الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد.
فقد سئل أبي -رَحِمَهُ اللهُ- كما في "سلسلة الهدى والنور" (ش 374/
الدقيقة 31:45):
رجلٌ وصل إلى (جدة) ولم يُحْرِم، وأحرم مِن
جدة جاهلًا؟
أبي: يعني جاوز الميقات؟
السائل: جاوز الميقات وأحرم من (جدة) جاهلًا، وقضى عمرته وذهب، فيسأل: هل
عليه دم أو ما عليه؟
أبي: الحقيقة أنا ضنين بالدماء بخيل شحيح بها، لا أتوسَّع في إيجاب
الدماء على كلِّ من أخطأ في نُسُك مِن مناسك الحج، وأقول بهذه المناسبة إن كثيرًا
مِن أهل العلم والفضل قد عوَّدوا الناسَ...
ثم رُفِع الأذانُ فانشغل الوالدُ -رَحِمَهُ اللهُ- بالتنبيه على خطأ نصب
الراء في التكبيرة، ثم استأنف الجواب (الدقيقة 45:35) فقال:
مِن عادةِ بعضِهم أنه إذا سئل عن خطأ وقع
فيه بعضُ الحجاج ويَسأل هذا المخطئُ: عليه دم أم لا؟ فيجيبه بما يراه، إمّا أن يقول: ليس
عليك دم أو: عليك دم؛ الذي أراه مع عدمِ وجود أدلة صحيحة في السُّنَّة فضلًا عن القرآن
الكريم مُلزِمة للحاج بدمٍ على كلٍّ خطأ أو ذهولٍ أو نسيان يقع منه على الرغم مِن عدم
وجود مِثل هذا الإيجاب للدم؛ فينبغي قبل أن يجيب المسؤولُ السائلَ القائلَ: هل عليه
دم أم لا؟ سواء كان جوابه إيجابًا أو لا، عليه أن يقول: إنَّ ما فعلته إنْ كان خطئًا
منك فـ﴿ربَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، وكما أكَّد ذلك عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الحديث الصحيح: «وُضِعِ» -والرواية المشهورة في بعض كتب الفقه
(رُفِعَ) هذه روايةٌ مرجوحة، والرواية الثابتة إنما هي-: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[1]،
فإذا كان الذي أخلَّ بنسك مِن مناسك الحج وقع ذلك منه عن نسيان؛ قلنا بأن المؤاخَذة
عن الناسي مرفوعة، وإذا كان عامدًا متكاسلًا مُهملًا لِلاهتمام بأداء مناسكِ الحجِّ
كما أمر بذلك عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حجة الوداع في حديثه المشهور: «خُذُوا
عنِّي مَنَاسِكَكُمْ، لِعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِكُم هَذَا»[2]،
تطبيقًا لهذا الحديث يجب على كلِّ حاجٍّ أن تكون عنايتُه متوجِّهةً بكل طاقاتِه وبكلِّ
جهده أن يأتيَ بها أقربَ ما تكون إلى حَجةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، ومِن البداهة بمكان أن نعترف أننا مهما حرصنا أن نتَّبع
النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عباداته كلها، في صلاته، في حَجته؛ فلن
نستطيع أن نُقارِب صلاتَه، ولكنَّ الأمر كما قيل:
"فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم * إن
التشبُّهَ بالكِرام فلاح"
فنحن علينا فقط أن نجتهد أن تكون حَجَّتُنا
كحَجَّة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالكاد أن تقاربها وأن نَدنوَ منها.
فإذا تعمَّد الإنسان أن يُخِلَّ بشيءٍ مِن
مناسك الحج فيجب على المستفتَى أن يلفت نظرَه بأنك آثم، وأن لا يكتفي بقوله: عليك دم؛
لأن الناس اليوم وبخاصة إذا كانوا مِن الأغنياء الذين يسَّر اللهُ عليهم الأموالَ،
فمن السهل عليه أن يقدِّم دمًا؛ لكن المهمّ أن يوجِّه نظرَ هذا المخطئ عامدًا إلى أنه
آثم وأنه خالَف أمرَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد ذلك إن كان يَرى
أنّ على فعله متأثِّمًا دمٌ أجاب على ذلك، وإلا فلا. فالذي أريد أن أنبِّهَ عليه هو
أنه يجب على المسؤولين دائمًا أن يُدندنوا حول: هل عليه إثمٌ أمْ لا؟ حتى ما يقع مرة
ثانية في مِثل هذا الإثم بحُجَّة أنَّ كفَّارتَه معروفة، على حدِّ قولِ العامَّة في
بعضِ البلاد العربية: "الذي تَعرف ديتَه؛ اقتُله" الذي تعرف ما هي ديته؟
اقتُله؛ ما يهمّك ما دام أنت باستطاعتك أن تقدِّم الدية! هذا حضٌّ على الإجرام! فقولُنا:
عليكَ دمٌ؛ معناه يمشي الحال مهما ارتكب مِن مخالفة ما دام أن الدمَ يُكفِّر تلك المخالفة!
لا، ينبغي أن نلفت النظر بأنه آثم إن كان متعمدًا، أو لا إثم عليه إن لم يكن متعمدًا.
اهـ المراد.
الأربعاء 8 ذي الحجة 1438هـ