تابع 3 / التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام

[** بيان عدم وضوح العقيدة الصحيحة ولوازمها في أذهان الكثيرين]
أريد من هذا المثال أن أبين أن عقيدة التوحيد بكل لوازمها ومتطلباتها ليست واضحة للأسف في أذهان كثير ممن آمنوا بالعقيدة السلفية نفسها ، فضلاً عن الآخرين الذين اتبعوا العقائد الأشعرية أو الماتريدية أو الجهمية في مثل هذه المسألة ، فأنا أرمي بهذا المثال إلى أن المسألة ليست بهذا اليسر الذي يصوره اليوم بعض الدعاة الذين يلتقون معنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة، إن الأمر ليس بالسهولة التي يدعيها بعضهم ، والسبب ما سبق بيانه من الفرق بين جاهلية المشركين الأولين حينما كانوا يُدْعَون ليقولوا : "لا إله إلا الله" فيأبون ؛ لأنهم يفهمون معنى هذه الكلمة الطيبة ، وبين أكثر المسلمين المعاصرين اليوم حينما يقولون هذه الكلمة ؛ ولكنهم لا يفهمون معناها الصحيح ، هذا الفرق الجوهري هو الآن متحقق في مثل هذه العقيدة ، وأعني بها علو الله عز وجل على مخلوقاته كلها ، فهذا يحتاج إلى بيان.
ولا يكفي أن يعتقد المسلم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5). "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء "
[1]، دون أن يعرف أن كلمة "في" التي وردت في هذا الحديث ليست ظرفية ، وهي مثل "في" التي وردت في قوله تعالى : {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ....} (الملك: الآيتان 15-16). ؛ لأن "في" هنا بمعنى "على" والدليل على ذلك كثير وكثير جدًا ؛ فمِن ذلك : الحديث السابق المتداول بين ألسنة الناس ، وهو بمجموع طرقه -والحمد لله – صحيح.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" ارحموا مَن في الأرض " لا يعني الحشرات والديدان التي هي في داخل الأرض ! وإنما مَن على الأرض ؛ مِن إنسان وحيوان ، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : "...يرحمكم من في السماء " ، أي : على السماء ، فمثل هذا التفصيل لا بد للمستجيبين لدعوة الحق أن يكونوا على بينة منه ، ويقرب هذا :
حديث الجارية -وهي راعية الغنم- ، وهو مشهور معروف ، وإنما أذكر الشاهد منه ؛ حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أين الله ؟" قالت له : في السماء"
[2] . لو سألت اليوم كبار شيوخ الأزهر - مثلاً - أين الله ؟ لقالوا لك : في كل مكان! بينما الجارية أجابت بأنه في السماء ، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ ؛ لأنها أجابت على الفطرة ، وكانت تعيش بما يمكن أن نسميه بتعبيرنا العصري ( بيئة سلفية) لم تتلوث بأي بيئة سيئة - بالتعبير العام -؛ لأنها تخرجت كما يقولون اليوم من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه المدرسة لم تكن خاصة ببعض الرجال ولا ببعض النساء ، وإنما كانت مشاعة بين الناس وتضم الرجال والنساء وتعم المجتمع بأكمله ، ولذلك عرفت راعيةُ الغنم العقيدة؛ لأنها لم تتلوث بأي بيئة سيئة ؛ عرفت العقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة وهو مالم يعرفه كثير ممن يدعي العلم بالكتاب والسنة.
واليوم أقول : لا يوجد شيء من هذا البيان والوضوح بين المسلمين بحيث لو سألت -لا أقول : راعية غنم، بل - راعي أمة أو جماعة ؛ فإنه قد يحار في الجواب كما يحار الكثيرون اليوم إلا مَن رحم الله، وقليل ما هم !!!

_______________


[1] - حديث صحيح، وهو مخرج في "الصحيحة" (925)
[2] - رواه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه .

انتهى من ص25 - 29 ، ويتبع إن شاء الله