يُسمِّيه -بدون أيِّ مُبالاة- بعضُ الناس اليوم: قِشرًا؛ إنَّ قِيمتَه: أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُتَمِّمُ نَقْصَ الفريضةِ التي يكون المسلِمُ المكلَّفُ بها قد قَصَّرَ فيها:
إمّا كَمًّا، أي مِن حيث الأداء؛ فقد فاته كثيرٌ مِن الفرائضِ.
وإمّا كيفًا، أي مِن حيثُ صورةُ الأداءِ، فهو قد يَستعجل في صلاته، قد يَنْقُرُها نَقْرَ الغُراب، قد لا يَخشع فيها إلا قليلاً.. إلخ، فهٰذه النّواقِص كلُّها تُستدرَك مِنَ التطوُّع.
إذًا؛ ليس في الإسلام شيءٌ يصحُّ أن نسمِّيَه قِشرًا.
علىٰ أنني أقول لِمِثل هٰؤلاء الناس الذين انحرفوا في فَهْمِ الإسلام بعيدًا، فجعلوه قسمين لُبًّا وقِشرًا؛ نقول:
لا يُمكِنُ المحافَظةُ على اللُّبِّ إلا بِسَلامةِ القِشْر!
فإذًا؛ لا بد مِن هٰذا القِشْر، إنْ صحّ تَسميتُه!
وهٰذه حقيقةٌ نَلمسها في الأمور المادّيّة.
إذًا؛ الإسلام -يمكن أن يقال- له سِياج يُحيط بالإنسان ويَحفظه، وهٰذا مما جاء الإشارةُ إليه في حديثِ النُّعمان بن بَشير[6]، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«إنَّ الحلالَ بيِّنٌ، والحرامَ بَيِّنٌ، وبينهما أُمورٌ مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُها كثيرٌ مِن الناس، فمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ فقدِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُه، ألا ومَن حَام حولَ الحِمَىٰ يوشِكُ أن يَقَعَ فيه».
أيْ هٰذه الأمور المتشابهة التي تُشْكِلُ علىٰ بعضِ الناس، فلا يَظهَر له أَهِيَ مِنَ المحرَّمات أم مِن الْمُحَلَّلات؟ فعليه أن يَجْتنبَها؛ لأنّ (مَن حَام حولَ الحِمَىٰ يوشِكُ أن يَقَعَ فيه).
إذًا؛ «ما دَعَوتَنِي» فالدعاءُ هنا هو العِبادة، كما سمعتمُ في حديث الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، فيجب على المسلم أن يكون دائمًا مُتَوجِّهًا بقَلبهِ وقالَبه إلىٰ ربِّه عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُوه أن يَغفِرَ له" اﻫ المرادُ مِن كلام الوالد رَحِمَهُ اللهُ، مِن "شرح الترغيب والترهيب" (الشريط 70/ أواخر الوجه ب)، وهٰذا المقطع منه في الشبكة والبرامج ضِمْن ما يُسمىٰ بالمتفرِّقات (الشريط 294/ الدقيقة الأولىٰ).

           خُلاصة المقارَنة بين الحديثَين:             
1- مِن حيث السند:
«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»: صحيح.
(الدُّعَاءُ مُخُّ العِبادةِ): ضعيف.
2- مِن حيث المتن:
الأول أَبْلَغُ مَعنًى مِن الثاني.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
سُكينة الألبانيّة
3 ذي القعدة 1433ﻫ


[1] - قرأها الوالدُ في هٰذا الدرس: (مِنْك)؛ لأنها كذٰلك في الأصل، وأَنقل هنا تعليقَه -رَحِمَهُ اللهُ- علىٰ هٰذه اللفظة:
"الأصل ومطبوعة عمارة والثلاثة المعلِّقين: (منك)، وكذٰلك وقع فيما تَقَدَّم، وفي "الجامع الصغير" وغيره، وهو مخالفٌ لِما أثبتناه نقلاً عن "الترمذي" (3534) وغيره، ولشاهد له من حديث أبي ذرٍّ، وهو مُخَرَّج مع حديث الباب في "الصحيحة" (127)، وقد نَبَّه علىٰ هٰذا الخطأ الناجي رَحِمَهُ اللهُ" اﻫ مِن "صحيح الترغيب والترهيب" (3/ 322)، وقوله -رَحِمَهُ اللهُ- (فيما تَقَدَّم) يعني الحديث الذي رقمه (1616) من "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 270).
[2] - أي: حديث «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ».
[3] - وكذا قال -رَحِمَهُ اللهُ- في تعليقه على الحديث في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1/ 505).
[4] - عدَّلتُ العبارةَ لِتكون -إن شاء الله- أقربَ إلىٰ مقصِد أبي رَحِمَهُ اللهُ.
[5] - روى الحافظ الترمذي في "سننه" (413) عنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ: صَلاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ؛ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ؛ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَىٰ ذٰلِكَ». وصحَّحه الوالد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ.
[6] - متفق عليه، وهو في "صحيح البخاري" (52)، و"صحيح مسلم" (1599).