الصفحات

ما جاء فيمن لم يُضَحِّ مع القدرة

الحمدُ لله وَحدَه، والصَّلاة والسَّلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعدَه، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديَه.
أمَّا بعد:
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
 الترغيب في الأضحية، وما جاء فيمن لم يضحِّ مع القدرة، ومَن باع جلد أضحيته.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ وَجَدَ سَعَةً لِأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضَحِّ؛ فَلَا يَحْضُرْ مُصَلَّانَا».
رواه الحاكم مرفوعًا هكذا وصحَّحه، وموقوفًا، ولعلَّه أشبه[1]. 
وعن أبي هريرة -أيضًا- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ».
رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
(قال الحافظ): "في إسناده عبد الله بن عيّاش القِتْبَاني المصري، مختلف فيه، وقد جاء في غير ما حديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النهيُ عن بيعِ جلد الأضحية (1).
__________
[تعليق أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) قال الناجي: "لا أستحضر الآن في هذا المعنى غير الحديث المذكور من طريق عبد الله، وقد رواه ابن جرير من طريقه موقوفًا على أبي هريرة. لكنْ في "مسند الإمام أحمد" من حديث  قتادة بن النعمان أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قام -أي خطيبًا-، فقال: (لا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوها). [قلت: في إسناده (4/ 15) عنعنة ابن جريج. قال:] وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سئل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن جلود الضحايا؟ فقال: (تصدقوا بها ولا تبيعوها)، وهذا مرسل ضعيف". كذا في "العجالة" مختصرًا (127/ 1 - 2).

"صحيح الترغيب والترهيب" (10- كتاب العيدين والأضحية/ 3- الترغيب في الأضحية، وما جاء فيمن لم يُضَحِّ مع القدرة، ومَن باع جلد أضحيته/ 1/ 629 و630/ ح 1087 و1088 (حسن)).

فائدة
في ردِّ أبي على الاستدلال بحديث
((وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ))
على عدم وجوب الأضحية

يقول أبي -رَحِمَهُ اللهُ- بوجوب الأضحية على المقتدر، وحديثُ أبي هريرة -أعلاه- مِن أدلته، وفيما يلي ردُّه -رَحِمَهُ اللهُ- على الاستدلال على عدم وجوبها بحديث أمِّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»[2]:
سئل رَحِمَهُ اللهُ: عَلامَ استقرَّ رأيُكم في مسألةِ الأضحية: أواجبةٌ هي أم سُنَّة؟ فإن كانت سُنَّة فكيف نصنع بحديث أمِّ سلمة في مسلم ولفظه: «إِذَا دَخَلَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ»؛ عِلمًا بأن الصنعاني نقل عن الشافعي قوله: وتفويضُ الأمر إلى الإرادة مشعرٌ بعدم الوجوب؟
فأجاب:
 "الواقع أن هذه شُبهة ليس لها قيمة من ناحية النصوص الشرعية، «وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ». نحن نقول: نسبةُ الأمرِ إلى إرادةِ الإنسان له علاقةٌ كبيرة جدًا بموضوعنا السابق[3]، أي: إنّ الإنسان مكلَّفٌ بالعبادة وبالطاعة، فهو عليه أن يريدَها، وأن يَعملها وينهَض بها، فإذا لم يُرِدْها؛ فليس اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بالذي يَفرض ذلك عليه فرضًا، ويقْسِرُه على ذلك قَسْرًا، لا.
فالنكتةُ هنا في أنه نَسب حكمَ مَن أراد أن يضحي إلى إرادة الإنسان هو هذه الناحية.
وهذا واضح جدًّا في نفس القرآن الكريم: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)﴾ [التكوير]، إذًا: الاستقامة على هذا الفهم -مع الأسف أن هذا الفهم نُسِبَ إلى بعض الأئمّة-، يَنتج قياسًا على هذا الفهم أنَّ الاستقامةَ غيرُ واجبة، لماذا؟ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ نَسَبَها إلى مشيئتنا! كلُّ شيءٍ أَمَرَنا به فلا بد للقيام به من مشيئتنا وإرادتنا في ذلك، ولذلك قلنا -قبل أن نَعرف ما ادُّخِر لنا وما خُبِّئ لنا مِن مِثل هذا السؤال- قلنا: إن الإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالبحث ليس في الإرادة الكونية، وإنما في الإرادة الشرعية، يجب أن تفعل، وإن لم تفعل انتقل الأمرُ مِن الإرادةِ الشرعيةِ إلى الإرادةِ الكونية؛ لأنه لا يقع شيءٌ في هذا الكون رغمًا عن الله عَزَّ وَجَلَّ، فهنا لَمَّا قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)﴾ [التكوير] لماذا نَسَبَ الاستقامةَ إلى المشيئة؟ لأن بها رُبطت التكاليف الشرعية كلُّها.
ومثال على هذا الذي نقوله، وإن كانت الآيةُ كافيةً في ذلك وشافية، ولكنْ على سبيل التفريع: قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَن أَرَادَ الحَجَّ [فَلْيَتَعَجَّلْ]»[4]، أيضًا نسب الإرادة هنا للإنسان في ماذا؟ في الحج الذي هو من أركان الإسلام الخمسة، فهل معنى ذلك أن الحج غير واجب؟ الجواب: لا، لكنْ كلُّ واجبٍ لا بد له مِن إرادةٍ تَصْدر مِن هذا الإنسان لِيصبح مكلَّفًا، وإلا إذا كان لا إرادةَ له؛ فلا تكليفَ عليه، ولذلك؛ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» -كما تعلمون في الحديث الصحيح-: «عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ»[5]" اﻫ من "فتاوى سوريا" الشريط 79/ الدقيقة 55.


الثلاثاء 4 ذي الحجة 1437 ﻫ



[1] - الحديث قوّاه الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- مرفوعًا وموقوفًا، كما في "التعليقات الرضية" (3/126). وأحال إلى التعليق الرغيب -لم يُطبع بعد، والله المستعان-.
[2] - "صحيح مسلم" (1977).
[3] - تكلم الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- في جواب سؤالٍ سابقٍ (د 46) عن الإرادةِ وقِسمَيها: الكونية والشرعية.
[4] - رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وحسّنه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "صحيح أبي داود" الأمّ (1522).
[5] - ورد من طريق عائشة وغيرها رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين، وهذا لفظها في "السنن الكبرى" للبيهقي، وصحَّحه أبي في "إرواء الغليل" (297).