مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْغَضَ إِلَيْكُمْ؟!


بسم اللهِ الرحمٰن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العرش العظيم، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ مَنِ اتَّباعُه سبيلُ حُبِّ مَولَانا البَرِّ الكريم، وعلىٰ آله وأصحابه وكلِّ تابِعٍ علىٰ الصراط المستقيم.
أمّا بعد
فعن رِفَاعَةَ بْنِ عَرَابَةَ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
صَدَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ [حَتَّىٰ إِذَا كُنَّا بِالْكَدِيدِ، أَوْ قَالَ: بِقُدَيْدٍ]، فَجَعَلَ نَاسٌ يَسْتَأِذْنُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِلىٰ أَهْلِيْهِمْ]، فَجَعَلَ يَأْذَنُ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ[1] الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْغَضَ إِلَيْكُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ؟!». قَالَ:
فَلَمْ نَرَ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا بَاكِيًا! قَالَ:
يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ:
إِنَّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُكَ بَعْدَ هَٰذَا لَسَفِيهٌ -فِي نَفْسِي-.
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ، -وَكَانَ إِذا حَلَفَ قَالَ:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ!- أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ ثمَّ يُسَدَّدُ؛ إِلَّا سُلِكَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ.
وَلَقَدْ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ مِن أُمَّتِي الْجنَّة [سَبعِيْنَ أَلْفًا] بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ تَتَبَوَّءُوا [أَنْتُمْ] وَمَنْ صَلَحَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَذَرَارِيِّكُمْ مَسَاكِنَ فِي الْجنَّة». ثمَّ قَالَ:
«إِذَا مَضَىٰ شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ [تَبَارَكَ وتَعَالَىٰ] إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُول:
لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي [أَحَدًا] غَيْرِي.
مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟!
مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟!
مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟!
حَتَّىٰ يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ».
رواه ابن حبان وغيرُه رَحِمَهُمُ اللهُ، وصحَّحه أبي علىٰ شرط الشيخين؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2405)، و"صحيح موارد الظمآن" (9)، والزيادات مِن "مسند الإمام أحمد" (4/ 16)، وجميعها مما أضافه الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- في "الموارد" إلَّا الأولىٰ.
حديثٌ جليلٌ عظيمٌ مِن (صَدْره) إلى انفجار (صُبْحِه)!
وقد اعتنتْ به جُموعٌ مِن العلماء -جزاهم الله خيرًا-؛ استدلالًا علىٰ مسائلَ عظيمةٍ في عقيدتنا السلفيَّة، مثلَ مسألةِ نُزولِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ إلى السماء الدنيا.
أَمَّا هٰذا السؤال الباهِر الْمَهِيب، الآسِر الرَّهيب؛ فقد طالما تمنَّيتُ أن أَجِدَ شرحًا له، أو تعليقًا عليه، أو تنويهًا به، أو تبويبًا يومي إليه! ولا شكّ أن البئر ثرٌّ غزير، إنما رشاءُ عِلْمي وبحثي قصير![2]
ولٰكنْ قد مَنّ اللهُ بقَطرٍ مِن سماء جُودِه وهو العليُّ القدير، كُليماتٍ مِن عالمٍ نحرير، برَّدَتْ مِن تلك الأُمنيةِ بعضَ الغُلَّة، وأعطتْ بستانَها طيِّبَ الغَلَّة!
جاء في "شعب الإيمان" (2/ 5 و6، ط 1، 1423ﻫ، مكتبة الرشد) للحافظ البيهقي رَحِمَهُ اللهُ:
"الْعَاشِرُ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ
(وَهُوَ بَابٌ فِي مَحَبَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (البقرة: من الآية 165).
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
فَدَلَّ ذَٰلِكَ عَلَىٰ أَنَّ حُبَّ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَىٰ أَنَّ الإِيمَانَ يُحَرِّكُ عَلَىٰ حُبِّ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ, قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاءهُ:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (آل عمران: مِن الآية 31)، فَأَبَأنَ أَنَّ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّم مِنْ مُوجِبَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ, فَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانًا؛ فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُبُّ اللهِ الْمُوجِبُ لَهُ إِيمَانًا، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِي اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) (التوبة).
قَالَ البَيهَقيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
فَأَبَانَ بِهَٰذَا أَنَّ حُبَّ اللهِ وَحُبَّ رَسُولِهِ، وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ: فَرْضٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ سِوَاهُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، وَبِمِثْلِ ذَٰلِكَ جَاءَتِ السُّنَّةُ" اﻫ.
ثم ساق بإسناده حديثَ شِقِّ الشجرة!
ثم الحديثَ المتفق عليه -وهٰذا لفظُه عند البيهقي-: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلّٰهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُوقَدَ لَهُ نَارٌ فَيُقْذَفَ فِيهَا» ثم "قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
فَأَبَانَ الْمُصْطَفَىٰ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَٰذَا أَنَّ حُبَّ اللهِ وَحُبَّ رَسُولِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَبَانَ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ تَرْكَ مُتَابَعَتِهِ يَدُلُّ عَلَىٰ خِلَافِ الْمَحَبَّةِ، وَفِي ذَٰلِكَ دَلَالَةٌ عَلَىٰ وُجُوبِ الْمَحَبَّةِ، وَوُجُوبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَحَبَّةُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ" اﻫ.
حقًا: «مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْغَضَ إِلَيْكُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ؟!».
حالُ عيشِنا، بيوتنا، مَلابسنا -رجالًا ونساءً وأطفالهم!-، حواسِبنا، جوّالاتنا، أحاديث اجتماعاتنا، أخلاقنا، أفكارنا، همومنا، أحزاننا، أفراحنا، في الرخاء والمحَن، في الأمن والفتَن، فراغنا وشغلنا، علومنا وفهومنا، شهور أعمارنا، وأيَّام شهورنا، وساعات أيَّامنا... كلّ ذٰلك يقال لِأصحابه:
«مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْغَضَ إِلَيْكُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ؟!»
"خَلِيلَيَّ هَلَّا قَد وَجَدْتُمْ مُهَذَّبًا * إِذَا بُثَّتِ الشِّكْوَىٰ إِلَيهِ وَعَاهَا؟
فَإنْ تَجِدَاهُ  فَالْمَـــــــرَامَ وَجَدْتُما * وَإِلَّا فَصُونَا وَجْـهَهَا وَقَفَاهَا!
فَوَاحَزَنًا مِنْ هَجْرِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ * بِغَيرِ تَحَاشٍ وانْتَهاكِ حِمَاهَا!
إِذَا قِيلَ مَا هَٰذِي الْمَقَايِيسُ وَالهَوىٰ * يَقُولُونَ عَادَاتٌ وَنَحْنُ نَرَاهَا!"[3]
أمّا أولٰئك النُّجباء الصَّادقون -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأَرضاهم- فبَكوا جميعًا! والحال أنهم استأذنوا! وما عندهم معشار ما عندنا مِن عجيبِ حالنا؛ فهل بكينا؟!
وفي الحديث ترغيبٌ:
«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ثمَّ يُسَدَّدُ إِلَّا سُلِكَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ».
فهل استَهدينا ربَّنا سبيلَ الرشاد، وهَدَمنا السُّدودَ دون السَّداد؟!
فـ «مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْغَضَ إِلَيْكُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ؟!».
أَثَمَّ جَانِبُ شَجرةٍ أَرسخُ أَصْلًا، وأَرْفَعُ فَرْعًا، وأَوْرَفُ ظلًّا، وأَنْضَرُ مَرْبعًا، وأبهىٰ جَثْلًا، وأزكىٰ يَنْعًا؟! إنه ﴿رَسُولُ اللهِألَا يكفي؟!! و«خَيْرُ الْهُدَىٰ هُدَىٰ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[4]، ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا (النُّور: مِن الآية 54).
فـ «مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْغَضَ إِلَيْكُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ؟!».
ويا نَفْسُ!
"مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّةْ"[5]
؟!
اللّهُمَّ!
«اهْدِنَا وَسَدِّدْنَا»[6].

