الصفحات

ما جاء فيمن لم يُضَحِّ مع القدرة

الحمدُ لله وَحدَه، والصَّلاة والسَّلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعدَه، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديَه.
أمَّا بعد:
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
 الترغيب في الأضحية، وما جاء فيمن لم يضحِّ مع القدرة، ومَن باع جلد أضحيته.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ وَجَدَ سَعَةً لِأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضَحِّ؛ فَلَا يَحْضُرْ مُصَلَّانَا».
رواه الحاكم مرفوعًا هكذا وصحَّحه، وموقوفًا، ولعلَّه أشبه[1]. 
وعن أبي هريرة -أيضًا- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ».
رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
(قال الحافظ): "في إسناده عبد الله بن عيّاش القِتْبَاني المصري، مختلف فيه، وقد جاء في غير ما حديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النهيُ عن بيعِ جلد الأضحية (1).
__________
[تعليق أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) قال الناجي: "لا أستحضر الآن في هذا المعنى غير الحديث المذكور من طريق عبد الله، وقد رواه ابن جرير من طريقه موقوفًا على أبي هريرة. لكنْ في "مسند الإمام أحمد" من حديث  قتادة بن النعمان أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قام -أي خطيبًا-، فقال: (لا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوها). [قلت: في إسناده (4/ 15) عنعنة ابن جريج. قال:] وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سئل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن جلود الضحايا؟ فقال: (تصدقوا بها ولا تبيعوها)، وهذا مرسل ضعيف". كذا في "العجالة" مختصرًا (127/ 1 - 2).

"صحيح الترغيب والترهيب" (10- كتاب العيدين والأضحية/ 3- الترغيب في الأضحية، وما جاء فيمن لم يُضَحِّ مع القدرة، ومَن باع جلد أضحيته/ 1/ 629 و630/ ح 1087 و1088 (حسن)).

فائدة
في ردِّ أبي على الاستدلال بحديث
((وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ))
على عدم وجوب الأضحية

يقول أبي -رَحِمَهُ اللهُ- بوجوب الأضحية على المقتدر، وحديثُ أبي هريرة -أعلاه- مِن أدلته، وفيما يلي ردُّه -رَحِمَهُ اللهُ- على الاستدلال على عدم وجوبها بحديث أمِّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»[2]:
سئل رَحِمَهُ اللهُ: عَلامَ استقرَّ رأيُكم في مسألةِ الأضحية: أواجبةٌ هي أم سُنَّة؟ فإن كانت سُنَّة فكيف نصنع بحديث أمِّ سلمة في مسلم ولفظه: «إِذَا دَخَلَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ»؛ عِلمًا بأن الصنعاني نقل عن الشافعي قوله: وتفويضُ الأمر إلى الإرادة مشعرٌ بعدم الوجوب؟
فأجاب:
 "الواقع أن هذه شُبهة ليس لها قيمة من ناحية النصوص الشرعية، «وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ». نحن نقول: نسبةُ الأمرِ إلى إرادةِ الإنسان له علاقةٌ كبيرة جدًا بموضوعنا السابق[3]، أي: إنّ الإنسان مكلَّفٌ بالعبادة وبالطاعة، فهو عليه أن يريدَها، وأن يَعملها وينهَض بها، فإذا لم يُرِدْها؛ فليس اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بالذي يَفرض ذلك عليه فرضًا، ويقْسِرُه على ذلك قَسْرًا، لا.
فالنكتةُ هنا في أنه نَسب حكمَ مَن أراد أن يضحي إلى إرادة الإنسان هو هذه الناحية.
وهذا واضح جدًّا في نفس القرآن الكريم: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)﴾ [التكوير]، إذًا: الاستقامة على هذا الفهم -مع الأسف أن هذا الفهم نُسِبَ إلى بعض الأئمّة-، يَنتج قياسًا على هذا الفهم أنَّ الاستقامةَ غيرُ واجبة، لماذا؟ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ نَسَبَها إلى مشيئتنا! كلُّ شيءٍ أَمَرَنا به فلا بد للقيام به من مشيئتنا وإرادتنا في ذلك، ولذلك قلنا -قبل أن نَعرف ما ادُّخِر لنا وما خُبِّئ لنا مِن مِثل هذا السؤال- قلنا: إن الإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالبحث ليس في الإرادة الكونية، وإنما في الإرادة الشرعية، يجب أن تفعل، وإن لم تفعل انتقل الأمرُ مِن الإرادةِ الشرعيةِ إلى الإرادةِ الكونية؛ لأنه لا يقع شيءٌ في هذا الكون رغمًا عن الله عَزَّ وَجَلَّ، فهنا لَمَّا قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)﴾ [التكوير] لماذا نَسَبَ الاستقامةَ إلى المشيئة؟ لأن بها رُبطت التكاليف الشرعية كلُّها.
ومثال على هذا الذي نقوله، وإن كانت الآيةُ كافيةً في ذلك وشافية، ولكنْ على سبيل التفريع: قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَن أَرَادَ الحَجَّ [فَلْيَتَعَجَّلْ]»[4]، أيضًا نسب الإرادة هنا للإنسان في ماذا؟ في الحج الذي هو من أركان الإسلام الخمسة، فهل معنى ذلك أن الحج غير واجب؟ الجواب: لا، لكنْ كلُّ واجبٍ لا بد له مِن إرادةٍ تَصْدر مِن هذا الإنسان لِيصبح مكلَّفًا، وإلا إذا كان لا إرادةَ له؛ فلا تكليفَ عليه، ولذلك؛ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» -كما تعلمون في الحديث الصحيح-: «عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ»[5]" اﻫ من "فتاوى سوريا" الشريط 79/ الدقيقة 55.


