«أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي»

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمدُ للهِ وَحْدَه، والصّلاة والسّلام علىٰ مَن لا نبيّ بَعْدَه
أمّا بعد
فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ:
«أُمُّكَ». قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
«ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
«ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
«ثُمَّ أَبُوكَ». متفق عليه.
حديثٌ -علىٰ (شهرته)- (غريب)!
كيف أتى الترتيبُ بـ(ثم) مُكَرَّرًا لِمُرَتَّبٍ واحِد!
فما أشدَّ عِظَم هٰذا الحقّ!
«أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي»
أمّا غرابته في العمل؛ فيا بَرَّ القلب! أين منكَ بُرُّ البِرّ؟!
هي:
أَحَقُّ النَّاسِ بالمعونة.. بكفاية المؤونة.. بعبارات الودّ الرصينة الموزونة.
أَحَقُّ النَّاسِ بِزَفِّ البِشارات، وتَهْوينِ المُصِيبات.
أَحَقُّ النَّاسِ بتبسُّمي رغم ألمي.
-مِن الآفات الْمُفَتِّتة لِحُسن الخُلُقِ: بثُّ البسمات وإطلاق الضحكات مع الأصدقاء، أما مع الأمّ؛ فالتجهُّم!-
أَحَقُّ النَّاسِ بلِينِ الخِطاب، وعذْبِ الجواب، رهيفِ الهتاف، ولطيف السِّيَرِ الظِّراف.
أحقُّ النَّاسِ بخفضِ الجناح، وصِدقِ المزاح، هنالك يطيب بشِركتها الغَبُوقُ والاصطباح.
أَحَقُّ النَّاسِ بالهدايا، المنتقاة وَفقَ ما تحبُّه ويُسعدها، أو تحتاجه وينقصها.
-يَتَفَنّن البعضُ في إهداءِ الأصحابِ وثلةٍ منَ الأرحام، فيَنتقي الأفْخمَ والأجمل، والأندرَ والأكمَل، و و، أمّا الأُم...! إنها أُمٌّ ولن تعتب، وإذا عتبت؛ فعمّا قريبٍ إلى الرضا تنقلب!-
أَحَقُّ النَّاسِ بالهِدايات والإرشادات، نصائح وتوجيهات؛ ملفوفةً بقرطاس حريرٍ مِن الكلمات، مزركشةً بلآلئ تبجيلٍ واحترامات، معطّرةً بأريجِ ياسمين المودّاتِ.
أَحَقُّ النَّاسِ بأن يريد لها قلبي عقيدةً صافيةً قويّة، وأعمالًا صالحة سَمِيّة، وأخلاقًا نبيلة عليّة، على نهج السلفِ الصالح سويّة.
أَحَقُّ النَّاسِ بكلّ شيءٍ أَملكه؛ رزقًا مِن الله جلّ جلالُه، كلّ شيء! كلّ دنياي، هل ثَمّ مبالغة؟!
كلا؛ فمِن وصايا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ:
«وَأَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِن دُنْيَاكَ؛ فَاخْرُجُ لَهُمَا»[1]!
أَحَقُّ النَّاسِ بأيّ شيء أُتْقِنُه -أو لا أُتْقِنُه!- نظمِ قصيدةِ شعرٍ، تدبيجِ قطعةِ نثر، أكلةٍ شهيّة تُحبّها، حلوى -هي عَلَّمتْنيها!-، خياطةِ ثوبٍ يُناسبها -ولو ساعدتْني فيه يداها وعيناها وأفكارُها!-، إصلاحِ عطلٍ في مطبخها، مدِّ سلكِ هاتفٍ إلى غرفتها، ترتيب أدوات التطريز وشغل الصُّوف مع آلة الخياطة الخاصة بها......
أَحَقُّ النَّاسِ بالوصلِ، والأمر اليوم سهل!
- كيف يهنأ الأبناءُ غيرُ الشُّهودِ (المسافرون) إذ يمضىٰ علىٰ آخرِ مكالَمةٍ بينهم وبين أمهاتهم أسبوعٌ، أو شهر، أو شهور! انشغَلوا؛ لٰكن عمّن؟! عن: «أَحَقّ النَّاسِ»!-
أَحَقُّ النَّاسِ بالزيارة علىٰ أُصولِ الزيارة! فلا قطعَ ولا إثقال، ولا هجرَ ولا إملال.
أَحَقُّ النَّاسِ أن تُدعى للزيارة؛ لِتَلْقَى نديَّ الإكرام، وسخيَّ الإنعام، فترى أنها في روضةٍ مع أحبّةٍ لا يملّونها، وودّوا لو على كفوف الحفاوة يحملونها!
أَحَقُّ النَّاسِ أن أوصيَ بحُسن صَحابتها! أُصولًا وفُروعًا وأمثالًا؛ فتُحتَرم، وتُكرَم، وفي كلِّ ما سَبق تُقدَّم!