سكينة الألبانية
السبت 13 شوال 1435ﻫ


[1] - "بكسْرٍ فتشديد؛ أي: جانِبُ الشَّجرة" اﻫ مِن "حاشية مسند الإمام أحمد" للعلامة السندي (9/ 285).
[2] - الذي رمتُ وِجدانَه ليس مجردَ معاني كلماتِ ذيّاك السؤال! فقد نقلتُ في الحاشية عن حاشية السندي شيئًا! وإنما المرادُ أعمقُ مِن ذٰلك كما يتجلَّىٰ لِمَن يقرأ سائرَ التدوينة، والذي هو تلك المسألة العظيمة الضخمة: متابَعةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ! وللفائدة: فقد أورد الحافظ الهيثمي هٰذا الحديثَ في آخر (كتاب الجهاد/ باب استحباب الدخول مع الإمام) مِن "بغية الباحث"، وهو علىٰ نفاسته وانفراده؛ إلا أنه أيضًا ليس هو المرام على التمام!
[3] - "موارد الظمآن لدروس الزمان" للشيخ عبد العزيز السلمان رَحِمَهُ اللهُ (6/ 657، ط 30، 1424ﻫ).
[4] - "صحيح مسلم" (867).
[5] - مِن شهير شِعرِ عبدِ الله بنِ رواحة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ "سنن سعيد بن منصور" (2835).
[6] - قال الإمام مسلم في "صحيحه" (2725): حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلِ: اللّٰهُمَّ! اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ، بِالْهُدَىٰ: هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ: سَدَادَ السَّهْمِ» ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ -يَعْنِي ابْنَ إِدْرِيسَ-، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، بِهَٰذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلِ: اللّٰهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَىٰ وَالسَّدَادَ» ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ.