الحمْدُ لله، اللَّهُمَّ! صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ
وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَىٰ آلِ إِبْرَاهِيمَ،
وَبَارِكْ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا
بَارَكْتَ عَلَىٰ آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أمّا بعد
عنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ:
اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَىٰ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْها وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ، قَالَتْ:
أَخْشَىٰ أَنْ
يُثْنِيَ عَلَيَّ! فَقِيلَ:
ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ:
ائْذَنُوا لَهُ،
فَقَالَ:
كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ:
بِخَيْرٍ إِنِ
اتَّقَيْتُ.
قَالَ:
[يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ!] فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللهُ؛ زَوْجَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ عُذْرُكِ
مِنْ السَّمَاءِ، [تَقْدَمِينَ عَلَىٰ فَرَطِ
صِدْقٍ؛ عَلَىٰ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَىٰ أَبِي
بَكْرٍ].
وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
خِلَافَهُ، فَقَالَتْ:
دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَىٰ عَلَيَّ؛
وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا.
"مختصر
صحيح الإمام البخاريِّ" للوالدِ رَحِمَهُ اللهُ (3/ 236 و237).
~*~~~~~~~~~~*~
"(وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ) أَيْ مِنْ شِدَّة كَرْبِ الْمَوْتِ!
(أَخْشَىٰ أَنْ
يُثْنِيَ عَلَيَّ! فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَأَنَّ
الْقَائِلَ فَهِمَ عَنْهَا أَنَّهَا تَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ لِلْمَعْنَى
الَّذِي ذَكَرَتْهُ، فَذَكَّرَهَا بِمَنْزِلَتِهِ.
وَالَّذِي رَاجَعَ عَائِشَةَ فِي ذٰلِكَ هُوَ: ابْنُ
أَخِيهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ.
وَالَّذِي اسْتَأْذَنَ لِابْنِ عَبَّاسٍ
عَلَىٰ عَائِشَةَ حِينَئِذٍ
هُوَ: ذَكْوَانُ مَوْلَاهَا.
وَقَدْ بَيَّنَ ذٰلِكَ كُلَّه أَحْمَدُ
وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ خُثَيْمٍ عَنِ
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَىٰ عَائِشَةَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ
لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَىٰ عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوت، فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: "فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللهِ: يَا أُمَّتَاهُ! إِنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِ بَيْتِكِ، يُسَلِّمُ عَلَيْكِ وَيُوَدِّعُكِ، قَالَتْ: ائْذَنْ
لَهُ إِنْ شِئْتَ".
وَادَّعَىٰ بَعْضُ الشُّرَّاحِ
أَنَّ هٰذَا يَدُلُّ عَلَىٰ أَنَّ رِوَايَةَ
الْبُخَارِيِّ مُرْسَلَةٌ، قَالَ: لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ لَمْ يَشْهَدْ ذٰلِكَ وَلَا سَمِعَهُ
مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ حَالَ قَوْلِه لِعَائِشَةَ؛ لِعَدَمِ حُضُورِه. انْتَهَىٰ. وَمَا أَدْرِي مِنْ
أَيْنَ لَهُ الْجَزْمُ بِعَدَمِ حُضُورِهِ وَسَمَاعِهِ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذٰلِكَ؟! وَلَعَلَّهُ
حَضَرَ جَمِيعَ ذٰلِكَ وَطَالَ عَهْدُهُ بِهِ فَذَكَّرَهُ بِهِ
ذَكْوَانُ، أَوْ أَنَّ ذَكْوَانَ ضَبَطَ مِنْهُ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ هُوَ، وَلِهٰذَا؛ وَقَعَ فِي
رِوَايَةِ ذَكْوَانَ مَا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ.
(كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟) فِي رِوَايَةِ ابْنِ
ذَكْوَانَ: "فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: أَبْشِرِي. قَالَتْ: وَأَيْضًا. قَالَ:
مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ تَلْقَيْ مُحَمَّدًا وَالْأَحِبَّةَ إِلَّا أَنْ
تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْجَسَدِ".
(بِخَيْرٍ إِنْ
اتَّقَيْتُ) أَيْ إِنْ كُنْتُ
مِنْ أَهْلِ التَّقْوَىٰ. [إنما سألها عن حالِ بَدَنِها،
فَأَخْبَرَتْه عن حال دِينِها][2]، [تعني إنْ خَلَصَتْ
ليَ التَّقْوىٰ؛ فَمَا أُبَالِي بِالْمَرَضِ][3]. وَوَقَعَ فِي
رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أُبْقِيْتُ[4].
(زَوْجَةُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْركِ) فِي رِوَايَة ذَكْوَانَ:
"كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ,
وَلَمْ يَكُنْ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا".
(وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنْ السَّمَاءِ) يُشِيرُ
إِلَىٰ قِصَّةِ الْإِفْكِ,
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ: "وَأَنْزَلَ اللَّه بَرَاءَتك مِنْ فَوْقِ
سَبْع سَمَوَات، جَاءَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ, فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ
مَسْجِدًا[5] إِلَّا وَهُوَ
يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْل وَأَطْرَاف النَّهَار". وَزَادَ فِي آخِرِهِ:
"وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ,
فَوَاَللَّهِ! إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ!".
(عَلَىٰ فَرَطِ صِدْقٍ) بِفَتْحِ
الْفَاءِ وَالرَّاءِ بَعْدهَا مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّم مِنْ كُلِّ شَيْءٍ[6]، قَالَ ابْنُ
التِّين: فِيهِ أَنَّهُ قَطَعَ لَهَا بِدُخُولِ الْجَنَّة؛ إِذْ لَا يَقُول ذٰلِكَ إِلَّا
بِتَوْقِيفٍ.