أَحَقُّ النَّاسِ بالسهرِ عليها إنْ مَرضتْ أو كربتْ، بدموعي إنْ حزنتْ أو جهدتْ، بمواساتي إن اهتمَّتْ أو وَجَدت.
بل لها حقُّ الصِّلة (في أمور الدنيا) حتى ولو كانت على الذَّنْبِ الأعظَم، والخطْبِ الأجْسَم! قال عَزَّ وَجَلَّ:
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15)، ولهذا:
«صِلِي أُمَّكِ» فتوى إمامِ المفتين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ- لأسماء رَضِيَ اللهُ عَنْها لَمّا سألت:
إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ؟ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ:
«نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ». متفق عليه، وهو في "صحيح البخاري" (5979).
فكيف إذا كانت الأمُّ مسلمةً؟ فكيف إذا كانت تقيّة؟ فكيف إذا علّمتْك الدِّين؟ فكيف إذا سهّلتْ لك طلب العلم؟ لله ما أعظم حقها!
بل كيف إذا كانت متعفِّفَةً عن كلِّ مثالٍ مِن أمثلةِ تلك العطاءات السابقة، فلا تكاد تَطلبها، بل يَلمحها اللبيبُ بعَلامة؟! واخجْلة النَّفْسِ اللّوَّامة! وبهذا فهِي:
أَحَقُّ النَّاسِ أن أرجوَ لقاءها في الجنّات، وأعلوَ بصُحْبتِها في الدَّرجات، ولا غرو؛ قد أخبر الشَّرعُ أنّ «الجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْها»[2]!
أَحَقُّ النَّاسِ بدعائي ودعائي ودعائي
{رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24)
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 41)
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28)
"اللَّهمَّ! اجْعَلْ أُمِّي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ"
عَنْ أَبِي نُحَيْلَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ رُمِيَ بِسَهْمٍ، فَقِيلَ لَهُ: انْزِعْهُ، فَقَالَ:
اللهُمَّ! انْقُصْ مِنَ الْوَجَعِ، وَلَا تَنْقُصْ مِنَ الْأَجْرِ.
فَقِيلَ لَهُ: ادْعُ. فَقَالَ:
اللهُمَّ! اجْعَلْنِي مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَاجْعَلْ أُمِّي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ»[3].
~~ ... ~ .....~..... ~ ... ~~
وبَعْد!
فقد بقي الكثيرُ الكثيرُ ممَّا هي أحقُّ به، وما ذَكرتُ إلَّا شذراتٍ مِن سبائك حَقِّها، وقطرات مِن ندى أزهارِ مَقامها، وهالاتٍ مِن أقمارِ قَدْرِها.
فكلمةُ الصحابيّ:
(صَحَابَتي.. صُحْبَتِي[4]) مفردٌ مُضاف يَعُمُّ كلَّ أنواعِ الصُّحبةِ بكلِّ مفرداتها وكلِّ ما ينضوي تحتها، ويكون الـ(حُسْن) -الذي هو مفردٌ مضاف أيضًا- شاملًا لكُلِّ ما يؤدِّي إليه، ويُنمِّيه ويُزكِّيه، ويَسمو به ويُحَلِّيه ويُجلّيه، ومِنَ القَواطع والمكدِّراتِ يُخَلِّيه..
فانظر -أيها القارئ!- أين ذُرى صُحبتِك لغيرها مِن أهلك أو لأصحابك، وأين هضابُ (لعلها وديان؟!) صُحبةِ أُمِّك؟
فإنْ كان العكس؛ فاحمد الله وسله جَلَّ جَلالُهُ الثبات، وراقِبِ الإخلاص، فلا يَبرّ البارُّ لِيُقال: بارّ! فقد يقال ولكنْ... إذا الأجرُ قد بار!
وفي المقابل: فإنّ مَن اجتهد في حُسْنِ صحابةِ أُمِّه متعبّدًا لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بذلك، إلّا أنه أخطأ شيئًا، أو تعثّر يومًا؛ فإنّ إخلاصَه مرقًى له إلى مغفرة الربِّ الرحيم:
قال سبحانه:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} سورة الإسراء.
قال العلامة القرطبي رَحِمَهُ اللهُ:
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ} أَيْ مِنَ اعْتِقَادِ الرَّحْمَةِ بِهِمَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوقِ، أَوْ مِنْ جَعْلِ ظَاهِرِ بِرِّهِمَا رِيَاءً" اﻫ مِن "الجامع لأحكام القرآن" -المكتبة العصرية- (5/ 411).