الثلاثاء 4 ذي الحجة 1437 ﻫ



[1] - الحديث قوّاه الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- مرفوعًا وموقوفًا، كما في "التعليقات الرضية" (3/126). وأحال إلى التعليق الرغيب -لم يُطبع بعد، والله المستعان-.
[2] - "صحيح مسلم" (1977).
[3] - تكلم الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- في جواب سؤالٍ سابقٍ (د 46) عن الإرادةِ وقِسمَيها: الكونية والشرعية.
[4] - رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وحسّنه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "صحيح أبي داود" الأمّ (1522).
[5] - ورد من طريق عائشة وغيرها رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين، وهذا لفظها في "السنن الكبرى" للبيهقي، وصحَّحه أبي في "إرواء الغليل" (297).

سُعْدَى رضي الله عنها وأسعدها

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد:
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ جَدَّتِهِ سُعْدَى(1)📕، قَالَتْ: دَخَلتُ يَوْمًا عَلَى طَلْحَةَ(2) -تعني ابنَ عُبَيدِ الله- فَرَأَيْتُ مِنْهُ ثِقَلًا، فَقُلْتُ لَهُ:
مَا لَكَ؟! لَعَلَّكَ رَابَكَ مِنَّا شَيْءٌ فَنُعْتِبَكَ(3)؟ قَالَ:
لَا، وَلَنِعْمَ حَلِيلَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْتِ، وَلَكِنِ اجْتَمَعَ عِنْدِي مَالٌ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ؟! قَالَتْ:
وَمَا يَغُمُّكَ مِنْهُ؟! ادْعُ قَوْمَكَ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ:
يَا غُلَامُ! عَلَيَّ بِقَوْمِي.
فَسَأَلْتُ الْخَازِنَ: كَمْ قَسَمَ؟ قَالَ: أَرْبَعَمِئَةِ أَلْفٍ.
رواه الطبراني بإسناد حسن.
__________
[تعليقات أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) وهي امرأةُ طلحةَ بنِ عبيد الله رضي الله عنه، كما في الخبر نفسه عند الطبراني، اختصره المؤلفُ رحمه الله.
(2) كذا الأصل، وفي "الطبراني": "دخل عليّ يومًا طلحة". وكذا في "الحلية".
(3) أي: نعطيكَ (العُتْبَى)، وهو الرجوعُ عن الإساءةِ إلى ما يُرضي القلب.

"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/ 15- الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير/ 1/ 550/ ح 925 (حسن موقوف)).

📕 هي سُعْدَىٰ بنتُ عوف المُرِّيَّة، أُمُّ يحيى بنِ طلحة.
"روت عَن: النبيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعن زوجها طلحةَ بنِ عُبَيد الله، وعُمَرَ بنِ الخطاب.
روى عنها: ابنُ ابنِها طلحةُ بنُ يحيى بْنِ طلحة بْنِ عُبَيدِ الله، ومحمدُ بنُ عِمْران الطلحي، وابنُها يحيى بنُ طلحة بْنِ عُبَيد اللَّه"[1].
والحديثُ مِن فضائلها؛ فهذا الأدبُ في تلمُّسِها سببَ هَمِّ زوجها، وخوفِها أن يكون لها تَبعةٌ فيه، وإعلانِها -مُقدَّمًا!- أنها سترجع إلى ما يُرضِي! وهذا الزهدُ الهادي إلى هذي المشورةِ السخيَّة -مع تأمُّلِ قولها «قومك»!- لا يكون إلا من نفسٍ زكيّةٍ كريمةٍ عفيفة شاكلت نفْسَ زوجها طلحةَ إذ هو (الفَيَّاض)! رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
ويا سَعدها حين يُترجَم لها فيُذكر أنّ لها حديثًا في فضل (لا إله إلا الله)[2]!
وهو حديثٌ عظيمٌ كان حِرصُ زوجها طلحة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على العلم به سببًا لِهمِّه -أيضًا!-؛ حَزَنًا أن لا يكون عالِمًا به!
فعن يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ سُعْدَى الْمُرِّيَّةِ قَالَتْ:
"مَرَّ عُمَرُ بِطَلْحَةَ -رضي اللهُ عنهما- بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
مَا لَكَ كَئِيبًا؟ أَسَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ؟ [يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ] قَالَ:
لَا، [-وَأَثْنَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ-]، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا كَانَتْ نُورًا لِصَحِيفَتِهِ، وَإِنَّ جَسَدَهُ وَرُوحَهُ لَيَجِدَانِ لَهَا رَوْحًا عِنْدَ الْمَوْتِ».
فَلَمْ أَسْأَلْهُ حَتَّى تُوُفِّيَ! قَالَ:
أَنَا أَعْلَمُهَا، هِيَ الَّتِي أَرَادَ عَمَّهُ عَلَيْهَا، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ شَيْئًا أَنْجَى لَهُ مِنْهَا؛ لَأَمَرَهُ"[3].

"يا بَاغِيَ الإِحْسَـــــــــــــــــــــــــانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ * لِيَفُوزَ      مِنْهُ       بِغَايَهِ     الآمَالِ
انْظُرْ إلى هدْيِ الصَّحَابَةِ وَالذِي * كانُوا  عَلَيْهِ   في  الزَّمَانِ     الَخْالِي
واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا * خُذْ يَمْنَةً  ما الدَّرْبُ ذَاتَ شِمَالِ
تَاللهِ! مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهمْ سِوَى * سُبُلِ الهُدَى فى القَوْلِ وَالأفعالِ
دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ  وَهَدْيِهِ * وَبِهِ  اقْتَدَوْا  في   سَائرِ   الأحوالِ
نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِي الْهُدى * فمآلُهُ  في الَحْشْرِ  خَيْرُ  مآلِ"[4]

الإثنين 12 ذي القعدة 1437هـ



[1] - كما في "التهذيب" (35/ 195).
[2] - ينظر "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1860).
[3] - رواه ابن ماجه واللفظ له، ورواه غيرُه، كما ورد من غير طريق سُعدى، والزيادتان مِن ذلك وهما في "مسند الإمام أحمد" (1/ 161)، وينظر "صحيح سنن ابن ماجه" (3062)، و"أحكام الجنائز" (المسألة 25/ ص 48 و49 ، ط 1 للطبعة الجديدة، 1412ه، مكتبة المعارف).
[4] - العلامة ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ؛ "إغاثة اللهفان" (1/ 254 و255 - ط مصطفى البابي).

القيودُ الشديدةُ في نفْي الإثم عمَّن أكل أو شرب في مأكولِه ومشروبِه

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هديه.
أما بعد:
جاء في تفسير العلامة العثيمين -سورة المائدة (2/ 368 – 371، ط ابن الجوزي)- لقوله تبارك وتعالى وتقدّس:
﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)﴾. (المائدة) :
"... قوله ﴿فِيمَا طَعِمُوا﴾ يعمُّ كل ما له طعم في الفم من مأكول ومشروب، لكن بشروط، فليس عليهم جناح فيما طعموا بشروط:
الشرط الأول: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾.
الثاني: ﴿وَآمَنُوا﴾.
الثالث: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
الرابع: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾.
الخامس: ﴿وَآمَنُوا﴾.
السادس: ﴿اتَّقَوْا﴾.
السابع: ﴿وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾،
هذه قيودٌ سبعة، وليست متكررة، كل واحد له معنى، أو محمولة على معنى:
قوله: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ يعني: اتقوا ما حُرِّم عليهم من المأكول، وليست التقوى العامّة، بل إذا ما اتقَوا ما حُرِّم عليهم مِن المطعوم.
وقوله: ﴿وَآمَنُوا﴾ أي: آمنوا بالله؛ لأن الإيمان لا شك أنه أصلٌ في قبول الأعمال.
وقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ هذا شرط: أي: عملوا الصالحات فيما يأكلون من المباحات، فلم يستعينوا بها على محرَّم، فإن استعانوا بها على محرَّم وهي مباحة؛ صارت حرامًا؛ لأن اللهَ اشترط أن يَعملوا بها الصالحات.
قوله: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾ كلمة ﴿ثم﴾ تدل على أن هذا نوعٌ آخَر غير الأول؛ لأن العطف ولاسيما بـ(ثم) الدالة على الْمُهْلة والترتيب يدل على أن الثاني غير الأول، فيكون معنى: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾ أي: ثم استمرُّوا على تقواهم ما حُرِّم عليهم مِن هذا الطعام.
وقوله: ﴿وَآمَنُوا﴾ أي: استمرُّوا على إيمانهم، والأمرُ بالإيمانِ يصحُّ مُرادًا به الثبوتُ عليه والاستمرارُ فيه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [النساء مِن الآية: 136].
قوله: ﴿وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ هذه التقوى العامَّة، أي: اتقَوا جميعَ المحرَّمات، وأحْسَنوا بِفعل جميعِ الطاعات.
هذه الآية يمكن أن نحملها على حالَين:
الحال الأولى: حالُ مَن يَذهب إلى التقشُّف ويخشى من الترفُّه المباح، فيتجنَّب الفواكهَ واللحمَ الشهيَّ والشيءَ اللذيذَ تعبُّدًا لِلَّه، فتُحمل على مَن تورَّعوا عما أَحَلَّ اللهُ لهم خوفًا مِن الإثم، فيقال لهم: ليس عليكم جناحٌ فيما طَعمتُم إذا تمَّت هذه الشروط.
ولها محمل آخر: فيمن تُوُفُّوا قبل تحريمِ الخمر، وأيضًا قبل أن يَعلموا بِتحريمها، فهذا يَشمل مَن ليس عليهم جناح، فهم قد شربوا الخمرَ وهي في النهاية حرام، لكنْ حين شُربهم إياها، حلال؛ لأن اللهَ سبحانه وتعالى لم يحرِّمها بتاتًا إلا بعد موتهم، وإن كانت قد نزلت الآياتُ تُعَرِّض بالتحريم وتقيِّد الحِلَّ، كما في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة من الآية: 219]، وفي قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء من الآية: 43]، وهؤلاء أَشْكَلَ على الصحابةِ حالُهم لَمَّا حُرِّمت الخمر، أي: أشكل على الصحابة حالُ الذين تُوُفُّوا مِن قَبل، فأنزل اللهُ هذه الآية(1)، أنه ليس عليهم جناح؛ لأنهم لم يَنتهكوا ما حَرَّم الله، بل هم مؤمنون متَّقون محسِنون".
ثم ذكر -رَحِمَهُ اللهُ- في فوائد الآية:
