أقصر صيغة مِن صيغ الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتة


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أمّا بعد:
فهذا إرشادٌ مِن الوالد -رحمه الله- لمأمومٍ يعمل بمشروعية الصلوات الإبراهيمية في التشهد الأول، ولكنّ إمامَه ليس كذلك، مما يعني أنه سيقوم للركعة التالية والمأموم لَمَّا يَنْتهِ مِن صلواته تلك -غالبًا-، وهذا الإرشاد ينفع حتى في الجلسة التي بعدها سلامٌ مع أئمةٍ يُسرعون في هذه الأذكار، خاصة في التراويح، والله المستعان!

قال -رحمه الله- بعد أن تكلم في إثبات مشروعية الصلاة على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول:

والصلاة على النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ينبغي أن لا نجعلها بتراء، وإنما كاملة، [بتراء] يعني كما يقول المذهب الشافعي، أنه يقول: اللهم على صلِّ على محمَّد، -ولا أذكر الآن إذا قالوا: وعلى آل محمد- ثم يقوم! أقول: لم تأتِ الصلاة على النبي عليه السلام هكذا، لكنها جاءت بصيغ متعددة، بعضها فيه طول، وبعضها فيه قِصَر.

فإذا كان الإنسان يصلي وراء إمامٍ سريعِ القراءة، ليس بطيئَها، فهو قد جرّب بأنه لا يكاد ينتهي هو مِن التشهد إلا يكون قام الإمام، ففي هذه الحالة يختار المصلِّي أقصرَ صيغة مِن صيغِ الصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الثابتةِ عنه، وقد كنتُ جمعتُها في كتابي "صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ"، فأقصرُها أن يَجمع بين قولِه الصلاةَ والتبريكَ:

«اللَّهُمَّ! صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[1].

هذا أقصر شيء [ثبت]، فإن استطاع المصلِّي أن يتمِّم؛ وإلا فيتابع الإمامَ وليس عليه شيء إن شاء الله.

وإنما إذا صلَّى هو إمامًا أو صلَّى منفردًا فينبغي أن يحافظ على الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حتى في التشهد الأول؛ لأن ذلك هو الأكمل. والبحث في هذا طويل[2].." اهـ بتصرف من "المتفرقات" (177) أواخر الدقيقة 45.



الجمعة 26 رمضان 1440هـ



[1] - عزاه الوالد للطحاوي، ينظر تحقيقُه -رحمه الله- في "أصل صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (3/ 927).
[2] - ينظر للفائدة: "أصل صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (3/ 904 - 912).

عملية حسابية نافعة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه

أمّا بعد

فههنا عمليّة حسابيّة يَسيرة، تنفع الأذكياءَ أولي الألباب والبصيرة، أنقلها من كتاب الشيخ عبد العزيز السلمان -رحمه الله- "إيقاظ أولي الهِمَمِ العالية إلى اغتنامِ الأيامِ الخالية" (ص227 و228، ط4، 1407ه)، وهي في الأصل فقراتٌ مِن كلام ابن الجوزيّ -رحمه الله- في "لفتة الكبد"، وليس بحوزتي الآن:

"ومِن نصيحة والدٍ لولدِه:

اعلمْ أنَّ مَن تَفَكَّر في الدُّنيا قبل أن يوجَدَ؛ رَأَى مُدَّةً طويلةً.

فإذا تَفَكَّر في يومِ القيامة؛ عَلِمَ أنه خمسون ألفَ سَنَة.

فإذا تَفَكَّر في اللّبثِ في الجنةِ أو النَّار؛ عَلِمَ أنه لا نهايةَ لهُ!

فإذا عاد إلى النَّظَرِ في مقدارِ بقائِه -فَرَضْنَا ستِّين سَنةً مثلًا-؛ فإنه يَمضي منها ثلاثون سَنةً في النوم، ونحوٌ مِن خمسَ عشرَة في الصِّبا.

فإذا حَسَبَ الباقي؛ كان أكثرَ في الشهواتِ والمطاعِمِ والمكاسِب.

فإذا خَلَصَ مَا لِلآخِرةِ؛ وجد فيه مِنَ الرِّياءِ والغفلةِ كثيرًا.

فبماذا تشتري الحياةَ الأبديةَ وإنما الثَّمَنُ هذهِ السَّاعاتُ؟!

فانتبهْ -يا بُنيَّ!- لِنَفْسِكَ.

واندَمْ على ما مضى مِن تفريطِك.

واجتهد في لحاقِ الكاملين ما دام في الوقت سعةٌ.

واسْقِ غُصنَكَ ما دامتْ فيه رُطوبةٌ.

واذكٌر ساعتَكَ التي ضاعتْ؛ فكفى بها عِظة؛ ذَهبتْ لذةُ الكسَلِ فيها، وفاتت مراتبُ الفضائل.

وقد كان السلفُ الصالحُ رحمهمُ اللهُ يحبُّون جمْعَ كُلِّ فضيلةٍ، ويَبكون على فواتِ واحدةٍ منها؛ قال إبراهيمُ بنُ أدهم -رحمه الله-: دخلنا على عابدٍ مريضٍ، وهو ينظُر إلى رِجلَيه ويَبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: على يومٍ مضى ما صُمْتُه، وعلى ليلةٍ ذهبتْ ما قمتُها". والله أعلم، وصلى اللهُ على محمَّد" اهـ.

وبعد!

فإذا تابعنا العمليّةَ الحسابيّةَ في هذا الزمن الخاصّ (رمضان)، الكائنِ )أيامًا مَعْدُودَاتٍ(.

ثم في الزمنِ الأخصِّ (ليالي العشر الأواخر).

فهل سيبقى مِن الساعات سوى سويعات؟!

فاللهمَّ! أعِنَّا على شُكرِكَ، وذِكركَ، وحُسْنِ عبادتِكَ.



الثلاثاء 23 رمضان 1440هـ


كلَّ مَن أَعْرَضَ عن شيءٍ مِنَ الحقِّ وجَحَدَهُ؛ وَقَعَ في باطِلٍ مُقابِلٍ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
أمَّا بعد
فقد ذَكَرَ العلامةُ الإمامُ ابنُ القيمِ -في معرضِ رَدِّه على القائلين بالفَناء- قاعدةً عامَّةً نافِعة، أَنقلُها بِحَسَبِ سِياقه لها؛ فقد قَدَّم لها بأمثلة، وأَتْبَعها بأخرى، قال رَحِمَهُ اللهُ:

"...مِثْل حالِ إبليس: تَكبَّر عن السجودِ لآدم// ورضي لِنفْسِه بالقيادةِ لِفُسَّاقِ ذُرِّيَّتِه!
ومِثل المشركين: تَكبَّروا عن عبادةِ اللهِ الحيِّ القيُّوم// ورضوا لأنفسِهم بعبادةِ الأحجارِ والأشجارِ والموتى والأوثان!
ومِثل أهلِ البدع: تَكبَّروا عن تقليدِ النصوصِ وتَلَقِّي الهدى مِن مشكاتها// ورضوا لأنفسهم بتقليدِ أقوالٍ مخالِفة للفطرة والعقل والشرع، وظنُّوها قواطعَ عقليّةً، وقَدَّموها على نصوصِ الأنبياء، وهي في الحقيقة شبهاتٌ مخالِفةٌ لِلسمع والعقل!
ومِثل الجهميّةِ: نزَّهوا الرَّبَّ عن عرشِه// وجعلوه في أجوافِ البيوتِ والحوانيتِ والحمَّامات، وقالوا: هو في كلِّ مكانٍ بذاته!
ونزَّهوه عن صفات كمالِه ونُعُوتِ جَلاله؛ حَذَرًا -بزَعمهم- مِن التشبيه// فشبَّهُوه بالجامِدات الناقصة الخسيسة التي لا تتكلَّم، ولا سَمْعَ لها ولا بَصَر، ولا عِلم ولا حياة، بل شَبَّهوه بالمعدومات الممتنع وجودُها!
ومِثل المعطِّلة: الذين قالوا: "ما فوقَ العرشِ إلا العدم، وليس فوق العرش ربٌّ يُعبَد، ولا إله يُصلَّى له ويُسجَد، ولا ترتفع الأيدي إليه، ولا رُفِع المسيحُ إليه، ولا تَعْرُج الملائكةُ والرُّوح إليه، ولا أَسرى برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، ولا دنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ولا يَنزِل مِن عنده شيءٌ، ولا يَصعد إليه شيءٌ، ولا يَراه أهلُ الجنةِ مِن فوقهم يومَ القيامة، واستواؤه على عرشِه لا حقيقة له؛ بل على المجاز الذي يصِحُّ نَفْيُه، وعُلُوُّه فوق خَلْقِه بالرُّتبةِ والشَّرَف؛ لا بالذَّاتِ، وكذلك فوقيّتُه فَوقيّةُ قَهْرٍ لا فوقيةَ ذاتٍ"؛ فنَزَّهُوه عن كمال عُلُوِّهِ وفوقيّتِه، ووَصفوه بما ساوَوا به بينه وبين العَدَم والمستحيل؛ فقالوا: "لا هو داخلَ العالَم، ولا خارجَه، ولا متصلٌ به، ولا منفصلٌ عنه، ولا مُحايِثٌ له[1]، ولا مُبَايِنٌ له، ولا هو فينا، ولا خارج عنا.
ومعلومٌ أنه لو قيل لأحدهم: "صِفْ لنا العدَمَ"؛ لَوَصَفَه بهذا بِعَينِه.
وانطباقُ هذا السَّلْبِ على العَدَمِ المحْضِ أقربُ إلى العُقولِ والفِطَر مِن انطباقِه على ربِّ العالمين الذي ليس في مخلوقاتِه شيءٌ مِن ذاتِه، ولا في ذاته شيءٌ مِن مخلوقاته؛ بل هو بائنٌ مِن خَلْقِه، مستوٍ على عرشِه، عالٍ على كلِّ شيءٍ، وفَوق كلِّ شيء.
والقَصْدُ:
أنَّ كلَّ مَن أَعْرَضَ عن شيءٍ مِنَ الحقِّ وجَحَدَهُ؛
وَقَعَ في باطِلٍ مُقابِلٍ لِمَا أَعْرَضَ عنه مِنَ الحقِّ وجَحَدَهُ، ولا بُدَّ.
حتى في الأعمال:
مَن رَغِبَ عنِ العملِ لِوَجْهِ اللهِ وَحْدَه// ابتلاه اللهُ بالعملِ لِوُجوهِ الخَلْقِ، فرَغِبَ عنِ العملِ لِمَن ضَرُّه ونَفْعُه ومَوتُه وحياتُه وسعادتُه بيده؛ فابتُلي بالعملِ لِمَن لا يَمْلِك له شيئًا مِن ذلك!
وكذلك مَن رَغِبَ عن إنفاقِ مالِه في طاعةِ الله// ابتُلي بإنفاقِه لِغير الله، وهو راغم!
وكذلك مَن رَغِبَ عن التَّعَبِ للهِ// ابتُلي بالتَّعَبِ في خِدمةِ الخَلق، ولا بُدَّ.
وكذلك مَن رَغِبَ عن الهدى بالوَحْيِ// ابتُلي بكِناسَةِ الآراءِ، وزِبالةِ الأذهان، ووَسَخِ الأفكار.
فليتأمَّلْ مَن يريد نُصْحَ نَفْسِه وسعادتَها وفلاحَها هذا الموضِعَ في نفْسِه وفي غيره" اﻫ "مدارج السالكين" (1/ 309-311/ منزلة الفكرة، ط2، 1429 ﻫ، دار طيبة).


13 رمضان 1440 هـ


[1] - وضّح المحققُ معنى ذلك في موضعٍ سابق مِن "المدارج" (1/ 138) فقال: "قال في "اللسان": وأَحاثَهُ: حَرَّكَه وفَرَّقه. اهـ، وعلى هذا يكون المحايث هو المفارِق" اهـ.

نِسيانُ الجِنَاية


بسم الله الرحمٰن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله

أما بعد

فقد عدّد صاحبُ "منازل السائرين" -الشيخُ الهرويُّ- سرائرَ حقيقة التوبة ثلاثةَ أشياءٍ، منها:

نِسيانُ الجِنَاية

وانسابَ التبيانُ مِنْ مُزْنِ الإمامِ ابنِ القيِّم، يجلّي لنا: هل الأفضلُ للتائبِ أنْ يَذْكُرَ جِنايتَه أمْ أنْ يَنساها؟ فقال:

"وأمّا نسيان الجناية: فهٰذا موضعُ تفصيلٍ؛ فقد اختلف فيه أربابُ الطريق:

فمنهم: مَن رأى الاشتغالَ عن ذِكرِ الذَّنْبِ والإعراضَ عنه صفحًا؛ فصفاءُ الوقتِ مع اللهِ تعالىٰ أَولىٰ بالتائبِ وأنفعُ له، ولهٰذا قيل:

ذِكْرُ الجفا في وقتِ الصفا: جَفا.