(وَدَخَلَ ابْن الزُّبَيْر خِلَافَهُ) أَيْ
عَلَىٰ عَائِشَةَ بَعْدَ
أَنْ خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَتَخَالَفَا فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ذَهَابًا
وَإِيَابًا, وَافَقَ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجِيءَ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
(وَدِدْت.. إِلَخْ) هُوَ عَلَىٰ عَادَةِ أَهْلِ
الْوَرَعِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة
ذَكْوَانَ أَنَّهَا قَالَتْ لِابْنِ عَبَّاسٍ هٰذَا الْكَلَامَ
قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، وَلَفْظُهُ: "فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنْكَ يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ! فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا
مَنْسِيًّا".
وَفِي هٰذِهِ الْقِصَّةِ:
· دَلَالَةٌ عَلَىٰ سِعَةِ عِلْم ابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَظِيم مَنْزِلَتِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
· وَتَوَاضُعُ عَائِشَةَ
وَفَضْلُهَا وَتَشْدِيدُهَا فِي أَمْرِ دِينهَا.
· وَأَنَّ الصَّحَابَةَ
كَانُوا لَا يَدْخُلُونَ عَلَىٰ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِإِذْنٍ.
· وَمَشُورَةُ
الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِير إِذَا رَآهُ عَدَلَ إِلَىٰ مَا الْأَوْلَىٰ خِلَافُهُ.
· وَالتَّنْبِيهُ عَلَىٰ رِعَايَةِ جَانِبِ
الْأَكَابِرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ, وَأَنْ لَا يَتْرُكَ مَا
يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ ذٰلِكَ لِمُعَارِضٍ دُونَ ذٰلِكَ فِي الْمَصْلَحَةِ".
~*~~~~~~~~~~*~
(بِخَيْرٍ إِنْ
اتَّقَيْتُ)
للهِ هٰذا الجوابُ البليغ،
في حالِ الكَرْبِ البالغ!
لٰكنّ فضائلَ أمِّ المؤمنين عائشة رَضِيَ
اللهُ عَنْهَا (بَيْضَاءُ لَا يُدْجِي سَنَاهَا العِظْلِمُ)[8].
والذي تجلَّىٰ هنا -وهي (مغلوبة)- إنما
هو نَضْحُ إناءِ حياةٍ طابَ أعْلَاهُ إذْ طاب أسْفَلُه.
ولها -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِن مِثل ذا
التديُّن وذا التواضع كلماتٌ شهيرات، كمثل قولها في حادثة عصيبة -أيضًا!-:
"وَأَنَا
-حِينَئِذٍ- أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي
وَلٰكِنْ -واللهِ!- مَا كُنْتُ أَظُنُّ
أَنَّ اللهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَىٰ!
وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي
كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَىٰ!
وَلٰكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَىٰ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا"[9]!!
رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها!
"إِنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ خِصَالِ
الْمُتَّقِي * وَبِهِ التَّقِيُّ إلى الْمَعَالي يَرْتَقِي
وَمِنَ الْعَجَائِبِ عُجْبُ مَنْ هُوَ
جَاهِلٌ * فِي حَالِهِ أَهُوَ السَّعِيدُ أَمْ الشَّقِي!
أَمْ كَيْفَ يُخْتَمُ عُمْرُه أَوْ رُوحُهُ *
يَوْمَ النَّوَىٰ مُتَسَفِّلٌ أَوْ مُرْتَقِ!
يتبع إن شاء الله...
الجمعة 28 رجب 1434ﻫ
[1] - في "فتح الباري"
(8/ 341 – 343، ط3، 1407ﻫ، المطبعة السلفية)، إلا ما كان بين المعقوفات سواء
للحافظ أو لغيره؛ بيَّنتُه في الحاشية.
[2] -
"الإفصاح عن معاني الصحاح" (3/ 108، ط دار الوطن).
[4] - قال
العلامة القسطلاني رَحِمَهُ اللهُ: "بضم الهمزة وسكون الموحدة وكسر القاف
وسكون التحتية وفتح الفوقية، مِنَ البَقاء" اﻫ من "شرح القسطلاني" (7/
266، ط 6، 1305ﻫ، الأميرية).
[5] - في
"مسند الإمام أحمد" (1/ 276): «.. فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِلَّهِ مَسْجِدٌ
مِنْ مَسَاجِدِ اللهِ يُذْكَرُ فِيهِ اللهُ، إِلَّا يُتْلَىٰ فِيهِ.. »، ومثله في
"الطبقات" (8/ 60، ط العلمية).
[6] - قال
الحافظ في "مقدمة الفتح" (ص 175، ط3، 1407ﻫ، المطبعة السلفية):
"الفرط بفتح الفاء والراء: الذي يَتَقَدَّمُ الوَارِدِينَ فَيُهَيِّءُ لَهُمْ
مَا يَحْتَاجُون وهُوَ في هٰذِهِ الْأَحَاديثِ:
الْمُتَقّدِّمُ لِلثَّوابِ والشَّفاعةِ" اﻫ.
[7] - من
"شرح القسطلاني" (6/ 143) بتصرف.
[8] - مَثَلٌ
يُضرب للمشهور الذي لا يُخفيه شيء، "مجمع الأمثال" (1/ 108، ط دار المعرفة).
[9] -
"صحيح البخاري" (4750)، "صحيح مسلم" (2770).