نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)
56- الصيامُ عِبادةٌ مَعروفةٌ قَبْلَ الإسلامِ، ما هي أدلَّةُ ذٰلك؟
ومتىٰ فُرِضَ؟
وما ثَمَرَتُهُ؟
|
البيان
قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الصِّيَامِ: قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) ).
قال الشيخُ عبدُ الرحمٰن بن محمد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"أَمَرَ -تَعَالَىٰ- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هٰذِهِ الأُمَّةِ بِالصِّيَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ زَكاَةِ النُّفُوسِ وَتَطْهِيرِهَا، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الأخْلاطِ الرَّدِيئةِ، وَالأخْلاقِ الرَّذِيلَةِ[1].
وَفُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ.
وَذَكَرَ -تَعَالَىٰ- أَنَّه فَرَضَهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيهِمْ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَىٰ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَهُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ، قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ[2]:
"كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ الإسْلامِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحِينَ"[3] [عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]:
(يَوْمُ عَاشُورَاءَ كانَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ)".
ثُمَّ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي تَوَارَثَتْهُ الأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يَعْنِي: بِالصَّومِ؛ لأَنَّهُ وَصْلَةٌ إِلَى التَّقْوَىٰ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَكَسْرِ الشَّهْوَاتِ[4]" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص80 و 81.
~~~فائدة~~~~~~~~~~~~~
في التشبيهِ الواردِ في آية الصيام
قال الإمام العثيمين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ:
"قوله تَعَالَىٰ: { كَمَا كُتِبَ}؛ (ما) مصدريّة، والكاف حرفُ جرّ، وتفيد التشبيه، وهو تشبيهٌ لِلكتابة بالكتابة، وليس المكتوبَ بالمكتوب.
والتشبيهُ بالفعل دون المفعول أمرٌ مطّرد، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ»[5]، التشبيهُ هنا للرُّؤْيَةِ بالرُّؤْيَة؛ لا لِلْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ؛ لأنَّ الكافَ دَخَلتْ على الفعل الذي يؤول إلىٰ مَصْدَر.
قوله تَعَالَىٰ: {عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي مِن الأمم السابقة، يَعُمُّ اليهودَ والنَّصارىٰ ومَن قَبلهم؛ كلُّهم كُتِبَ عليهم.
وهٰذا التشبيهُ فيه فائدتان:
الفائدة الأولىٰ: التسلية لِهٰذه الأمة؛ حتىٰ لا يقال: كُلِّفْنا بهٰذا العمل الشَّاقِّ دون غيرنا! لِقولِه تَعَالَىٰ: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزُّخرف: 39)، يعني لن يُخَفِّفَ عنكم العذابَ اشتِراكُكم فيه، كما هي الحال في الدنيا؛ فإنَّ الإنسان إذا شارَكَه غيرُه في أمْرٍ شاقٍّ؛ هان عليه، ولِهٰذا؛ قالتِ الخنساءُ تَرثي أخاها صَخْرًا:
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَىٰ إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي!
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلٰكِنْ ... أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي!
الفائدة الثانية: استكمال هٰذه الأمة للفضائل التي سَبَقَتْ إليها الأُمم السابقة؛ ولا ريب أنّ الصيام مِن أعظم الفضائل؛ فالإنسان يَصبر عن طعامه وشرابه وشهوته لله عَزَّ وَجَلَّ؛ ومِن أجل هٰذا اختصَّه اللهُ لِنَفْسِه، فقال تَعَالَىٰ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىٰ سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»[6].
قوله تَعَالَىٰ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ (لعل) للتعليل؛ ففيها بيانُ الحكمةِ مِن فَرْضِ الصَّوم؛ أيْ: تَتَّقون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ هٰذه هي الحِكمةُ الشَّرْعيَّةُ التَّعَبُّدِيَّةُ لِلصَّومِ، وما جاء سوىٰ ذٰلك مِن مصالح بَدَنيّة، أو مصالح اجتماعيّة؛ فإنها تَبَع" اﻫ مِن "تفسير القرآن الكريم"/ البقرة (2/ 316 و317، ط 1، صفر 1423 ﻫ، دار ابن الجوزي).
ضُحى السبت 14 ربيع الأول 1434ﻫ
[2] - "مجموع الفتاوىٰ" (25/ 220).
[3] - "صحيح البخاري" (3831) و"صحيح مسلم" (1125).
[4] - قاله العلامة السّمعاني في "تفسيره" (1/ 179، ط 1، 1418ﻫ ، دار الوطن - الشاملة).
[5] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَتُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ؟» قَالُوا: لا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ»، رواه الحافظ الترمذيّ (2554) وصحَّحه أبي رَحِمَهُ اللهُ، وفي "الصحيحين" نحوُه.
[6] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىٰ سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»؛ "صحيح مسلم" (1151).