ومنهم: مَن رأىٰ أنّ الأَولىٰ أن لا يَنسىٰ ذَنْبَه، بل لا يزال جاعِلًا له نُصبَ عينيه، يلاحِظُه كلَّ وقتٍ، فيُحْدِثُ له ذٰلك انكِسارًا وذُلًّا وخُضوعًا أنفعَ له مِن جمعيَّتِه وصفاءِ وقتِه.

قالوا: ومتىٰ تُهْتَ عنِ الطريقِ؛ فارجع إلىٰ ذَنْبِكَ؛ تَجِدِ الطريقَ.

ومعنىٰ ذٰلك: أنك إذا رجعتَ إلىٰ ذَنْبِكَ؛ انكَسرْتَ وذَلَلْتَ وأَطْرَقْتَ بين يدي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خاشعًا ذليلًا خائفًا، وهٰذه طريق العبودية.

والصواب: التفصيلُ في هٰذه المسألةِ، وهو أن يُقال:

q إذا أَحَسَّ العبدُ مِن نَفْسِه حالَ الصفاءِ غَيمًا مِن الدَّعْوىٰ، ورَقِيقةً مِنَ العُجْبِ، ونِسيان المنَّة، وخَطَفَتْهُ نَفْسُه عن حقيقةِ فَقْرِه ونَقْصِهِ؛ فذِكْرُ الذَّنْبِ أنفعُ له.

q وإن كان في حالِ مُشاهدتِه مِنَّةَ اللهِ عليه، وكمالَ افتقارِه إليه، وعدمَ استغنائه عنه في ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِه، وقد خَالَطَ قلبَه حالُ المحبةِ، والفَرَحِ بالله، والأُنسِ به، والشوقِ إلىٰ لقائه، وشهودِ سعةِ رحمتِه وحِلمهِ وعفوِه، وقد أَشْرَقَتْ علىٰ قلبِه أنوارُ الأسماءِ والصفات؛ فنِسيانُ الجنايةِ والإعراضُ عنِ الذَّنْبِ أَولىٰ به، وأنفعُ؛ فإنه متىٰ رَجَعَ إلىٰ ذِكْرِ الجنايةِ؛ تَوارَىٰ عنه ذٰلك، ونَزَل مِن عُلُوٍّ إلىٰ أسفل، ومِن حالٍ إلىٰ حالٍ، بينهما مِن التفاوُت أَبْعَدَ مما بين السماء والأرض، وهٰذا مِن حَسَدِ الشيطان له؛ أراد أن يَحُطَّه عن مقامِه وسَيرِ قلبِه في ميادينِ المعرفةِ والمحبةِ والشَّوقِ، إلىٰ وحشةِ الإساءةِ وحَصْرِ الجِناية.

والأولُ يَكون شُهودُه لِجنايتِه مِنَّةً مِنَ اللهِ مَنَّ بها عليه؛ ليؤمِّنَه بها مِن مَقْتِ الدَّعوىٰ، وحِجاب الكِبْرِ الخَفِيِّ الذي لا يَشعر به، فهٰذا لَونٌ، وهٰذا لَونٌ.

وهٰذا المحلُّ فيه أمْرٌ وَراءَ العِبارة! وبالله التوفيق، وهو المستعان" اﻫ مِن "مدارج السالكين" (1/ 373 و374، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).


الخميس 4 رمضان 1440هـ

الترغيب في الرباط، وليس مِن ذلك ملازَمةُ الصوفيةِ للرُّبُط


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
كتاب الجهاد (1).
(الترغيب في الرباط في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ).
عن سهل بن سعد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»(2).
رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم (3).
(الغَدوة) بفتح الغين المعجمة: هي المرَّة الواحدة مِن الذهاب.
و (الرَّوحة) بفتح الراء: المرَّة الواحدة مِن المجيء.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أصل الجهاد في اللغة: الجهد، وهو المشقة. وفي الشرع: بذل الجهد في قتال الكفار.
قلت: هو أعم مِن قتالهم بالأسلحة الحربية؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ». "المشكاة" (3821)، و"صحيح أبي داود" (1261).
(2) (الرِّباط) بكسر الراء وبالباء الموحدة الخفيفة: ملازَمة المكان الذي بين الكفار والمسلمين؛ لِحراسة المسلمين منهم.
قلت: وليس مِن ذلك ملازمةُ الصوفية للرُّبُط، وانقطاعُهم فيها للتعبُّد، وتركُهم الاكتسابَ، اكتفاءً منهم -زعموا([1])- بكفالة مسبِّبِ الأسباب سبحانه وتعالى، كيف وهو القائل: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، ولذلك قال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لا يَقعدنّ أحدكم في المسجد يقول: اللهُ يرزقني؛ فقد عَلمتُم أنَّ السماءَ لا تمطرُ ذهبًا ولا فضة).
وقوله: «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» أي: على الدنيا، وفائدة العدول عن قوله: "وما فيها" هو أنّ معنى الاستعلاءِ أعمُّ مِن الظرفية وأقوى، فقصده زيادة للمبالغة([2])، وبيان الحديث أنّ الدنيا فانية، والآخرة باقية. والدائم الباقي خير مِن المنقطع الكثير. والله أعلم.
(3) قلت: عزوه لمسلم لا يخلو مِن تسامح؛ فإنه لم يرو منه (6/ 36) إلا جملة الغدوة، وانظر "تحفة الأشراف" (4/ 113/ 4716)، وهي مروية عن جمع مِن الصحابة منهم سلمان الآتي بعده. وهي مخرجة في "الإرواء" (5/ 3 - 4).

"صحيح الترغيب والترهيب" (12- كتاب الجهاد/ 1- الترغيب في الرباط في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ / 2/ 64/ ح 1216 (صحيح)).

الأربعاء 27 رجب 1440هـ




([1]) من ذلك قول المناوي في شرح حديثٍ آخرَ في فضل الرباط: "أصلُ الرِّبَاطِ: مَا ترْبط فِيهِ الْخَيل، ثمَّ قيل لكلِّ أهل ثغرٍ يدْفع عَمَّن خَلفه: رِبَاط، وَأُخذ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّة مُلَازمَة الصُّوفِيَّة للرُّبُط؛ لِأَن المرابط يدْفع عَمَّن خَلفه، والمقيم فِي الرِّبَاط على التَّعَبُّد يُدْفع بِهِ وبدعائه الْبلَاء عَن الْعباد والبلاد، لَكِنْ ذَكَرَ الْقَوْمُ للمرابطة بالزوايا والربط شُرُوطًا، مِنْهَا: قطع الْمُعَامَلَة مَعَ الْخلق وَفتح الْمُعَامَلَة مَعَ الْحق، وَترك الِاكْتِسَاب اكْتِفَاء بكفالة مسبب الْأَسْبَاب، وَحبس النَّفس عَن المخالطات والمعاملات، وَاجْتنَاب التَّبعَات، وملازمة الذّكر والطاعات، وملازمة الأوراد، وانتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة، وَاجْتنَاب الفضلات، وَضبط الأنفاس، وحراسة الْحَواس، فَمَن فَعَل ذَلِك؛ سُمي مرابطًا مُجَاهدًا، وَمَن لَا؛ فَلَا" اﻫ من "التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/ 28).
([2]) ينظر شرح بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 176).

لا يَقْبَلُ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلًا


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
روى النسائيُّ والطبرانيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«اللهُمَّ! مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ(1) وَأَخَافَهُمْ؛ فَأَخِفْهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا»
[1] (الصرف): هو الفريضة. و (العدل): التطوع، قاله سفيان الثوري.
[2] وقيل: هو النافلة، و (العدل): الفريضة.
[3] وقيل: (الصرف): التوبة، و (العدل): الفدية. قاله مكحول.
[4] وقيل: (الصرف): الاكتساب، و (العدل): الفدية.
[5] وقيل: (الصرف): الوزن، و (العدل): الكيل.
وقيل غير ذلك ([1]) .

وقال -الحافظ المنذري- في موضع آخر:
وعن يزيد بن شريك بن طارق التميمي قال:
رأيتُ عليًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على المنْبَرِ يخطُبُ، فسمعتُه يقولُ:
لا -واللهِ!- ما عِنْدَنا مِنْ كتابٍ نَقْرَؤه إلَّا كِتابَ اللهِ، وَمَا في هَذِهِ الصَّحيفَةِ.
فَنَشَرَها، فَإذا فيها أسْنانُ الْإبِلِ، وأشْيَاءٌ مِنَ الجِرَاحاتِ، وفيها: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا([2]) ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
وَمَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي(2).

وفي موضع آخر:
عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاغْتَبَطَ(3) بقَتْلِه؛ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».
رواه أبو داود. ثم روى عن خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الْغَسَّانِيَّ عَنْ قَوْلِهِ «اعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ»؛ قَالَ:
"الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي الْفِتْنَةِ، فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلَى هُدًى، لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ [يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ]".
(الصرف): النافلة. و (العدل): الفريضة. وقيل: غير ذلك، وتقدم فيمن أخافَ أهلَ المدينة.

وآخر :
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ثَلاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلًا:
عَاقٌّ.
وَمَنَّانٌ.
وَمُكَذِّبٌ بالقَدَرِ».
رواه ابن أبي عاصم في "كتاب السنة"(4) بإسناد حسن.
__________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) زاد أبو نعيم في "الحلية": "ظالمًا لهم".
(2) قلت: يعني في "الكبرى" (2/ 486/ 4277 و4278)، وليس عنده، ولا عند المذكورين معه "رأيت عليًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على المنبر"، وقد ساقه البخاري في خمسة مواضع (1870 و3172 و3179 و6755 و7300)، وكذلك ليست عند آخرين ممن خرجوا الحديث كابن حبان بروايتين (3708 و3709)، وأحمد بثلاث روايات، وغيرهم، وهو مخرج في "الإرواء" (1058)، فالظاهر أنَّ المؤلف رواه بالمعنى، ففي رواية البخاري الأخيرة بلفظ: "خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ. . .".
(3) الأصل: (فاعتبط) بالعين المهملة، والتصويب من المخطوطة و"سنن البيهقي" وما يأتي، ووقع في بعض نسخ (أبي داود) بالعين المهملة. قال الناجي:
"تفسير الراوي الآتي يدل على أنه من (الغبطة) بالغين المعجمة، وهو الفرح والسرور؛ لأن القاتل يفرح بقتل خصمه، وإذا كان المقتول مؤمنًا وفرح بقتله؛ دخل في هذا الوعيد. كذا نقله المصنف في حواشي "مختصر السنن"، ثم نقل عن الخطابي أن اللفظة (اعتبط) بالعين المهملة وقال: يريد أنه قتله ظلمًا لا عن قصاص".
(4) رقم (323 - بتحقيقي).

"صحيح الترغيب والترهيب" (11- كتاب الحج/ 15- الترغيب في سكنى المدينة إلى الممات/ 2/ 63/ ح 1215 (صحيح)).
(17- كتاب النكاح وما يتعلق به/ 8 - الترهيب من أنْ يَنْتَسِبَ الإنسان إلى غير أبيه أو يتولى غير مواليه/2/ 436/ ح 1986 (صحيح) ).
(21- كتاب الحدود وغيرها/ 9- الترهيب من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق/ 2/ 633/ ح 2450 (صحيح)).
(22- كتاب البر والصلة وغيرهما/ 2- الترهيب من عقوق الوالدين/ 2/ 662و 663/ ح 2513 (حسن)).

خلاصة
مِن الذين لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلًا:
- مَن ظَلَمَ أهلَ المدينة وأخَافَهُمْ.
- مَن أتى ببدعةٍ في المدينة، أو رضي فيها ببدعة.
- مَن أتى بجريمة منكَرة فيها، أو نَصَر مجرمًا وحال بينه وبين القصاص.
- مَن نقض عهدَ مسلمٍ لكافر، فتعرَّض له بقتلٍ أو بأخذِ مال.
- مَن انتسب إلى غير أبيه.
- مَن انتمى إلى غير مَن أعتقه.
- مَن قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله. ومنه: 
- الذي يقاتِل في الفتنة فيَرى أنه على هُدًى؛ فلا يَستغفِر.
- العاقّ لوالدَيه أو أحدِهما.
- المنّان بما يعطي.
- المكذِّب بالقَدَر.

