ألا أُخْبِرُكُم بما يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
رَجُلٌ يَصُومُ الدَّهْرَ؟ قَالَ:
«وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَطْعَمِ الدَّهْرَ».
قَالُوا: فَثُلُثَيْهِ؟ قَالَ:
«أَكْثَرَ»(1).
قَالُوا:
فَنِصْفَهُ؟ قَالَ:
«أَكْثَرَ»(2). ثُمَّ قَالَ:
«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ».
رواه النسائي.
__________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أي: هو أكثر مِن حدِّ المشروع.
(2) أقول: لعل المقصود بعدم شرعية صيامِ نصفِه إنما هو إذا كان يَسرُد الصومَ فيه لا يُفطِر، بخلاف ما لو صام فيه يومًا وأفطر يومًا؛ فإنه أفضلُ الصيام، كما في الحديث الآتي بعده، ولا سيما ولمسلمٍ في روايةٍ له (1159): «صَومُ دَاود: نِصْفُ الدَّهْرِ». فتأمَّلْهُ جيدًا؛ يتبيَّنْ لك أنه لا تَعارُضَ بين الحديثين؛ خلافًا لِما ذهب إليه السندي رحمه اللهُ تعالى". انتهى كلام أبي رحمه الله.
"صحيح الترغيب والترهيب" (9- كتاب الصوم/ 9- الترغيب في صوم ثلاثة أيام من كل شهر/ 1/ 600/ ح 1036 (صحيح)).

وفي حديثٍ رواه البزار عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -وورد عن غيره-:
«صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؛ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ». وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (1032).

فائدة في معنى وأصلِ (وَحَر الصَّدْر)
الوَحَرُ: الغيظُ، والحِقْدُ، وبَلابِلُ الصدر، ووساوسُه، وغِشُّه، وقيل: العداوةُ، وقيل: أشدُّ الغضب.
وقال السِّنديُّ:  "وَقِيلَ: مَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْكُدُورَاتِ وَالْقَسْوَة، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاد هَاهُنَا الْحَاصِلَةُ بِالِاعْتِيَادِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ فَإِنْ شرْعَ الصَّوْمِ لِتَصْقِيلِ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ. وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال: طَالِب الْعِبَادَة لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِلَا عِبَادَةٍ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْكَافِيَ فِي الِاطْمِئْنَانِ هَذَا الْقَدْرُ وَالْبَاقِي زَائِدٌ عَلَيْهِ. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ" اﻫ من "حاشية سنن النسائي" (2/ 208 و 209- ط الإحياء).
"ويقال: إِنَّ أَصل هذا مِن الدُّوَيْبَّة التي يقال لها الوَحَرَةُ.
وهي وزَغَةٌ تَكُونُ فِي الصَّحاري أَصغرُ مِنَ العِظاءَةِ، وَهِيَ عَلَى شَكْلِ سامِّ أَبْرَصَ.
وَجَمْعُهَا: وَحَرٌ.
وَهِيَ صَغِيرَةٌ حَمْرَاءُ تَعْدُو فِي الجَبابِينِ، لَهَا ذَنَبٌ دَقِيقٌ تَمْصَعُ بِهِ إِذا عَدَتْ، وَهِيَ أَخبث الْعِظَاءِ، لَا تطأُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا إِلا سَمَّتْهُ[1]، وَلَا يأْكله أَحد إِلَّا دَقِيَ بطنُه وأَخذه قَيْءٌ، وَرُبَّمَا هَلَكَ آكِلُهُ.
وقال الْجَوْهَرِيُّ: الْوَحَرَةُ، بِالتَّحْرِيكِ، دُوَيْبَّةٌ حَمْرَاءُ تَلْتَزِقُ بالأَرض كَالْعِظَاءِ.
فشُبِّهَتِ العداوةُ والغلُّ ولزوقُها بالصَّدرِ بِالتِزاقِ الوَحَرَةِ بالأَرض!" بتصرف واختصار مِن "لسان العرب" (5/ 281، ط1، 1410، دار صادر).

الأحد 10 شوال 1439ه


[1] - في الأصل: شَمته، بالشين المعجمة، ولكنها على الصواب في الكتاب نفسه (11/ 340).

فإذا فُتح البابُ للواصلين


الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله.
أمّا بعد
مِن مواعظ ابن الجوزي -رحمه الله- موعظةٌ ابتدأها بقوله:
"إخواني! أَيَّامُ العَافِيَة غنيمَةٌ بارِدَة
وأوقاتُ السَّلامَة لَا تشبهها فَائِدَة
فَتَنَاولْ مَا دَامَت لديكَ الْمَائِدَة
فَلَيْسَتِ السَّاعَاتُ الذاهبات بعائدة!
إلى أن قال في الخاتمة:
اسمعوا وصايانا يَا مودِّعين!
إِذا جنَّ اللَّيْلُ فسيروا فِي بَوادي الدُّجى
وأنيخوا بِوادي الذُّلّ
واجلسوا فِي كسرِ الانكسار
فَإِذا فُتِح الْبَابُ للواصلين دونكم؛ فاهجموا هجومَ الْكَذَّابين!
وابسطوا كفَّ {وَتَصَدَّقْ عَلَينَا}، لَعَلَّ هَاتفَ الْقبُولِ يقول: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم}.
وَإِذ  جئْتُمْ  ثنياتِ  اللِّوى * فلِجوا ربعَ  الْحِمى فِي  خَطري
وصِفوا شوقي إِلَى  سُكَّانه * واذْكُرُوا مَا عنْدكُمْ مِن  خبري
وَاحَنيني نَحْو أَيَّامٍ   مَضَت * بالحِمى لم أقْضِ مِنْكُم وطري!
كلما   اشْتقتُ   تمنّيتُكم * ضَاعَ عُمري  بالْمُنَى  واعُمري!
"المدهش" (ص660 و 664 – ط الكوثر).


مما يستحثُّ الهممَ لاغتنام رمضان أنه إذا أتاك لن يعود! رمضان 1438ه، ذاك لن يعود إلى الأبد إلى الأبد! ولنطرد هذا المعنى في كل عبادة؛ كل عبادة لو تأملنا فيها فإنها إذا فات وقتها لن تعود، مثلًا: صلاة فجر 22 شعبان 1439، لن تعود أبدًا، أبدًا، فالتسويف الذي يخدِّر العزيمة بأنك إذا قصَّرتَ الآن ستعوّض في الصلاة القادمة، وفي رمضان القادم؛ ينبغي أن يُنسَف بهذا الانتباه. أما الذي أقعده عن الاغتنام عذرٌ ما، فقد يكون له في عود (جنس) الموسم مجالٌ للتعويض، وفرصةٌ لردّ الخسارة، وذلك لِما يقوم في قلبه من حرقةٍ على الفوت، وصدقٍ في حينه أنه لو لم يكن من أهل الأعذار لَما تخلف عن صفوف المغتنمين.

أما أنت أيها الصحيح المقيم المعافى المنعَّم! فلَكَ التنبيهُ! ولقلبك التفطين! 

الإثنين 19 رمضان 1439 ه