معنى (الحجِّ) ودليلُ آكِدِيَّةِ رُكْنِيَّتِهِ - مِن "حاشية ثلاثة الأصول" -


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

57- ما معنى (الحجِّ) لُغَةً وشَرْعًا؟
وكيف دَلَّ الدَّليلُ علىٰ آكِدِيَّةِ رُكْنِيَّتِهِ؟

البيان
قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الْحَجِّ*: قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
{ولِلَّهِ عَلَى الناسِ حِجُّ البَيِت** مِنَ استَطَاعَ إلَيهِ سَبِيلًا*** وَمَن كَفَرَ فَإنَّ الَّلهَ غَني عِن العَالَمِينَ****} (آل عمران: 97) ).
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
* وَأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ.
وَالْحَجُّ لُغَةً: قَصْدُ الشَّيْءِ وَإتْيَانُهُ.
وَشَرْعًا: قَصْدُ مَكَّةَ لِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ، فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ.
** أيْ: {ولِلَّهِ} فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلى النَّاسِ، {حِجُّ البَيِتِ} قَصْدُهُ لأَدَاءِ النُّسُكِ، فَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وإجْمَاعِ الأُمَّةِ.
*** أََيْ: عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ.
والاسْتِطَاعَةُ: الْقُدْرَةُ بِنَفْسِهِ عَلَى الذَّهَابِ، وَوُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، بَعْدَ قَضَاءِ الْوَاجِبَاتِ عَلَيهِ، وَغَيْرُ ذَٰلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ.
**** أََيْ: مَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّىٰ مَاتَ؛ فَهُوَ كُفْرٌ بِهِ[1]، وَإذا كَانَ دَلَّ عَلَىٰ كُفْرِهِ؛ فَقَدْ دَلَّ عَلَىٰ آكِدِيَّةِ رُكْنِيَّتِهِ، وَفِي الأثَرِ:
(مَنْ ماتَ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَلا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا)[2]" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 81.
~~~~~~~
قال العلامة حافظ الحكمي -رَحِمَهُ اللهُ- في "منظومة السُّبُل السَّويّة" (الأبيات: 880 – 883):
"لربِّنا الحجُّ على العِــــبادِ ... فَــرْضٌ مُحَــتَّمُ بِلا تَـرْدَادِ
تَظَــــاهَرتْ بذٰلك الأدِلَّهْ ... وَأَجْــمَعَ الأَئِمَّـــةُ الأَجِلَّهْ
بَلْ أُطْلِقَ الكُفْرُ عَلىٰ مَن تَـرَكَهْ ... جَحْدًا لِفَرْضِهِ فَــيَا لَلهَـلَكَهْ!
وهو علىٰ كلِّ مُكَلَّفٍ إنْ يَسْتَطِعْ ... إلىٰ أدائِهِ سَـبيلاً  فَاسْــتَمِعْ"
الخميس 19 ربيع الأول 1434


[1] - كُفرًا أصغرَ لا أكبرَ، إلا إذا جَحَد وجوبَه؛ فأكبر. تُنظر شروح العلماء -كالشيخ الجامي والشيخ العثيمين رَحِمَهُمَا اللهُ، والشيخ الفوزان حَفِظَهُ اللهُ- لِهٰذا الموضع مِن "ثلاثة الأصول".
[2] - صحّ موقوفًا عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أفاده أبي رَحِمَهُ اللهُ، ويُنظر "هداية الرّواة" (3/ 44).

تعليقاتٌ وجيزة عَلَىٰ آيةِ الصِّيام - مِن "حاشية ثلاثة الأصول" -


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

56- الصيامُ عِبادةٌ مَعروفةٌ قَبْلَ الإسلامِ، ما هي أدلَّةُ ذٰلك؟
ومتىٰ فُرِضَ؟
وما ثَمَرَتُهُ؟

البيان
قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الصِّيَامِ: قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) ).
قال الشيخُ عبدُ الرحمٰن بن محمد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"أَمَرَ -تَعَالَىٰ- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هٰذِهِ الأُمَّةِ بِالصِّيَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ زَكاَةِ النُّفُوسِ وَتَطْهِيرِهَا، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الأخْلاطِ الرَّدِيئةِ، وَالأخْلاقِ الرَّذِيلَةِ[1].
وَفُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ.
وَذَكَرَ -تَعَالَىٰ- أَنَّه فَرَضَهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيهِمْ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَىٰ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَهُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ، قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ[2]:
"كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ الإسْلامِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحِينَ"[3] [عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]:
(يَوْمُ عَاشُورَاءَ كانَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ)".
ثُمَّ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي تَوَارَثَتْهُ الأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يَعْنِي: بِالصَّومِ؛ لأَنَّهُ وَصْلَةٌ إِلَى التَّقْوَىٰ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَكَسْرِ الشَّهْوَاتِ[4]" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص80 و 81.
~~~فائدة~~~~~~~~~~~~~
في التشبيهِ الواردِ في آية الصيام
قال الإمام العثيمين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ:
"قوله تَعَالَىٰ: { كَمَا كُتِبَ}؛ (ما) مصدريّة، والكاف حرفُ جرّ، وتفيد التشبيه، وهو تشبيهٌ لِلكتابة بالكتابة، وليس المكتوبَ بالمكتوب.
والتشبيهُ بالفعل دون المفعول أمرٌ مطّرد، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ»[5]، التشبيهُ هنا للرُّؤْيَةِ بالرُّؤْيَة؛ لا لِلْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ؛ لأنَّ الكافَ دَخَلتْ على الفعل الذي يؤول إلىٰ مَصْدَر.
قوله تَعَالَىٰ: {عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي مِن الأمم السابقة، يَعُمُّ اليهودَ والنَّصارىٰ ومَن قَبلهم؛ كلُّهم كُتِبَ عليهم.
وهٰذا التشبيهُ فيه فائدتان:
الفائدة الأولىٰ: التسلية لِهٰذه الأمة؛ حتىٰ لا يقال: كُلِّفْنا بهٰذا العمل الشَّاقِّ دون غيرنا! لِقولِه تَعَالَىٰ: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزُّخرف: 39)، يعني لن يُخَفِّفَ عنكم العذابَ اشتِراكُكم فيه، كما هي الحال في الدنيا؛ فإنَّ الإنسان إذا شارَكَه غيرُه في أمْرٍ شاقٍّ؛ هان عليه، ولِهٰذا؛ قالتِ الخنساءُ تَرثي أخاها صَخْرًا:
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَىٰ إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي!
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلٰكِنْ ... أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي!
الفائدة الثانية: استكمال هٰذه الأمة للفضائل التي سَبَقَتْ إليها الأُمم السابقة؛ ولا ريب أنّ الصيام مِن أعظم الفضائل؛ فالإنسان يَصبر عن طعامه وشرابه وشهوته لله عَزَّ وَجَلَّ؛ ومِن أجل هٰذا اختصَّه اللهُ لِنَفْسِه، فقال تَعَالَىٰ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىٰ سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»[6].
قوله تَعَالَىٰ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ (لعل) للتعليل؛ ففيها بيانُ الحكمةِ مِن فَرْضِ الصَّوم؛ أيْ: تَتَّقون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ هٰذه هي الحِكمةُ الشَّرْعيَّةُ التَّعَبُّدِيَّةُ لِلصَّومِ، وما جاء سوىٰ ذٰلك مِن مصالح بَدَنيّة، أو مصالح اجتماعيّة؛ فإنها تَبَع" اﻫ مِن "تفسير القرآن الكريم"/ البقرة (2/ 316 و317، ط 1، صفر 1423 ﻫ، دار ابن الجوزي).
ضُحى السبت 14 ربيع الأول 1434ﻫ