نسأل اللهَ العافية.
ربَّنا! تقبَّلْ منّا؛ إنكَ أنتَ السّميعُ العليم
وتُبْ علينا؛ إنكَ أنتَ التوّابُ الرّحيم

الجمعة 10 جمادى الآخرة 1440هـ


([1]) من الأقوال:
[6] "الصَّرْفُ: المَيْلُ، والعَدْلُ: الاسْتِقامةُ، قاله ابنُ الأَعرابِيّ.
[7] وقِيلَ: الصَّرْفُ: ما يُتَصَرَّفُ به، والعَدْلُ: المَيْلُ، قاله ثَعْلَبٌ.
[8] وقيلَ: الصَّرْفُ: الزِّيادةُ والفَضْلُ، وليس هذا بشَيءٍ.
[9] وقيل: الصَّرْفُ: القِيمة، والعَدْلُ: المِثْلُ. وأَصلُه في الفِدْيَةِ، يقال: لم يَقْبَلُوا منهم صَرْفًا ولا عَدْلًا: أي لم يَأْخُذوا منهم دِيَةً، ولم يَقْتُلُوا بقَتِيلهِم رَجُلًا واحِداً، أي: طَلَبُوا منهم أَكْثَرَ من ذلك، وكانت العَرَبُ تَقْتُلُ الرجُلَيْنِ والثلاثةَ بالرَّجُلِ الواحدِ، فإِذا قَتَلُوا رَجُلًا برَجُلٍ، فذلك العَدْلُ فيهم، وإذا أَخَذُوا دِيَةً فقد انْصَرَفُوا عن الدَّمِ إلى غيره، فصَرَفُوا ذلك صَرْفًا، فالقِيمةُ صَرْفٌ؛ لأَنَّ الشيءَ يُقَوَّمُ بغيرِ صِفَتِه، ويُعْدَلُ بما كانَ في صِفَتِه، ثم جُعِلَ بعدُ في كُلِّ شيءٍ، حتى صارَ مَثَلًا فيمَنْ لم يُؤْخَذْ منه الشَّيْءُ الذي يَجِبُ عَلَيه، وأُلْزِمَ أَكْثَرَ منه، فتأَمَّلْ ذلِك" اﻫ من "تاج العروس" مادة صرف (12/ 12/ ط 1408هـ، مطبعة حكومة الكويت).
[10] وقيل: "الصّرْف: الْحِيلَة، وَمِنْه قَوْلهم: إِنَّه ليتصرف فِي الْأُمُور، وَالْعدْل: الْفِدَاء" اﻫ من "تلقيح فهوم أهل الأثر" (ص: 526، ط1، 1418، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم - بيروت).
وقال الشيخ العثيمين رَحِمَهُ اللهُ:
"(صرف) يعني صرْف العذابِ عنه بدون مُقابل، و(لا عدل) أي بمقابل، يعني: لو طَلَبَ أن يُشفع له ويُرفع عنه العذاب؛ لا يُقبل، لو طلب أن يُسلِّمَ فداءً؛ لا يُقبل، نسأل الله العافية" اﻫ من "أشرطة شرح كتاب الحج من صحيح البخاري" للعلامة العثيمين (بداية الشريط 21).
([2]) أي نقض عهده، قال ابن الأثير: "خَفَرْت الرجُل: أجَرْته وحَفِظْته. وخَفَرْتُهُ إِذَا كُنْتَ لَهُ خَفِيراً، أَيْ حَامِيًا وكفِيلًا. وتَخَفَّرت بِهِ إِذَا اسْتَجَرت بِهِ. والْخُفَارَةُ- بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ-: الذِّمَامُ. وأَخْفَرْتُ الرَّجُلَ، إِذَا نقضتَ عَهْدَهُ وذِمامه. وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلإزَالة: أَيْ أَزَلْتَ خِفَارَتَهُ، كأشْكَيته إِذَا أزلْتَ شِكَايَته، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ" اﻫ من "النهاية" (3/ 53).