وقال العلامة البقاعي رَحِمَهُ اللهُ:
"ولقد أبلغ سبحانه في الإيصاء بهما، حيث بدأه بأنْ شفع الإحسانَ إليهما بتوحيدِه، ونَظَمه في سِلكه، وخَتَمه بالتضرُّعِ في نجاتهما، جزاءً على فِعْلِهما، وشكرًا لهما، وضَيَّق الأمرَ في مراعاتهما، حتى لم يرخِّصْ في أدنى شيءٍ مِن امتهانهما، مع موجِباتِ الضَّجَر، ومع أحوالٍ لا يَكاد يَدْخُل الصَّبْرُ إليها في حَدِّ الاستطاعة إلا بتدريبٍ كبير!
ولَمّا كان ذلك عَسِرًا جدًّا؛ حَذَّر مِن التهاوُن به بقولِه تَعالى: {رَبُّكُم} أي المحسِنُ إليكم في الحقيقة، فإنه هو الذي عَطَف عليكم مَن يُربِّيكم، وهو الذي أعانهم على ذلك {أَعْلَمُ} أي منكم {بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} مِن قَصْدِ البِرِّ بهما وغيرِه، فلا يُظْهِرْ أحدُكم غيرَ ما يُبْطِن؛ فإنّ ذلك لا يَنفعه، ولا يُنجيه، إلا أن يَحمل نفْسَه على ما يكون سببًا لِرَحمتهما {إِنْ تَكُونُوا} أي كونًا هو جِبِلّةٌ لكم {صَالِحِينَ} أي مُتَّقين أو مُحْسِنين في نفْسِ الأمر؛ والصّلاحُ: استقامةُ الفعلِ على ما يدعو إليه الدليلُ، وأشار إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالَجةِ النَّفْسِ وتَرجيعها كَرَّةً بعد فرّة بقوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ} أي الرَّجَّاعين إلى الخير مَرَّةً إثْرَ مَرَّةٍ بعد جماحِ أنفُسِهم عنه {غَفُورًا} أي بالغ الستر؛ تنبيهًا لِمَن وَقَع منه تقصيرٌ، فرجع عنه؛ على أنه مغفور" اﻫ مِن "نظم الدُّرَر" -الكتب العلمية- (4/ 375).
فمهما يكن؛ فإنّ الأمّ بَشَرٌ، فيقع منها الخطأ، وقد يَكره الابنُ منها ما يَكره، فإذا كان المكروه في أمْرِ الدِّين؛ فلا بد مِن النُّصْحِ على وَفْقِ حُسْن الصحبة! فالرّفْقُ واللين بأعلى ما ترفق برِفاقك، أمّا إن كان في الدنيا؛ فما ثَمّ إلا الصّبر، وقد يَبْلغ رُتبةَ الجهاد! وتلك وصيةٌ أخرى مِن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ:
«فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»؛ فقد روى الإمام مسلم في "صحيحه" (2549) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:
«أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ:
«فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».
وفي طريقٍ أخرى للحديث قال الرجل:
أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ:
«فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
«فَارْجِعْ إِلَىٰ وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا».
~~ ... ~ .....~..... ~ ... ~~
وعودًا على بدء.. على أبي هِرٍّ "الإِمَام، الفَقِيْه، المُجْتَهِد، الحَافِظ"[5] الصَّحابيِّ الجليلِ راوي حديث أحقِّ الناس بحُسْنِ الصُّحبة.. تُرى كيف امتثل؟ فإنه مِن قومٍ نقلوا العلمَ للعمل! سنرى:
قال الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- في "صحيحه" (2491): حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَٰنِ، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:
(كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللهُمَّ! اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ».
فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ[6]، فَقَالَتْ:
مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ!
وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ، وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ:
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَىٰ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللهِ! أَبْشِرْ؛ قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ، وَهَدَىٰ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ!
فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَىٰ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللهُمَّ! حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هٰذَا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ».
فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي).
ومزيد:
روى الإمام البخاري في "أدبه" بإسناده عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ -مَوْلَىٰ أُمِّ هَانِئِ ابْنَةِ أَبِي طَالِبٍ- أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ رَكِبَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَىٰ أَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ، فَإِذَا دَخَلَ أَرْضَهُ صَاحَ بِأَعْلَىٰ صَوْتِهِ:
عَلَيْكِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ يَا أُمَّتَاهُ! تَقُولُ:
وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، يَقُولُ:
رَحِمَكِ اللَّهُ كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا، فَتَقُولُ:
يَا بُنَيَّ! وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَرَضِيَ عَنْكَ؛ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا). حسّن الوالدُ -رَحِمَهُ اللهُ- إسناده؛ "صحيح الأدب المفرد" (11).
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللهُ:
( كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ:
"اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِأُمِّي، وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمَا".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: فَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمَا حَتَّىٰ نَدْخُلَ فِي دَعْوَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ). صحّح أبي -رَحِمَهُ اللهُ- إسناده؛ "صحيح الأدب المفرد" (28).
