الحمد لله ربِّ العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فقد قال العلّامة السعدي
رَحِمَهُ اللهُ:
"وِمن
ذلك: دعاء أتباع الأنبياء في مواطن الشدائد وأنواع المحن[1]:
﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا
وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ [آل عمران].
فدلَّ
هذا على أنَّ هذا الدعاء من الدعاء الذي استجابه اللهُ، وأنَّ أهلَه محسِنون فيه؛ وذلك
أنهم توسَّلوا إلى الله بربوبيَّته، فافتقروا إليه وطلبوا أن:
▫ يَرُبَّهم بما يُصلِح أحوالهم.
▫ وأن يغفر لهم:
◑ الذنوبَ، وهي المعاصي المستقلَّة.
◑ ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾، وهي تعدِّي ما حُدَّ لِلعبد ونُهي
عن مجاوَزتِه، فكما أنَّ التقصيرَ يُلام عليه الإنسانُ؛ فكذلك المجاوَزةُ لِلحَدِّ،
▫ وأن يثبِّتَ أقدامَهم فيرزقَهم الصبرَ والثباتَ،
والقوةَ التي هي مادةُ النصر،
▫ وأن يُمِدَّهم بمَدَدِه الإلهيِّ وهو نصْرُه على
القوم الكافرين.
فسألوا
ربَّهم:
▣ زوالَ المانعِ مِن النصر؛ وهي الذنوبُ والإسراف.
▣ وحصولَ سببِ النصر؛ وهو نوعان:
سببٌ
داخليٌّ:
وهو ثباتُ الأقدامِ والصبرُ عند الإقدام.
وسببٌّ
خارجيٌّ:
وهو نصرُه.
ويشبه
أن يكون قولهم: ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ توسُّلًا إلى الله، وأننا -يا
ربنا!- آمَنَّا بكَ واتَّبعْنا رُسُلَك، وحاربنا أعداءك الذين كفروا بك وبرسلك، فمعاداتُنا
لهم وقتالُنا إياهم لأجلك وفي سبيلك؛ فانصرنا عليهم لِكوننا مِن حِزبِكَ وجُندِك، وهم
جنودُ عدوِّكَ الشيطانِ الرجيم" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص129 و130، ط
1428ﻫ، دار المعالي).
توكيد
قال الإمام ابن القيم رَحِمَهُ
اللهُ:
"لَمَّا
عَلِمَ الْقَوْمُ أَنَّ الْعَدُوَّ إنَّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّ
الشّيْطَانَ إنَّمَا يَسْتَزِلُّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا، وَأَنَّهَا نَوْعَانِ:
◑ تَقْصِيرٌ فِي حَقٍّ.
◑ أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدٍّ.
وَأَنَّ
النَّصْرَةَ مَنُوطَةٌ بِالطَّاعَةِ؛ قَالُوا:
﴿رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾.
ثُمَّ
عَلِمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنْ لَمْ يُثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ
لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ وَنَصْرِهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ،
فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ، وَأَنّهُ إنْ لَمْ يُثَبِّتْ
أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا وَلَمْ يَنْتَصِرُوا، فَوَفَّوُا الْمَقَامَيْنِ
حَقَّهُمَا:
▣ مَقَامَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ: التَّوْحِيدُ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
▣ وَمَقَامَ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنَ النَّصْرَةِ، وَهُوَ: الذُّنُوبُ وَالْإِسْرَافُ" اﻫ المراد من "زاد المعاد" (3/ 202، ط
3، 1418ﻫ، مؤسسة الرسالة).
الأحد 9 رمضان 1438 هـ
[1] - ذكرُ المحنةِ في الآية السابقة لِدعائهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ (146)﴾، وفي قراءة نافع وابن كثير والبصريَّين: ﴿قُتِلَ﴾، واختلف
العلماء في نائبِ الفاعل، وفي المعنى المترتِّب. والمرادُ الإشارةُ إلى أنهم كانوا
في محنة تقتيلٍ على خلافٍ هل نبيُّهم الذي قُتل أم بعضهم؟