أقصر صيغة مِن صيغ الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتة


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أمّا بعد:
فهذا إرشادٌ مِن الوالد -رحمه الله- لمأمومٍ يعمل بمشروعية الصلوات الإبراهيمية في التشهد الأول، ولكنّ إمامَه ليس كذلك، مما يعني أنه سيقوم للركعة التالية والمأموم لَمَّا يَنْتهِ مِن صلواته تلك -غالبًا-، وهذا الإرشاد ينفع حتى في الجلسة التي بعدها سلامٌ مع أئمةٍ يُسرعون في هذه الأذكار، خاصة في التراويح، والله المستعان!

قال -رحمه الله- بعد أن تكلم في إثبات مشروعية الصلاة على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول:

والصلاة على النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ينبغي أن لا نجعلها بتراء، وإنما كاملة، [بتراء] يعني كما يقول المذهب الشافعي، أنه يقول: اللهم على صلِّ على محمَّد، -ولا أذكر الآن إذا قالوا: وعلى آل محمد- ثم يقوم! أقول: لم تأتِ الصلاة على النبي عليه السلام هكذا، لكنها جاءت بصيغ متعددة، بعضها فيه طول، وبعضها فيه قِصَر.

فإذا كان الإنسان يصلي وراء إمامٍ سريعِ القراءة، ليس بطيئَها، فهو قد جرّب بأنه لا يكاد ينتهي هو مِن التشهد إلا يكون قام الإمام، ففي هذه الحالة يختار المصلِّي أقصرَ صيغة مِن صيغِ الصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الثابتةِ عنه، وقد كنتُ جمعتُها في كتابي "صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ"، فأقصرُها أن يَجمع بين قولِه الصلاةَ والتبريكَ:

«اللَّهُمَّ! صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[1].

هذا أقصر شيء [ثبت]، فإن استطاع المصلِّي أن يتمِّم؛ وإلا فيتابع الإمامَ وليس عليه شيء إن شاء الله.

وإنما إذا صلَّى هو إمامًا أو صلَّى منفردًا فينبغي أن يحافظ على الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حتى في التشهد الأول؛ لأن ذلك هو الأكمل. والبحث في هذا طويل[2].." اهـ بتصرف من "المتفرقات" (177) أواخر الدقيقة 45.



الجمعة 26 رمضان 1440هـ



[1] - عزاه الوالد للطحاوي، ينظر تحقيقُه -رحمه الله- في "أصل صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (3/ 927).
[2] - ينظر للفائدة: "أصل صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (3/ 904 - 912).

عملية حسابية نافعة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه

أمّا بعد

فههنا عمليّة حسابيّة يَسيرة، تنفع الأذكياءَ أولي الألباب والبصيرة، أنقلها من كتاب الشيخ عبد العزيز السلمان -رحمه الله- "إيقاظ أولي الهِمَمِ العالية إلى اغتنامِ الأيامِ الخالية" (ص227 و228، ط4، 1407ه)، وهي في الأصل فقراتٌ مِن كلام ابن الجوزيّ -رحمه الله- في "لفتة الكبد"، وليس بحوزتي الآن:

"ومِن نصيحة والدٍ لولدِه:

اعلمْ أنَّ مَن تَفَكَّر في الدُّنيا قبل أن يوجَدَ؛ رَأَى مُدَّةً طويلةً.

فإذا تَفَكَّر في يومِ القيامة؛ عَلِمَ أنه خمسون ألفَ سَنَة.

فإذا تَفَكَّر في اللّبثِ في الجنةِ أو النَّار؛ عَلِمَ أنه لا نهايةَ لهُ!

فإذا عاد إلى النَّظَرِ في مقدارِ بقائِه -فَرَضْنَا ستِّين سَنةً مثلًا-؛ فإنه يَمضي منها ثلاثون سَنةً في النوم، ونحوٌ مِن خمسَ عشرَة في الصِّبا.

فإذا حَسَبَ الباقي؛ كان أكثرَ في الشهواتِ والمطاعِمِ والمكاسِب.

فإذا خَلَصَ مَا لِلآخِرةِ؛ وجد فيه مِنَ الرِّياءِ والغفلةِ كثيرًا.