"الفائدة الثالثة: القيودُ الشديدةُ في نفْي الإثم عمَّن أكل أو شرب في مأكولِه ومشروبِه. والتقوى ذُكرت في الآية ثلاث مرات، والإيمانُ مرَّتين، والإحسانُ مرَّة، قيودٌ شديدةٌ عظيمة! فاحذَرْ -يا أخي المسلم!- أن يكون في مطعومِك عليك إثمٌ لأنك لم تُتِمَّ هذه القيودَ، أسأل الله أن يُعيننا عليها" اﻫ. اللهم! آمين.
وقارئُ هذه الآية مِن سورة المائدة يستوقفه تكرارُ التقوى فيها؛ تنبُّهًا إليها، وقد ذكر العلماءُ أقوالًا في معنى هذا التكرار، وقد رأينا أحدَها أعلاه، وهاهنا نقلٌ لأخرى:
 قال الحافظ الطبري في "جامع البيان" (8/ 665، ط هجر):
"الِاتِّقَاءُ الْأَوَّلُ: هُوَ الِاتِّقَاءُ بِتَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالدَّيْنُونَةِ بِهِ وَالْعَمَلِ.
وَالِاتِّقَاءُ الثَّانِي: الِاتِّقَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى التَّصْدِيقِ وَتَرْكِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ.
وَالِاتِّقَاءُ الثَّالِثُ: هُوَ الِاتِّقَاءُ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّقَرُّبِ بِنَوَافِلِ الْأَعْمَالِ" اﻫ. 
 قال العلامة الشوكاني في "فتح القدير" (2/ 74 و75، ط مصطفى البابي):
"أَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ مَا طَعِمُوا كَائِنًا مَا كَانَ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ:
﴿إِذا مَا اتَّقَوْا﴾ أَيِ اتَّقَوْا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ كَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَجَمِيعِ الْمَعَاصِي، ﴿وَآمَنُوا﴾ بِاللَّهِ، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَهُمْ: أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى عَمَلِهَا.
قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ عَطْفٌ عَلَى ﴿اتَّقَوُا الْأَوَّلِ: أَيِ اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ مُبَاحًا فِيمَا سَبَقَ ﴿وَآمَنُوا﴾ بِتَحْرِيمِهِ.
ثُمَّ ﴿اتَّقَوْا﴾ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِمَّا كَانَ مُبَاحًا مِنْ قَبْلُ. ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ أَيِ عَمِلُوا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ.
وَقِيلَ: التَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ التَّكْرِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: الْمَبْدَأُ، وَالْوَسَطُ، وَالْمُنْتَهَى.
وَقِيلَ: إِنَّ التَّكْرَارَ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَّقِيهِ الْإِنْسَانُ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ:
- الْمُحَرَّمَاتِ؛ تَوَقِّيًا مِنَ الْعَذَابِ.
- وَالشُّبْهَاتِ؛ تَوَقِّيًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
- وَبَعْضَ الْمُبَاحَاتِ؛ حِفْظًا لِلنَّفْسِ عَنِ الْخِسَّةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)﴾ [التكاثر].
هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سبب نزول الآية.
وأما مَعَ النَّظَرِ إِلَى سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا ويأكل الْمَيْسِرَ؟ فَنَزَلَتْ(1)؛ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى:
﴿اتَّقَوْا﴾ الشِّرْكَ ﴿وَآمَنُوا﴾ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ الْكَبَائِرَ ﴿وَآمَنُوا﴾ أَيِ ازْدَادُوا إِيمَانًا.
﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ الصَّغَائِرَ ﴿وَأَحْسَنُوا﴾ أَيْ تَنَفَّلُوا" اﻫ ثم نَقَلَ كلامَ الحافظِ الطبريِّ. 
 وقال العلامة السعدي في "المواهب الربَّانيَّة" (ص33 - 35، ط المعالي):
