بسم الله الرحمٰن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ؛ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ؛ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ
قال أبي رَحِمَهُ اللهُ في شرحِه لباب (هل يقول: سيدي؟) مِن كتاب "الأدب المفرد" للإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ:
"السِّيادة في الصَّلوات الإبراهيميّة موضعُ خِلاف بين الحنفيّة والشافعيّة؛ فالحنفيّة يقولون:
إن لفظة السِّيادة لم تأتِ في التعليم النبويّ لأصحابه للصلاة عليه.
والشافعية يَعترفون بهٰذا، لٰكن يقولون: أدبًا معَ الرسولِ عليه السّلام؛ نأتي بلفظةِ (السيد).
ونحن نَرىٰ أنّ الصوابَ مع الحنفيّة، -طبعًا- لا لأني نشأتُ على المذهبِ الحنفيّ، فكلُّكُنَّ يَعلم بأني لا تعصُّب عندي، وإنما نتعصَّب للكتاب والسُّنّة، فأقول أنَّ الصواب مع الحنفيّة، ذٰلك لأنّ بعضَ العلماء الأذكياءِ حينما تَعَرَّض لبيانِ الخلافِ في هٰذه المسألة بين الحنفيّة والشافعيّة، فالأحناف آثَروا الاتِّباعَ على الأدب الذي يأتي به الإنسانُ مِن عندِ نفْسِه، والشافعية آثَروا الأدبَ على الاتِّباع، فالاتِّباعُ سَمّاه الأحنافُ بالامْتِثال، ويَعْنون بذٰلك أو يشيرون بذٰلك إلىٰ أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ حينما أنزل قولَه في القرآن:
{إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]؛ قال أصحاب النبيِّ: يا رسولَ الله! هٰذا السَّلامُ قد عرفناه، فكيف الصلاةُ عليكَ؟
قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ! صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ، وَعَلَىٰ آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ»([1]) إلخ الصلوات الإبراهيمية، فهٰذا هو الأمر.
فقال الأحناف: الامتثالُ خيرٌ مِنَ الأدب، يعني: خيرٌ مِن زيادةِ لفظةِ (السيد).
الشافعية قالوا –كما سمعتُنَّ -: لا؛ الأدب خيرٌ مِنَ الامتثال.
فجاء بعضُ أذكياءِ العلماءِ حينما تَعرَّض لهٰذا الخلاف، فقال:
بلِ الامتثالُ هو الأدب.
فقضىٰ علىٰ الخلاف بكلمةٍ مختصرَة مفيدة.
الامتثالُ هو الأدبُ
وهٰذا لا شك فيه حينما يفكِّر الإنسان في هٰذه الجملة.
وأنا أضرب لكُنّ مثلاً، لتَفْهمْنَ أنّ الامتثالَ هو الأدب، ومخالفةُ الامتثالِ هي قِلَّةُ الأدب، عكس ما يظنُّ كثيرٌ مِنَ الناس:
إذا كان مِنَ الأدبِ تعظيمُ الرسولِ عليه السَّلام بلفظةٍ نحن نُضيفها إلى التعليمِ النبويّ؛ إذًا؛ أَولىٰ وأَولىٰ أن نُعظّم اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وأن نتأدَّبَ معه بلفظٍ نُضيفُه نحن مِن عند أنفُسِنا في التعليم النبويِّ، فهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مثلاً يقول.. -والصلواتُ الإبراهيمية لها علاقة بالصلاة، فلنأتِ بمثَلٍ آخر له علاقة بالصلاة-:
«إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ -في التشهُّد- فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ»([2]) إلخ التشهُّد المعروف، فما رأيُ عقلاءِ المسلمين إذا جاء إنسانٌ وسَمِعَ تلك العبارة (الأدب خيرٌ من الامتثال)، والرسول قال: "قولوا: التحيات لله...." إلخ، ما دام الأدب خيرًا مِن الامتثال؛ فأنا سأقول: التحيات للهِ تعالىٰ، أو: التحيات لله سبحانه وتعالىٰ، أو: التحيات لله عَزَّ وَجَلَّ، والطيبات، السَّلام عليك أيها النبيُّ([3]) ورحمة الله عَزَّ وَجَلَّ... إلخ.
