نِسيانُ الجِنَاية


بسم الله الرحمٰن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله

أما بعد

فقد عدّد صاحبُ "منازل السائرين" -الشيخُ الهرويُّ- سرائرَ حقيقة التوبة ثلاثةَ أشياءٍ، منها:

نِسيانُ الجِنَاية

وانسابَ التبيانُ مِنْ مُزْنِ الإمامِ ابنِ القيِّم، يجلّي لنا: هل الأفضلُ للتائبِ أنْ يَذْكُرَ جِنايتَه أمْ أنْ يَنساها؟ فقال:

"وأمّا نسيان الجناية: فهٰذا موضعُ تفصيلٍ؛ فقد اختلف فيه أربابُ الطريق:

فمنهم: مَن رأى الاشتغالَ عن ذِكرِ الذَّنْبِ والإعراضَ عنه صفحًا؛ فصفاءُ الوقتِ مع اللهِ تعالىٰ أَولىٰ بالتائبِ وأنفعُ له، ولهٰذا قيل:

ذِكْرُ الجفا في وقتِ الصفا: جَفا.

ومنهم: مَن رأىٰ أنّ الأَولىٰ أن لا يَنسىٰ ذَنْبَه، بل لا يزال جاعِلًا له نُصبَ عينيه، يلاحِظُه كلَّ وقتٍ، فيُحْدِثُ له ذٰلك انكِسارًا وذُلًّا وخُضوعًا أنفعَ له مِن جمعيَّتِه وصفاءِ وقتِه.

قالوا: ومتىٰ تُهْتَ عنِ الطريقِ؛ فارجع إلىٰ ذَنْبِكَ؛ تَجِدِ الطريقَ.

ومعنىٰ ذٰلك: أنك إذا رجعتَ إلىٰ ذَنْبِكَ؛ انكَسرْتَ وذَلَلْتَ وأَطْرَقْتَ بين يدي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خاشعًا ذليلًا خائفًا، وهٰذه طريق العبودية.

والصواب: التفصيلُ في هٰذه المسألةِ، وهو أن يُقال:

q إذا أَحَسَّ العبدُ مِن نَفْسِه حالَ الصفاءِ غَيمًا مِن الدَّعْوىٰ، ورَقِيقةً مِنَ العُجْبِ، ونِسيان المنَّة، وخَطَفَتْهُ نَفْسُه عن حقيقةِ فَقْرِه ونَقْصِهِ؛ فذِكْرُ الذَّنْبِ أنفعُ له.

q وإن كان في حالِ مُشاهدتِه مِنَّةَ اللهِ عليه، وكمالَ افتقارِه إليه، وعدمَ استغنائه عنه في ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِه، وقد خَالَطَ قلبَه حالُ المحبةِ، والفَرَحِ بالله، والأُنسِ به، والشوقِ إلىٰ لقائه، وشهودِ سعةِ رحمتِه وحِلمهِ وعفوِه، وقد أَشْرَقَتْ علىٰ قلبِه أنوارُ الأسماءِ والصفات؛ فنِسيانُ الجنايةِ والإعراضُ عنِ الذَّنْبِ أَولىٰ به، وأنفعُ؛ فإنه متىٰ رَجَعَ إلىٰ ذِكْرِ الجنايةِ؛ تَوارَىٰ عنه ذٰلك، ونَزَل مِن عُلُوٍّ إلىٰ أسفل، ومِن حالٍ إلىٰ حالٍ، بينهما مِن التفاوُت أَبْعَدَ مما بين السماء والأرض، وهٰذا مِن حَسَدِ الشيطان له؛ أراد أن يَحُطَّه عن مقامِه وسَيرِ قلبِه في ميادينِ المعرفةِ والمحبةِ والشَّوقِ، إلىٰ وحشةِ الإساءةِ وحَصْرِ الجِناية.

والأولُ يَكون شُهودُه لِجنايتِه مِنَّةً مِنَ اللهِ مَنَّ بها عليه؛ ليؤمِّنَه بها مِن مَقْتِ الدَّعوىٰ، وحِجاب الكِبْرِ الخَفِيِّ الذي لا يَشعر به، فهٰذا لَونٌ، وهٰذا لَونٌ.

وهٰذا المحلُّ فيه أمْرٌ وَراءَ العِبارة! وبالله التوفيق، وهو المستعان" اﻫ مِن "مدارج السالكين" (1/ 373 و374، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).


الخميس 4 رمضان 1440هـ