"تأمَّلتُ في فائدة تكرار التقوى في هذهِ الآية ثلاثَ مرَّاتٍ؛ فوقع لي أحدُ وجهين:
أحدهما: أن:
الأول: للماضي.
والثاني: للحال.
والثالث: في المستقبل.
وبيانُ ذلك: أنَّ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ أنَّ (جُناح) نكرةٌ في سياق النفي؛ فتَعُمُّ الماضي والمستقبلَ والحالَ؛ لأنه نفى الجناحَ عن المؤمنين مطلقًا، وهذا النفيُ العامُّ لا يَنطبق إلا على الأحوالِ الثلاثة، ويكون هذا التكرار من مُحترَزات القرآن، التي يحترز الباري فيها عن كل حالٍ تُقَدَّر وتُمْكِن؛ لأنهم لو اتَّقَوا في الماضي أو في الحالِ أو فيهما دون المستقبل؛ لم يَصدُق عليهم نفيُ الجناح، ولا بد في كل حالةٍ مِن الأحوال التي تُقام فيها التقوى مِن الإيمان والعمل الصالح، ومِن الإيمان والإحسان؛ يُؤيِّدُ هذا الاحتمال قولُه: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 203]، فإنَّ قوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ نظيرُ قولِه ﴿جناح﴾، ولما كانت هذه الآية لا يُتَصوَّر فيها الماضي -كما هو بيِّن؛ لأنه شرط وجزاء للمستقبل، ويصلح للحال-؛ قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني في الحال، ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ اللهَ فيها، ثم ذكر ما يَصلح للمستقبل فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. فإذا قَرَنْتَ هذه بتلك؛ بانت لك فائدةُ التكرار، وأنّ ذلك لأجْلِ عموم الأزمنة.
الوجه الثاني: أن:
الأول: في مقام الإسلام.
والثاني: في مقام الإيمان.
والثالث: في مقام الإحسان.
والمؤمن لا تَكمل تقواه حتى يَترك ما حرَّم اللهُ، ولا يتمَّ دِينُه إلا بهذه الْمَقامات الثلاثة؛ لأنَّ مقامَ الإسلام يقتضي وجودَ الأعمالِ الظاهرةِ مع الإيمانِ والتقوى، فقال فيها: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ومقام الإيمان لا بد فيه من القيام بأركان الإيمان مع التقوى، فقال فيه: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾، ومقام الإحسان لا بد فيه من القيام بالإحسان مع التقوى، فقال فيه: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾، فنفي الجناح العامّ لا يكون إلا لمن قام بمقاماتِ الدِّين كلِّها.
وعلى هذين الوجهين ففي الآية الكريمة مِن بيانِ جلالةِ القرآن وعَظَمَتِه، وإحكامِ معانيه ورَصانتها، وعدمِ اختلالها واختلافها- ما يَشهد به العبدُ أنه كلامُ اللهِ حقًّا وصدقًا وعدلًا، وأنه مُحْتوٍ على أعلى رُتَبِ البلاغة التي لا يُقاربه فيها أيُّ كلامٍ كان.
وقد يُقال: إنَّ كِلا الوجهَين مُراد؛ لأنَّ اللفظَ لا يأباه، والمعنى مفتقِرٌ إليه، وطريقةُ القرآن أن يُحمَل على أعمِّ الوجوه المناسبة؛ لأنه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميد، عليمٍ بكل شيء.
واللهُ أعلمُ بِمُرادِه وأسرارِ كتابه.
اللَّهمَّ! ذكِّرْنا منه ما نُسِّينا، وعَلِّمْنا منه ما جهلنا، واجعلنا ممن يَتلونه حقَّ تلاوته" اﻫ.
اللهم! آمين.
◕ وبذلك تكون هذه الآيةُ مِن أمثلةِ القاعدة السابعة والعشرين، المتعلِّقةِ بالمحترزات في القرآن العظيم، مِن كتاب العلامة السعديّ: "القواعد الحسان"، والتي أشار -هناك- إلى أنّ أمثلتها كثيرة جدًا.
والله أعلم.
الأحد 4 ذي القعدة 1437هـ
____________
(1) عن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: "كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي: «أَلاَ إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ، فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ [المائدة من الآية: 93] الآيَةَ". رواه الشيخان وغيرهما. وهذا لفظ الإمام البخاري (2464).

«تَرَكَ كَيَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ كَيَّاتٍ»

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
[عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ][1] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ فقَالَ:
«كَمْ تَرَكَ؟».
قَالُوا: دِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ:
«تَرَكَ كَيَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ كَيَّاتٍ»(1).
رواه البيهقي من رواية يحيى بن عبد الحميد الحِمّاني.
__________
[تعليق أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) في الأصل هنا ما نصُّه: "فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْقَاسِمِ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "ذَاكَ رَجُلٌ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ تَكَثُّرًا". والحديث مخرج في "الصحيحة" (3483)[2].
"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/4- الترهيب من المسألة وتحريمها مع الغنى/ 1/ 488/ ح 801 (صحيح لغيره)).

وقال الحافظ المنذري في بابٍ آخر:
وعن أبي أمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَجُلًا تُوُفِّي على عهْدِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يُوجد له كَفَنٌ، فأُتِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:
«انظروا إلى داخِلَةِ إزاره»، فأُصيبَ دينارٌ أو ديناران، فقال:
«كَيَّتَانِ».
وفي رواية:
تُوُفِّي رجلٌ من أهل الصُّفَّة، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«كَيَّةٌ».
ثم تُوُفِّي آخر، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«كَيَّتَانِ».
رواه أحمد والطبراني من طرق، ورواة بعضها ثقات أثبات؛ غير شهر بن حوشب.
وعن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال:
تُوُفِّيَ رجُلٌ مِن أهْلِ الصُّفَّة، فوجدوا في شَمْلَتِهِ دِينارَين، فذكروا ذلك لِلنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:
«كَيَّتَانِ».
رواه أحمد، وابن حبان في "صحيحه".
(قال الحافظ): "وإنما كان كذلك؛ لأنَّه ادَّخر مع تلبُّسِه بالفقر ظاهرًا، ومشاركته الفقراءَ فيما يأتيهم مِن الصدقة. والله أعلم".
"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/ 15- الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير كرمًا، والترهيب من الإمساك والادِّخار شحًّا/ 1/ 555/ ح 935 و936 (صحيح لغيره، حسن صحيح)).

في هذا المعنى عدة أحاديث، وينظر تحقيق أبي -رَحِمَهُ اللهُ- في "الصحيحة" (2637) و(3483)، وللفائدة أنقل ما ذكره في (فقه الحديث) الثاني:
"أقول: لعل الرجل الذي جاء فيه هذا الوعيدُ الشديد: إنما كان لِأمرٍ غيرِ مجردِ تركِه دينارَين أو ثلاثة؛ لِأنّ مِثل هذا الأمرِ لا يَستحقُّ صاحبُه النارَ باتفاق العلماء، ألا تَرى إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
«إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» .
متفق عليه، وهو في «الإرواء» (3/416 و 417) .
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنجديِّ جوابًا على سؤاله: هل عليَّ غيرهن؟ قال:
«لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ».
رواه الشيخان، وهو مخرج في «صحيح أبي داود» (415)، ونحوهما في السُّنَّة كثير؟!
ومِن أبواب الإمام البخاري في «صحيحه»:
(بَابٌ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ [أَوَاقٍ] صَدَقَةٌ»). وانظر «فتح الباري» (3/271 -273) .
وعلى هذا؛ فلعلَّ الرجل كان قد: 
▫ أخلَّ بالقيام ببعض الواجبات المتعلقة بحقوق المال مثل:
- الإنفاق على العيال
- أو إطعام الجائع
- وكسوة العاري
▫ أو التظاهر بالفقر؛ كما في مرسل علقمة المزني قال:
كان أهل الصُّفَّةِ يَبيتون في المسجد، فتُوفِّي رَجُلٌ منهم، ففُتِح إزارُه، فوُجِد فيه ديناران، فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«كَيَّتَانِ».
أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (1/421/1649) .
▫ أو سؤال الناس تكثُّرًا كما تقدَّم في أثرِ مولى أبي بكر، ونحو ذلك!
والله سبحانه وتعالى أعلم" اﻫ من "الصحيحة" (7/ ق3 / 1411 و1412).
الإثنين 27 شوال 1437هـ




[1]- في الأصل: "عن مسعود بن عمرو"، ولكنْ نبَّه أبي -رَحِمَهُ اللهُ- في "صحيحته" (7/ ق3/ 1410) إلى أنَّ هذا وهمٌ وقع للحافظ المنذريّ رَحِمَهُ اللهُ.
[2]- قال فيها: "وعبد الله ابن القاسم هذا تابعيٌّ مجهول الحال، لم يوثّقه غير ابن حبان؛ فهذه الزيادة مقطوعة لا تصحّ" اﻫ.