شفاعة نبوية خاصة بمن يصبر على لأواء المدينة


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي؛ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا»
رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي؛ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا»
رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ([1]) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا؛ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا كَانَ مُسْلِمًا».
رواه مسلم.
(اللأْواء) مهموزًا ممدودًا: هي شِدَّةُ الضِّيق.
"صحيح الترغيب والترهيب" (11- كتاب الحج/ 15 - (الترغيب في سكنى المدينة إلى الممات، وما جاء في فضلها/ 2/ 50/ ح 1186 و1187 (صحيح)).

فائدة

قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللهُ:
"وقوله: « إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ »: سئلنا قديمًا عن معنى هذا، وَلِمَ خَصَّص -عليه السلام- ساكنَ المدينة بهذا مِن شفاعته، ومع ما يثبت من ادِّخاره إيَّاها لجميع أمته؟ وهل «أَوْ» هنا للشك أو لغيره؟
ولنا على هذا جواب شافع مقنع في أوراق، اعترف بصوابه كلُّ مَن وقف عليه، نَذْكر منه هنا لمعنًى تليق بالموضع:
والأظهر أن «أَوْ» هنا ليست للشك، خلافَ مَن ذهب من شيوخنا إلى ذلك؛ إذ قد روى هذا الحديثَ جابرٌ، وأبو هريرة، وابنُ عمرو، وأبو سعيد، وسعدُ بن أبي وقاص، وأسماءُ بنت عميس، وصفيةُ بنت أبي عبيد، عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا اللفظ، وبعيدٌ اتفاقُ جميعِهم أو رواتِهم على الشكِّ ووقوعُه مِن جميعِهم وتطابُقُهم فيه على صيغةٍ واحدة، بل الأظهر أنه كذا قاله النبيُّ -عليه السلام-، فإمَّا أن يكون أعلم -عليه السلام- بهذه الجملة هكذا، أو تكون «أَوْ» للتقسيم، ويكون أهلُ المدينة صنفين:
w شهيدًا لبعضهم.
w وشفيعًا لآخرين.
إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين.
أو شهيدًا لمن مات في حياته، وشفيعًا لمن مات بعده،
أو غير ذلك مما الله أعلم به، وهذه خاصية زائدة على الشفاعة للمذْنبين أو للعالمين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال -عليه السلام- في شهداء أحد: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ»، فيكون لتخصيصهم بهذا كله زيادةُ مَنزلةٍ وغِبطةٍ وحُظوةٍ.
وقد تكون «أَوْ» هنا هي التي بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شهيدًا وشفيعًا، وقد روي: " إلا كنت له شهيدًا أو له شفيعاً ".
وإذا جعلناها للشك -كما ذهب إليه المشايخ-:
§ فإن كانت اللفظة الصحيحة (الشهادة)؛ اندفع الاعتراض؛ إذ هي زائدة على الشفاعة المدَّخَرة المجرَّدة لغيرهم.
§ وإن كانت اللفظة الصحيحة (الشفاعة)؛ فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع أمته؛ أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لِإخراج أمَّته مِن النار، ومعافاةِ بعضهم منها بشفاعته في القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بـ :
¦ زيادة الدرجات.
¦ أو تخفيف الحساب.
أو ما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواعٍ مِن الكرامة والمبرَّة؛ مِن:
¦ إيوائهم في ظلِّ عرش الرحمٰن.
¦ أو كونهم في روح وعلى منابرٍ.
¦ أو الإسراع بهم إلى الجنة.
أو غير ذلك مِن خصوص المبَرَّات الواردة لبعض دون بعض في الآخرة -والله أعلم" اﻫ من "إكمال المعْلم" (4/ 482 و483، ط 1، 1419ه، دار الوفاء).

وقال الدهلوي رَحِمَهُ اللهُ:
"أَقُول: سِرُّ هذا الفضل:
¦ أنَّ عمَارَة الْمَدِينة إعلاءٌ لشعائر الدِّين؛ فهذه فائدةٌ تَرجع إلى الْمِلَّة.
¦ وأنَّ حُضُورَ تلك المَوَاضِع والحلولَ في ذلك المسجد مُذَكِّرٌ لَهُ ما كان النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه؛ وهذه فائدةٌ تَرجع إلى نفْس هذا الْمُكَلف" اﻫ من "حجة الله البالغة" (2/ 103، ط 1، 1426ه، دار الجيل).

الأحد 12 صفر 1440ه



([1]) ولتحديثه قصَّة: قال الإمام مسلم (1374): وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَيَالِي الْحَرَّةِ، فَاسْتَشَارَهُ فِي الْجَلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَشَكَا إِلَيْهِ أَسْعَارَهَا وَكَثْرَةَ عِيَالِهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى جَهْدِ الْمَدِينَةِ وَلَأْوَائِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! لَا آمُرُكَ بِذَلِكَ؛ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا، فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا».