الحمد لله، والصلاة
والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمَّا بعد:
قال العلَّامة السعدي
رَحِمَهُ اللهُ:
"ومِن ذلك: الدعاءُ الذي في آخر "البقرة" الذي أخبر اللهُ على لسانِ رسوله أنه
قَبِلَه مِن المؤمنين حين دَعوا به[2]:
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا
أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286].
ولَمَّا
كان إخلالُ العبد بأمرِ اللهِ قد يكون عمدًا على وجْهِ العِلم، وقد يكون نسيانًا وخطأً،
وكان هذا القِسْمُ غيرَ ناشئٍ عن عمل القلب الذي هو محلُّ الإثم وعدمه؛ سألوا ربَّهم
أن لا يؤاخذَهم بالنسيان والخطأ، وذلك عامٌّ في جميع الأمور؛ قال الله تعالى: «قَدْ
فَعَلْتُ».
ولَمَّا
كانت بعضُ الأفعال فيها شدَّةٌ ومَشَقَّة وآصارٌ وأغلال، لو كُلِّف العِبادُ بها لَأَحْرى
أن لا يقوموا بها؛ سألوا اللهَ تعالى ألا يُحَمِّلَهم إيَّاها، ولا يكلِّفَهم بما لا
طاقةَ لهم به؛ ليَسْهُلَ عليهم أَمرُ ربِّهم، وتخفَّ عليهم شرائعُه الظاهرة؛ فقال الله
تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ».
ولَمَّا
كانت أيضًا الشرائعُ التي شرعها اللهُ لِعِباده لا بد أن يَحْصل منهمُ التقصيرُ فيها،
إما بِفعل محظورٍ، أو بترْكِ مأمور، وذلك موجبٌ للشرِّ والعقوبة إنْ لم يَغفره اللهُ
ويُزِلْه؛ قالوا: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾. فبهذه الأمور تندفع المكروهاتُ
والشرورُ كلُّها.
ثم
سألوا اللهَ بعد ذلك الرحمةَ التي يَنشأ عنها كلُّ خير في الدنيا والآخرة.
ولَمَّا
كان أمرُ الدِّين والتمكين -مِن فِعْل الخير وتركِ الشر- لا يحصل ولا يتمُّ إلا بولايةِ
الله وتَوَلِّيه، ونُصرته على الأعداء الكافرين -مِن الشيطان وجنوده-؛ قالوا: ﴿أَنْتَ
مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾؛ قال تعالى: «قَدْ
فَعَلْتُ».
فالله
تعالى يتولى عَبْدَه، ويُيَسِّرُه لليُسرى في جميع الأمور؛ فيَدفع عنه الشرورَ، فهو
نِعْم المولى ونِعْم النصير!" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص125 -127، ط
1428ﻫ، دار المعالي).
خواتيم سورة البقرة مِن عتيد النعم
وقال الوزير ابن هبيرة
رَحِمَهُ اللهُ:
"..
وأما خواتيم سورة البقرة فإنها مِن عتيد النِّعَم؛ لأنها ليس في القرآن ما اتصلتْ فيه
الأدعيةُ أكثرَ منها؛ لأنه قال سبحانه فيها: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا
طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ إلى آخر الآية، فجمعت:
◈ الاستعاذةَ مِن: النسيانِ والخطأِ وحملِ الإصرِ وإن
كان حمله مَن كان قَبلنا،
◈ والاستعاذةَ مِن تحمُّلِ ما لا طاقة لنا به.
◈ ثم طلبَ العفو، وإردافَ ذلك بطلبِ المغفرة، ثم بسؤالِ الرحمة.
◈ ثم ختم ذلك كلَّه بسؤالِ النصر على القوم الكافرين.
وكأن
الله تعالى بإنزال هذا علَّمهم أنِ ادْعُوني بكذا وكذا، أفيَظن ظانٌّ أنَّ الله تعالى
لقَّنَنا هذا الدعاءَ لندعوَه به إلا وهو سبحانه يجيب حتمًا؟! إن الله على ما يشاء
قدير[3]" اﻫ من
"الإفصاح" (2/ 119، ط دار الوطن).
الإثنين 3 رمضان 1438هـ
[1]
- جاء في حديث حُذيفة رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ: «وَأُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مِنْ بَيْتِ
كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَ مِنْهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا أَحَدٌ بَعْدِي».
رواه ابن خزيمة وغيره، وصححه أبي رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث
الصحيحة" (1482).
[2] - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"لَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة من
الآية 284]؛
قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا». قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ
فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، قَالَ:
قَدْ
فَعَلْتُ.
﴿رَبَّنَا
وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا﴾، قَالَ:
قَدْ
فَعَلْتُ.
﴿وَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾، قَالَ:
قَدْ
فَعَلْتُ".
"صحيح مسلم" (125).
[3] - للفائدة في حكم هذه العبارة (إن الله على ما يشاء قدير) في مثل
هذا السياق؛ تُنظر "صحيحة" والدي رَحِمَهُ اللهُ (7/ 347-353).