الترغيب في الرباط، وليس مِن ذلك ملازَمةُ الصوفيةِ للرُّبُط


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
كتاب الجهاد (1).
(الترغيب في الرباط في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ).
عن سهل بن سعد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»(2).
رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم (3).
(الغَدوة) بفتح الغين المعجمة: هي المرَّة الواحدة مِن الذهاب.
و (الرَّوحة) بفتح الراء: المرَّة الواحدة مِن المجيء.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أصل الجهاد في اللغة: الجهد، وهو المشقة. وفي الشرع: بذل الجهد في قتال الكفار.
قلت: هو أعم مِن قتالهم بالأسلحة الحربية؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ». "المشكاة" (3821)، و"صحيح أبي داود" (1261).
(2) (الرِّباط) بكسر الراء وبالباء الموحدة الخفيفة: ملازَمة المكان الذي بين الكفار والمسلمين؛ لِحراسة المسلمين منهم.
قلت: وليس مِن ذلك ملازمةُ الصوفية للرُّبُط، وانقطاعُهم فيها للتعبُّد، وتركُهم الاكتسابَ، اكتفاءً منهم -زعموا([1])- بكفالة مسبِّبِ الأسباب سبحانه وتعالى، كيف وهو القائل: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، ولذلك قال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لا يَقعدنّ أحدكم في المسجد يقول: اللهُ يرزقني؛ فقد عَلمتُم أنَّ السماءَ لا تمطرُ ذهبًا ولا فضة).
وقوله: «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» أي: على الدنيا، وفائدة العدول عن قوله: "وما فيها" هو أنّ معنى الاستعلاءِ أعمُّ مِن الظرفية وأقوى، فقصده زيادة للمبالغة([2])، وبيان الحديث أنّ الدنيا فانية، والآخرة باقية. والدائم الباقي خير مِن المنقطع الكثير. والله أعلم.
(3) قلت: عزوه لمسلم لا يخلو مِن تسامح؛ فإنه لم يرو منه (6/ 36) إلا جملة الغدوة، وانظر "تحفة الأشراف" (4/ 113/ 4716)، وهي مروية عن جمع مِن الصحابة منهم سلمان الآتي بعده. وهي مخرجة في "الإرواء" (5/ 3 - 4).

"صحيح الترغيب والترهيب" (12- كتاب الجهاد/ 1- الترغيب في الرباط في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ / 2/ 64/ ح 1216 (صحيح)).

الأربعاء 27 رجب 1440هـ




([1]) من ذلك قول المناوي في شرح حديثٍ آخرَ في فضل الرباط: "أصلُ الرِّبَاطِ: مَا ترْبط فِيهِ الْخَيل، ثمَّ قيل لكلِّ أهل ثغرٍ يدْفع عَمَّن خَلفه: رِبَاط، وَأُخذ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّة مُلَازمَة الصُّوفِيَّة للرُّبُط؛ لِأَن المرابط يدْفع عَمَّن خَلفه، والمقيم فِي الرِّبَاط على التَّعَبُّد يُدْفع بِهِ وبدعائه الْبلَاء عَن الْعباد والبلاد، لَكِنْ ذَكَرَ الْقَوْمُ للمرابطة بالزوايا والربط شُرُوطًا، مِنْهَا: قطع الْمُعَامَلَة مَعَ الْخلق وَفتح الْمُعَامَلَة مَعَ الْحق، وَترك الِاكْتِسَاب اكْتِفَاء بكفالة مسبب الْأَسْبَاب، وَحبس النَّفس عَن المخالطات والمعاملات، وَاجْتنَاب التَّبعَات، وملازمة الذّكر والطاعات، وملازمة الأوراد، وانتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة، وَاجْتنَاب الفضلات، وَضبط الأنفاس، وحراسة الْحَواس، فَمَن فَعَل ذَلِك؛ سُمي مرابطًا مُجَاهدًا، وَمَن لَا؛ فَلَا" اﻫ من "التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/ 28).
([2]) ينظر شرح بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 176).