سيطلع معنا تشهُّد غريبٌ بعيدٌ عن تعليمِ الرسول عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وهٰكذا قُلْ عن كُلِّ تعليمٍ إذا ما أردْنا أنْ نُدْخِلَ فيه عَقْلَنا وأَدَبَنا البارِد، فذٰلك سيؤدِّي بنا إلىٰ تغييرِ شريعةِ الله عَزَّ وَجَلَّ التي جاء بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذلك؛ فالامتثالُ هو الأدب.
فالصلاةُ على الرسولِ عليه السَّلام نتْلوها كما عَلّمنا إياها، بدون زيادة مِن عندنا، ولٰكن في الوقت نفسه أقول: لا مانع عندي إذا قلتُ أحيانًا: "قال سيدُنا رسول الله كذا وكذا"؛ لبيان أنه سيّدُنا فعلاً، كما ذكرنا في الأحاديث السابقة([4])، أما في الأوراد التي جاءت عن الرسولِ عليه السّلام محفوظةً بالحرفِ الواحد؛ فلا يجوز فيها الزيادةُ، كما لا يجوز منها النقصُ، ولهٰذا تقول العامّة: الزائد أخو الناقص". ا. ﻫ
"شرح الأدب المفرد" الشريط 3، الوجه ب.
وقال رَحِمَه اللهُ أيضًا في "أصل صفة صلاة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (3/ 942 - 945):
"والذي نعتقده ونَدين الله تعالى به أن نبينا محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيِّدُنا، بل هو سيِّدُ كلِّ آدميٍّ، شاء أم أبى؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
رواه مسلم (7/59) ، وأبو داود (2/268) ، وأحمد (2/540) من حديث أبي هريرة.
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وغيره.
والذي ينبغي البحثُ فيه هو النظرُ في جوازِ زيادة هٰذه اللفظة فيما شرعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته مِن صِيغ التشهد، والصلوات الإبراهيمية؛ التي أمر بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىٰ كيفيّات مختلفة، وليس في شيءٍ منها هٰذه اللفظة -كما رأيت-؛ ولذٰلك فإنّا نَقطع بأنّ الحقَّ مع المانعين مِن ذٰلك؛ لأننا نعتقد أنّ زيادة هٰذه اللفظة لو كانت مما يُقرِّبُنا إلى الله زُلفى؛ لأمرنا بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَما أغفل أمْرَها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ما تركتُ شيئُا يُقرِّبُكم إلى الله تعالىٰ؛ إلا وأمرتُكم به» الحديث.
رواه الطبراني بإسناد صحيح -كما في "الإبداع"-. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
«إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَىٰ خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» الحديث .
رواه مسلم (6/18) ، وأحمد (2/191) من حديث ابن عمرو".
ثم قال:
"هٰذا، ونحن نعلم أنّ السلفَ الصالح مِن الصحابة والتابعين لم يكونوا يتعبَّدون الله تعالىٰ بتسويدِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة، وهم قطعًا أشدُّ تعظيمًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنّا، وأكثرُ له حُبًّا، ولٰكن الفرق بينهم وبيننا أنّ حُبَّهم وتعظيمَهم عمليٌّ باتِّباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما هو نصُّ قوله تعالى:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. وأمّا حُبُّنا؛ فلَفظيٌّ شَكليّ.
فإذا كان السلف لم يتعبدوا بذٰلك؛ فليس لنا أن نَفعل. وقد قال حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
(كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدْها أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فلا تَعبَّدوها).
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
(اتَّبِعوا، ولا تَبتدِعوا؛ فقدْ كُفِيْتُم، عليكم بالأمرِ العتيق).
والأمر العتيق: هو الاقتصار علىٰ ما صَحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأوراد والأذكار؛ بدون أدنىٰ زيادة، مهما كان نوعُها، ولذلك قال الحافظ :
" اتباع الآثار الواردة أرجح، ولم تنقل -يعني: لفظة السيادة- عن الصحابة والتابعين، ولم تُرو إلا في حديث ضعيف عن ابن مسعود، ولو كان مندوبًا؛ لَمَا خَفي عليهم". قال:
"وهٰذا يقرِّب مِن مسألة أصولية؛ وهي: أنّ الأدب أحسن، أم الاتِّباع والامتثال؟ ورجح الثاني؛ بل قيل: إنه الأدب".