ومزيد فريد:
قال الإمام مسلم في "صحيحه" حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىٰ قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ:
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ».
وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ! لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمِّي؛ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ.
قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ؛ لِصُحْبَتِهَا[7].
~~ ... ~ .....~..... ~ ... ~~
ألا ما أبعده عن هٰذي المعاني الساميات، وأَقْزَمَه عن أشجارِ العطاءِ السامقاتِ، الثابتات في أرضِ شَرْعِنا الحنيف راسخات؛ ذاك الذي رفع لـ(عيد الأمّ) رأسًا! فالبِرُّ في ديننا حياةٌ يوميةٌ على مدار العام بل العمر؛ لا يومًا في عام! والصّالحون يَدْعُون ربَّهم:
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74)
قال الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيرها:
"وقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يعني: الذين يَسألون الله أن يُخرج مِن أصلابهم وذرّيّاتهم مَن يُطيعه ويَعبده وَحْدَه لا شريك له.
قال ابنُ عبّاس: يَعنون مَن يَعمل بالطاعة؛ فتقرُّ به أعينُهم في الدنيا والآخرة.
وقال عكرمة: لم يريدوا بذلك صَباحة ولا جمالَا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.
وقال الحسن البصري -وسئل عن هذه الآية- فقال: أن يُري اللهُ العبدَ المسلمَ مِن زوجته، ومن أخيه، ومِن حميمه طاعة الله. لا والله! ما شيء أقر لعين المسلم مِن أن يَرى ولدًا، أو ولدَ ولدٍ، أو أخًا، أو حميمًا مُطيعًا لله عَزَّ وَجَلَّ.
وقال ابن جُرَيْج في قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال: يَعبدونك ويُحسنون عبادتك، ولا يجرُّون علينا الجرائر.
وقال عبد الرحمٰن بن زيد بن أسلم: يعني: يسألون اللهَ لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام" اﻫ مِن "تفسير القرآن العظيم" -ط 2 دار طيبة- (6/ 132).
فهل الابنُ الذي يحتفي ببدعةٍ وتشبُّهٍ بالكُفّار؛ قُرّةُ عين؟! 
~~ ... ~ .....~..... ~ ... ~~
يا خوفىٰ! هٰذا القول فأين العمل؟!
يا أسفىٰ! هٰذي خلجات القلب، فهل تَداعى له سائرُ الجسد؟!
«رَبِّ! أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَىٰ لِي، وَانْصُرْنِي عَلَىٰ مَنْ بَغَى عَلَيَّ.
رَبِّ! اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مُطِيعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا.
رَبِّ! تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي»[8].

حررتْه:
سُكَينة الألبانيّة
غرّة شعبان 1433 هـ


[1] - رواه الإمام البخاري في "الأدب المفرد"، وحسّن الوالدُ -رَحِمَهُ اللهُ- إسنادَه؛ "صحيح الأدب المفرد" (14)، وينظر "إرواء الغليل" (2026).
[2] - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَالْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا». رواه الإمام النسائي وغيره وصححه أبي -رَحِمَهُم اللهُ-؛ "إرواء الغليل" تحت (1199).
[3] - رواه الحافظ الطبراني في "الكبير" (22/ 378) بسند صحيح، ورواه دون قصة السَّهْمِ الإمامُ البخاري في "الأدب المفرد" وصحح الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- إسناده في "صحيح الأدب المفرد" (389).
[4] - في بعض الروايات كما في رواية الحافظ ابن حبان؛ ينظر "التعليقات الحِسان" (435).
[5] - كما ترجم له العلامة الذهبي في "السِّير" (2/ 578).
[6] - (مُجَافٌ) أَيْ مُغْلَقٌ . قَوْله: (خَشْف قَدَمِي) أَيْ صَوْتهمَا فِي الْأَرْض. ينظر شرح النووي على صحيح مسلم -ط بيت الأفكار- ص 1509.
[7] - قال العلامة النووي رَحِمَهُ اللهُ:
قَوْله: (وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة لَمْ يَكُنْ يَحُجّ حَتَّى مَاتَتْ أُمّه؛ لِصُحْبَتِهَا) الْمُرَادُ بِهِ حَجُّ التَّطَوُّع؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمَ بِرَّ الْأُمِّ عَلَىٰ حَجّ التَّطَوُّع؛ لِأَنَّ بِرَّهَا فَرْضٌ، فَقُدِّمَ عَلَى التَّطَوُّع. وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَب مَالِك أَنَّ لِلْأَبِ وَالْأُمّ مَنْع الْوَلَد مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّع دُون حَجَّةِ الْفَرْض" اﻫ من شرح النووي على صحيح مسلم -ط بيت الأفكار- ص 1060.
[8] - رواه الأئمة أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وصححه أبي -رَحِمَهُم اللهُ جميعًا-؛ "ظلال الجنة" (384).