فبماذا تشتري الحياةَ الأبديةَ وإنما الثَّمَنُ هذهِ السَّاعاتُ؟!

فانتبهْ -يا بُنيَّ!- لِنَفْسِكَ.

واندَمْ على ما مضى مِن تفريطِك.

واجتهد في لحاقِ الكاملين ما دام في الوقت سعةٌ.

واسْقِ غُصنَكَ ما دامتْ فيه رُطوبةٌ.

واذكٌر ساعتَكَ التي ضاعتْ؛ فكفى بها عِظة؛ ذَهبتْ لذةُ الكسَلِ فيها، وفاتت مراتبُ الفضائل.

وقد كان السلفُ الصالحُ رحمهمُ اللهُ يحبُّون جمْعَ كُلِّ فضيلةٍ، ويَبكون على فواتِ واحدةٍ منها؛ قال إبراهيمُ بنُ أدهم -رحمه الله-: دخلنا على عابدٍ مريضٍ، وهو ينظُر إلى رِجلَيه ويَبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: على يومٍ مضى ما صُمْتُه، وعلى ليلةٍ ذهبتْ ما قمتُها". والله أعلم، وصلى اللهُ على محمَّد" اهـ.

وبعد!

فإذا تابعنا العمليّةَ الحسابيّةَ في هذا الزمن الخاصّ (رمضان)، الكائنِ )أيامًا مَعْدُودَاتٍ(.

ثم في الزمنِ الأخصِّ (ليالي العشر الأواخر).

فهل سيبقى مِن الساعات سوى سويعات؟!

فاللهمَّ! أعِنَّا على شُكرِكَ، وذِكركَ، وحُسْنِ عبادتِكَ.



الثلاثاء 23 رمضان 1440هـ


كلَّ مَن أَعْرَضَ عن شيءٍ مِنَ الحقِّ وجَحَدَهُ؛ وَقَعَ في باطِلٍ مُقابِلٍ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
أمَّا بعد
فقد ذَكَرَ العلامةُ الإمامُ ابنُ القيمِ -في معرضِ رَدِّه على القائلين بالفَناء- قاعدةً عامَّةً نافِعة، أَنقلُها بِحَسَبِ سِياقه لها؛ فقد قَدَّم لها بأمثلة، وأَتْبَعها بأخرى، قال رَحِمَهُ اللهُ:

"...مِثْل حالِ إبليس: تَكبَّر عن السجودِ لآدم// ورضي لِنفْسِه بالقيادةِ لِفُسَّاقِ ذُرِّيَّتِه!
ومِثل المشركين: تَكبَّروا عن عبادةِ اللهِ الحيِّ القيُّوم// ورضوا لأنفسِهم بعبادةِ الأحجارِ والأشجارِ والموتى والأوثان!
ومِثل أهلِ البدع: تَكبَّروا عن تقليدِ النصوصِ وتَلَقِّي الهدى مِن مشكاتها// ورضوا لأنفسهم بتقليدِ أقوالٍ مخالِفة للفطرة والعقل والشرع، وظنُّوها قواطعَ عقليّةً، وقَدَّموها على نصوصِ الأنبياء، وهي في الحقيقة شبهاتٌ مخالِفةٌ لِلسمع والعقل!
ومِثل الجهميّةِ: نزَّهوا الرَّبَّ عن عرشِه// وجعلوه في أجوافِ البيوتِ والحوانيتِ والحمَّامات، وقالوا: هو في كلِّ مكانٍ بذاته!
ونزَّهوه عن صفات كمالِه ونُعُوتِ جَلاله؛ حَذَرًا -بزَعمهم- مِن التشبيه// فشبَّهُوه بالجامِدات الناقصة الخسيسة التي لا تتكلَّم، ولا سَمْعَ لها ولا بَصَر، ولا عِلم ولا حياة، بل شَبَّهوه بالمعدومات الممتنع وجودُها!
ومِثل المعطِّلة: الذين قالوا: "ما فوقَ العرشِ إلا العدم، وليس فوق العرش ربٌّ يُعبَد، ولا إله يُصلَّى له ويُسجَد، ولا ترتفع الأيدي إليه، ولا رُفِع المسيحُ إليه، ولا تَعْرُج الملائكةُ والرُّوح إليه، ولا أَسرى برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، ولا دنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ولا يَنزِل مِن عنده شيءٌ، ولا يَصعد إليه شيءٌ، ولا يَراه أهلُ الجنةِ مِن فوقهم يومَ القيامة، واستواؤه على عرشِه لا حقيقة له؛ بل على المجاز الذي يصِحُّ نَفْيُه، وعُلُوُّه فوق خَلْقِه بالرُّتبةِ والشَّرَف؛ لا بالذَّاتِ، وكذلك فوقيّتُه فَوقيّةُ قَهْرٍ لا فوقيةَ ذاتٍ"؛ فنَزَّهُوه عن كمال عُلُوِّهِ وفوقيّتِه، ووَصفوه بما ساوَوا به بينه وبين العَدَم والمستحيل؛ فقالوا: "لا هو داخلَ العالَم، ولا خارجَه، ولا متصلٌ به، ولا منفصلٌ عنه، ولا مُحايِثٌ له[1]، ولا مُبَايِنٌ له، ولا هو فينا، ولا خارج عنا.
ومعلومٌ أنه لو قيل لأحدهم: "صِفْ لنا العدَمَ"؛ لَوَصَفَه بهذا بِعَينِه.
وانطباقُ هذا السَّلْبِ على العَدَمِ المحْضِ أقربُ إلى العُقولِ والفِطَر مِن انطباقِه على ربِّ العالمين الذي ليس في مخلوقاتِه شيءٌ مِن ذاتِه، ولا في ذاته شيءٌ مِن مخلوقاته؛ بل هو بائنٌ مِن خَلْقِه، مستوٍ على عرشِه، عالٍ على كلِّ شيءٍ، وفَوق كلِّ شيء.
والقَصْدُ:
أنَّ كلَّ مَن أَعْرَضَ عن شيءٍ مِنَ الحقِّ وجَحَدَهُ؛
وَقَعَ في باطِلٍ مُقابِلٍ لِمَا أَعْرَضَ عنه مِنَ الحقِّ وجَحَدَهُ، ولا بُدَّ.
حتى في الأعمال:
مَن رَغِبَ عنِ العملِ لِوَجْهِ اللهِ وَحْدَه// ابتلاه اللهُ بالعملِ لِوُجوهِ الخَلْقِ، فرَغِبَ عنِ العملِ لِمَن ضَرُّه ونَفْعُه ومَوتُه وحياتُه وسعادتُه بيده؛ فابتُلي بالعملِ لِمَن لا يَمْلِك له شيئًا مِن ذلك!
وكذلك مَن رَغِبَ عن إنفاقِ مالِه في طاعةِ الله// ابتُلي بإنفاقِه لِغير الله، وهو راغم!
وكذلك مَن رَغِبَ عن التَّعَبِ للهِ// ابتُلي بالتَّعَبِ في خِدمةِ الخَلق، ولا بُدَّ.
وكذلك مَن رَغِبَ عن الهدى بالوَحْيِ// ابتُلي بكِناسَةِ الآراءِ، وزِبالةِ الأذهان، ووَسَخِ الأفكار.
فليتأمَّلْ مَن يريد نُصْحَ نَفْسِه وسعادتَها وفلاحَها هذا الموضِعَ في نفْسِه وفي غيره" اﻫ "مدارج السالكين" (1/ 309-311/ منزلة الفكرة، ط2، 1429 ﻫ، دار طيبة).


13 رمضان 1440 هـ


[1] - وضّح المحققُ معنى ذلك في موضعٍ سابق مِن "المدارج" (1/ 138) فقال: "قال في "اللسان": وأَحاثَهُ: حَرَّكَه وفَرَّقه. اهـ، وعلى هذا يكون المحايث هو المفارِق" اهـ.