قلت: وهذا القيلُ نقله الشيخ الطحطاوي في "مراقي الفلاح" (158) عن "شرح الشفا" للشهاب. وقد ذكر السيوطي نحوه في "الحرز المنيع" (66) عن المجد اللغوي.
وأنا أستغرب وقوع مثل هٰذا الاختلاف بين العلماء؛ فإني لا أعقِل أن يكون الأدبُ خيرًا مِن الامتثال؛ لأنّ معنىٰ ذٰلك أنّ الامتثال ليس فيه مِنَ الأدب ما يليق به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
ولا يخفىٰ ما فيه، ولأن في هذا القول محاذيرَ كثيرة تؤدي إلىٰ تغير الشريعة!
فخذ مثلاً: الشهادة في الأذان، والإقامة، وفي التشهد في الصلاة.
فإن الأفضل -علىٰ هٰذا القول- أن يقول المتشهِّد: (وأشهد أنّ سيِّدَنا محمّدًا رسولُ الله).
وإذا كان الأدبُ مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَولىٰ مِن امتثال أمره؛ فكذٰلك يقال أيضًا: إنّ الأدب مع الله تعالىٰ أَولىٰ مِن امتثال أمره مِن باب أَولىٰ! فينبغي أن يقال مثلاً: (أشهد أن لا إلٰه إلا الله سبحانه وتعالىٰ) ؛ وغيرها مِن العبارات التي تدلّ علىٰ تعظيمِ الله تعالىٰ وتنزيهِه!
وما أعتقد أنّ عاقلاً مِن علماء المسلمين يَستجيز هٰذا التصرُّف، والتغيير في دِين الله تعالىٰ.
وسَدُّ ذٰلك إنما يكون بِرَدِّ ذٰلك القول، والأخذ بمعارِضه: الامتثالُ خيرٌ مِنَ الأدب؛ بل هو الأدب. ورَحِمَ اللهُ ابنَ مسعود حيث قال:
(اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ مِن اجتهادٍ في بدعة).
وكلُّ خيرٍ في اتِّباعِ مَنْ سَلَف وكُلُّ شَرٍّ في ابتداع مَن خَلَف". ا. ﻫ كلامُ الوالد رَحِمَهُ اللهُ، مِن "أصل صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
f{d
كذٰلك..
فإنّ الامتثال هو مقتضى اعتقادِ السِّيادة:
قال العلامةُ العثيمين رَحِمَهُ اللهُ تعالىٰ في جوابه عن حُكم زيادة (سيّدنا) في الصلوات الإبراهيمية:
"وبهٰذه المناسبة أودّ أن أنبِّه إلىٰ أنّ كلَّ إنسان يؤمن بأن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيّدُنا؛ فإنّ مقتضىٰ هٰذا الإيمان أنْ لا يتجاوزَ الإنسانُ ما شَرعه، وأن لا ينقص عنه، فلا يبتدع في دِين الله ما ليس منه، ولا ينقص مِن دين الله ما هو منه، فإنّ هٰذا هو حقيقةُ السِّيادةِ التي هي مِن حَقِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا.
وعلىٰ هٰذا؛ فإنّ أولٰئك المبتدعين لأذكار أو صلوات على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأت بها شرعُ الله علىٰ لسان رسولِه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنافي دعوىٰ أنّ هٰذا الذي ابتدع يَعتقد أنّ محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيِّد؛ لأن مقتضىٰ هٰذه العقيدة: أن لا يتجاوز ما شرع وأن لا ينقص منه.
فليَتأمَّلِ الإنسانُ ولْيتدبَّرْ ما يَعنيه بقوله، حتىٰ يتضحَ له الأمرُ، ويعرفَ أنه تابِعٌ لا مشرِّع". ا. ﻫ
"مجموع فتاوى ورسائل العلامة العثيمين" (3/ 111).