الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وإخوانِه المتَّبِعين.
أمَّا بعد:
قال العلامة السعدي
رَحِمَهُ اللهُ:
"ومن ذلك: دعاءُ سليمان عليه السلام:
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)﴾ [النمل]
فتوسَّل
إلى الله بربوبيَّته، وبنعمته عليه وعلى والديه؛ أن يُوْزِعَهُ أي: يُلْهِمَه ويوفِّقَه
لِشكرِها، بالاعتراف بها، ومحبتِه لله عليها والثناءِ عليه، والإكثارِ مِن ذكره، وأن
يوفِّقَه عملًا صالحًا يرضاه -ويَدخل
في هذا جميعُ الأعمالِ الصالحةِ ظاهرِها وباطنِها- وأن يُدخلَه برحمته في جملةِ عِبادِه
الصالحين.
وهذا
الدعاءُ شاملٌ لخيرِ الدنيا والآخرة.
ومثلُ
هذا:
دعاءُ
الذي بَلَّغه اللهُ أشُدَّه وبلَّغه أربعين سَنة، ومَنَّ عليه بالإنابة إليه
فقال:
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(15)﴾ [الأحقاف]
فتوسَّل
بـ:
▪ ربوبيَّة ربِّه له.
▪ وبنعمتِه عليهِ وعلى والديه.
▪ وبالتزامِ تَرْكِ ما يَكرهه ربُّه بالتوبة.
▪ وفِعل ما يحبُّه بالإسلام.
▫ أن يمُنَّ عليه بالشكر المتضمِّن لِاعترافِ القلب
وخضوعِه ومحبتِه للمُنعِم، والثناءِ على الله مطلقًا ومقيدًا.
▫ وأن يوفِّقَه لِما يحبُّه اللهُ ويرضاه.
▫ ويُصلحَ له في ذريَّتِه.
فهذا
دعاءٌ محتوٍ على صلاحِ العبد، وإصلاحِ اللهِ له أمورَه كلَّها، وإصلاحِ ذريَّتِه في
حياته وبعد مماته، وهو دعاءٌ حقيقٌ بالعبد -خصوصًا إذا بلغ الأربعين- أن يداوِم عليه
بِذُلٍّ وافتقار؛ لعله أن يَدخل في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ
أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)﴾ [الأحقاف]" اﻫ من "المواهب
الربانية" (ص 133-135، ط3، 1428، دار المعالي).
فائدة في شكر اللهِ على نِعَمِهِ على الوالدَين
قال الوزير ابن هبيرة -رَحِمَهُ
اللهُ- في قوله تعالى: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾:
"هذا
مِن تَمَامِ بِرِّ الوالدَين، كأنَّ هذا الوَلَدَ خافَ أن يَكونَ والِداهُ قَصَّرا
في شُكْرِ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَسَألَ اللهَ أن يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ على ما
أَنْعَمَ به عليهِ وعليهما؛ لِيقُومَ بما وَجَبَ عليهما مِن الشُّكْر إنْ كانا قَصَّرا"
اﻫ من "الذيل
على طبقات الحنابلة" (2/147، ط1، 1425، مكتبة العبيكان).
أمَّا العلامة السعدي فقال:
"﴿أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ أي: نِعَمِ الدِّينِ
ونِعَمِ الدُّنيا، وشُكْرُه بِصَرْفِ النِّعَمِ في طاعةِ مُسْدِيها ومُوليها، ومقابلةِ
مِنَّتِه بالِاعترافِ والعجزِ عن الشُّكرِ والاجتهادِ في الثناءِ بها على الله. والنِّعَمُ
على الوالدَين نِعَمٌ على أولادِهم وذرِّيتِهم؛ لأنهم لا بد أن يَنالَهم منها ومِن
أسبابها وآثارها، خصوصًا نِعَمُ الدِّين؛ فإنَّ صلاحَ الوالدَين بالعِلم والعمل مِن
أعظمِ الأسبابِ لِصلاحِ أولادهم" اﻫ من "تيسير الكريم الرحمٰن" (ص781، ط1،
1421هـ، مؤسسة الرسالة).
فائدة في معنى ﴿أَوْزِعْنِي﴾
جاء في "مجمل
اللغة" لابن فارس رَحِمَهُ اللهُ:
"وزع:
وَزَعْتُ الرَّجُلَ عنِ الأمرِ: كَفَفْتُه، وفي كتاب الله - جَلَّ وَعَزَّ-: ﴿فَهُمْ
يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 17]، أي: يُحْبَسُ أوَّلُهم على آخِرِهم.
وأَوْزَعَهُ
اللهُ الشُّكْرَ: أَلْهَمَهُ إيَّاه.
ويقال:
هو من أُوزِعَ بالشيء، إذا أُوْلِعَ به، كأنَّ اللهَ تعالى يُوزِعُه بِشُكْرِه" اﻫ من "مجمل
اللغة" (ص924، ط2، 1406، مؤسسة الرسالة).
وجمعها العلامة ابن القيم
-رَحِمَهُ اللهُ- فقال:
"..
فقد دار معنى اللفظةِ على معنى:
q ألْهِمْني ذلك.
q واجعلني مُغْرًى به.
q وكُفَّني عمَّا سواه" اﻫ من " شفاء العليل" (ص 123 ،
ط دار التراث).
هذا؛ ومعلومٌ أنَّ الشُّكرَ
يكون بالجوارح كما يكون بالقلب واللسان، فهذا الدعاءُ مَطلبُ مَن أراد أن يكون
-حقًا- مُلهَمًا شُكرَ اللهِ تعالى، مُوَفَّقًا إلى سُبُله، مُغْرًى به مُوْلَعًا بأنواعه، غيرَ
غافِلٍ عنه، بل هو بِشُكْرِهِ مكفوفٌ عن الغفلةِ والكُفران!
الخميس 20 رمضان
1438هـ