[1] - "تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير (1/ 497، ط 2 ، 1420 ﻫ، دار طيبة).
[2] - "مجموع الفتاوىٰ" (25/ 220).
[3] - "صحيح البخاري" (3831) و"صحيح مسلم" (1125).
[4] - قاله العلامة السّمعاني في "تفسيره" (1/ 179، ط 1، 1418ﻫ ، دار الوطن - الشاملة).
[5] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَتُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ؟» قَالُوا: لا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ»، رواه الحافظ الترمذيّ (2554) وصحَّحه أبي رَحِمَهُ اللهُ، وفي "الصحيحين" نحوُه.
[6] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىٰ سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»؛ "صحيح مسلم" (1151).

تعليقٌ لأبي الإمام الألبانيّ على الحديث الجليل: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا»


بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتمِ رُسُلِ الله؛ محمدٍ، وعلىٰ آله وصحبه وإخوانِه؛ مَنِ اتَّبَعوا هُداه.
أمَّا بعد
قال أبي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ- في أحدِ دروسِ شرح "الترغيب والترهيب" الشريط (57/ ب)[1]:
"درسنا الليلة في كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذريّ، الحديث الثامن والعشرين، قال:
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
رواه مسلم.
وهٰذا الحديث إنذارُ الرسولِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ لأُمَّتِهِ بفتنٍ لا يتصوَّرها عَقْلُ إنسانٍ! فِتن عظيمة! «كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»! يُفْتَتَن فيها المسلمُ، فيُصْبِح مؤمنًا ويمسي كافرًا، والعكس بالعكس تمامًا.
وقولُه عَلَيْهِ السَّلامُ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ» إنما يعني: الأعمالَ الصالحة، فهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يحضُّ أُمَّتَه، لا سيّما في الأزْمنة المتأخِّرة التي كلَّما تأخَّر بنا الزَّمن؛ كلَّما كثُرَتْ بنا الفتن، وكلَّما اقْتربنا مِن أشراطِ الساعةِ الكبرىٰ، فيَأمرنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ بهٰذا الحديث الصحيح أن نُبادر هٰذه الفتنَ بالأعمال الصالحة، أي: أن نَستقبلَها بالأعمال الصالحة، حتىٰ إذا ما فوجئنا بها؛ نكونُ قد تدرَّعْنا وتَسَلَّحْنا بهٰذه الأعمال الصالحة، فتَحُوْلُ بَيننا وبين أن نقع في مثلِ هٰذه الفتن التي هي «كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ».
فحَصَانةُ المسلمِ مِن أيِّ فتنةٍ مِن هٰذه الفتن التي ذُكرتْ بصورةٍ عامة في هٰذا الحديث، أو مِن فِتنٍ أخرىٰ سيأتي ذِكرُ بعضها في حديثٍ ثانٍ، فالوقايةُ مِن هٰذه الفتن كلِّها إنما هو: العملُ الصالح، فبالعمل الصالح يتدرَّعُ المسلم ويَتَحَصَّن مِن أن يَمُرَّ بهٰذه الأطوار الغريبة! التي يصفها الرسولُ عَلَيْهِ السَّلامُ بقوله:
«يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا».
والسبب؟
أوضَحَ ذٰلك الرسولُ عَلَيْهِ السَّلامُ بقوله:
«يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ» حَقيرٍ «مِن» حُطامِ «الدُّنْيَا»!
ومِثْلُ هٰذا الحديث لا يَحتاج إلىٰ فَهْمٍ كبير؛ فنحن نرى الناسَ وكيف يُفْتَنون بطَلَبِ الدُّنيا هٰذه مِن مناصِب وجَاهاتٍ ومراكز ونحو ذٰلك.
فإذًا؛ على المسلم أن يَتدرَّع بالعملِ الصالح.
ولا شكَّ ولا ريب أنَّ العملَ الصالحَ -كما ذكرنا لكم مرارًا وتكرارًا- لا يُفيد صاحبَه شيئًا مُطلقًا إلا بأن يَقْتَرِنَ هٰذا العملُ الصالح بالإيمانِ الصحيح، والإيمانُ الصحيحُ لا يكون إلا بالإيمانِ بما جاء عنِ اللهِ ورسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، وبالمفهومِ الصحيحِ المطابِق لِمَا كان عليه سَلَفُ هٰذه الأُمَّة وفيهم الأئمّةُ الأربعة.
فلا يجوز لِمسلمٍ أن يُقْبِلَ على العملِ الصالح يبتغي بذٰلك النَّجاةَ يومَ القيامة وفي الوقتِ نَفْسِه يُهْمِلُ إصلاحَ عقيدتِه؛ فإنه والحالةُ هٰذه يَذهب عَملُهُ الصالحُ هَباءً منثورًا، كما قال ربُّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ في كتابه في حَقِّ الذين أشركوا بربِّهم:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} (الفرقان: 23).
لذٰلك؛ فيجب أن نتذكَّر دائمًا وأبدًا حينما يمرُّ بنا ذِكْرُ الأعمال الصالحة أن نقرن معها دائمًا وأبدًا: الإيمانَ الصالح أيضًا، ولذٰلك؛ ما مِن آية إلا وتَبْدأ بِذِكرِ الإيمان ثم تُثَنِّي بذِكرِ الأعمالِ الصالحة، كقوله تَعَالَىٰ:
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (سورة العصر).
أقول هٰذا لأننا في زَمَنٍ كَثُرتْ فيه الأهواءُ والبِدَعُ، بَعضُها وَرثناه مِن قرونٍ طويلة مديدة، وبعضُها تَذُرُّ قَرْنَها في العصر الحاضر، فلذٰلك؛ فأهَمُّ شيءٍ يجب على المسلمِ أن يُعْنىٰ به إنما هو: تصحيحُ عقيدتِه، ثم أنْ يَضُمَّ إلىٰ ذٰلك: الإكثارَ مِنَ العمل الصالح؛ لأنَّ الإيمان ليس هو الاعتقادَ الصالح فقط، بل مِن الإيمانِ أيضًا هو: العمل الصالح.
فالرسولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ حينما يَحضُّنا -هنا- علىٰ أن نُبادِر تلك الفِتنَ بالأعمالِ الصالحة؛ إنما يحضُّنا علىٰ ذٰلك لِنَجْعَلَ بيننا وبين هٰذه الفتنِ وِقايةً وحِصْنًا حَصينًا، تَمْنعنا هٰذه الأعمالُ الصالحة مِن أن نَقَعَ في مِثْلِ هٰذه الفتن المظْلِمة التي «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»". انتهى المرادُ؛ دُرّةً أخرىٰ[2] خَضْلَة، في عِقْدٍ لا يَفتأ يَطُول دليلاً ويَنْفُسُ دَلَّة، يَزِينُ جِيْدَ منهجِ أبي مُحَدِّثِ عَصْرِه مِن الأثباتِ جِلَّةٌ رُحْلَة، يَطول ويَنْفُس وإنْ عاند جهولٌ يَلمزُه بالضِّلَّةِ ضَلَّة!
ليلة الثلاثاء 10 ربيع الأول 1434


[1] - وهو -أيضًا- في بداية الشريط (263) من "المتفرِّقات"، والشريط (85) من "فتاوىٰ سوريا".
[2] - أعني أنها ليست الوحيدة، فإثباتاتُ براءةِ الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- مِن تهمة الإرجاء مشتهرةٌ، فهٰذه تُضاف إليها؛ لأنّ ذا أوّلُ تفريغٍ لها.