نِسيانُ الجِنَاية


بسم الله الرحمٰن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله

أما بعد

فقد عدّد صاحبُ "منازل السائرين" -الشيخُ الهرويُّ- سرائرَ حقيقة التوبة ثلاثةَ أشياءٍ، منها:

نِسيانُ الجِنَاية

وانسابَ التبيانُ مِنْ مُزْنِ الإمامِ ابنِ القيِّم، يجلّي لنا: هل الأفضلُ للتائبِ أنْ يَذْكُرَ جِنايتَه أمْ أنْ يَنساها؟ فقال:

"وأمّا نسيان الجناية: فهٰذا موضعُ تفصيلٍ؛ فقد اختلف فيه أربابُ الطريق:

فمنهم: مَن رأى الاشتغالَ عن ذِكرِ الذَّنْبِ والإعراضَ عنه صفحًا؛ فصفاءُ الوقتِ مع اللهِ تعالىٰ أَولىٰ بالتائبِ وأنفعُ له، ولهٰذا قيل:

ذِكْرُ الجفا في وقتِ الصفا: جَفا.

ومنهم: مَن رأىٰ أنّ الأَولىٰ أن لا يَنسىٰ ذَنْبَه، بل لا يزال جاعِلًا له نُصبَ عينيه، يلاحِظُه كلَّ وقتٍ، فيُحْدِثُ له ذٰلك انكِسارًا وذُلًّا وخُضوعًا أنفعَ له مِن جمعيَّتِه وصفاءِ وقتِه.

قالوا: ومتىٰ تُهْتَ عنِ الطريقِ؛ فارجع إلىٰ ذَنْبِكَ؛ تَجِدِ الطريقَ.

ومعنىٰ ذٰلك: أنك إذا رجعتَ إلىٰ ذَنْبِكَ؛ انكَسرْتَ وذَلَلْتَ وأَطْرَقْتَ بين يدي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خاشعًا ذليلًا خائفًا، وهٰذه طريق العبودية.

والصواب: التفصيلُ في هٰذه المسألةِ، وهو أن يُقال:

q إذا أَحَسَّ العبدُ مِن نَفْسِه حالَ الصفاءِ غَيمًا مِن الدَّعْوىٰ، ورَقِيقةً مِنَ العُجْبِ، ونِسيان المنَّة، وخَطَفَتْهُ نَفْسُه عن حقيقةِ فَقْرِه ونَقْصِهِ؛ فذِكْرُ الذَّنْبِ أنفعُ له.

q وإن كان في حالِ مُشاهدتِه مِنَّةَ اللهِ عليه، وكمالَ افتقارِه إليه، وعدمَ استغنائه عنه في ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِه، وقد خَالَطَ قلبَه حالُ المحبةِ، والفَرَحِ بالله، والأُنسِ به، والشوقِ إلىٰ لقائه، وشهودِ سعةِ رحمتِه وحِلمهِ وعفوِه، وقد أَشْرَقَتْ علىٰ قلبِه أنوارُ الأسماءِ والصفات؛ فنِسيانُ الجنايةِ والإعراضُ عنِ الذَّنْبِ أَولىٰ به، وأنفعُ؛ فإنه متىٰ رَجَعَ إلىٰ ذِكْرِ الجنايةِ؛ تَوارَىٰ عنه ذٰلك، ونَزَل مِن عُلُوٍّ إلىٰ أسفل، ومِن حالٍ إلىٰ حالٍ، بينهما مِن التفاوُت أَبْعَدَ مما بين السماء والأرض، وهٰذا مِن حَسَدِ الشيطان له؛ أراد أن يَحُطَّه عن مقامِه وسَيرِ قلبِه في ميادينِ المعرفةِ والمحبةِ والشَّوقِ، إلىٰ وحشةِ الإساءةِ وحَصْرِ الجِناية.

والأولُ يَكون شُهودُه لِجنايتِه مِنَّةً مِنَ اللهِ مَنَّ بها عليه؛ ليؤمِّنَه بها مِن مَقْتِ الدَّعوىٰ، وحِجاب الكِبْرِ الخَفِيِّ الذي لا يَشعر به، فهٰذا لَونٌ، وهٰذا لَونٌ.

وهٰذا المحلُّ فيه أمْرٌ وَراءَ العِبارة! وبالله التوفيق، وهو المستعان" اﻫ مِن "مدارج السالكين" (1/ 373 و374، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).


الخميس 4 رمضان 1440هـ