صَلاةٌ فِي إِثْرِ صَلاةٍ، لا لَغْوَ بَيْنَهُمَا: كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
أمّا بعدُ
روى الإمامُ أبو داود في "سُننه" (كتاب الصَّلاة/ باب صَلاةِ الضُّحَى) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

«صَلاةٌ فِي إِثْرِ صَلاةٍ، لا لَغْوَ بَيْنَهُمَا: كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ».


كما رواه بأتمّ منه في (باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ)، وجاء فيه: (عَلَىٰ أَثَرِ صَلاةٍ).
وقد حسّنه أبي –رَحِمَهُ اللهُ- في عَدَدٍ مِن كُتبه، منها: "صحيح سنن أبي داود" (567 و 1166).

قال العلامةُ بدر الدين العَيني في "شرح سنن أبي داود" (3/ 38):
"قوله: «صَلاةٌ عَلى إِثْرِ صَلاةٍ» أي: صلاةٌ عُقيب صلاةٍ، والأثر- بفتح الهمزة والثاء، وبكسر الهمزة وسكون الثاء- كلاهما بمعنى.
وارتفاعُ «صَلاةٌ» علىٰ أنه مبتدأ، ولا يقال: إنه نكرة؛ لأنها تَخصَّصت بقوله: «عَلىٰ إِثْرِ صَلاةٍ»، وخَبَرُه: قوله: «كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ».
قوله: «لا لَغْو بَيْنَهُمَا» أي: بين الصَّلاتَين، واللَّغْوُ: الباطلُ، مِن لغا الإنسانُ يَلغو، ولغى يلغي، ولغي يلغى؛ إذا تَكلَّم بالمُطَّرح مِن القول وما لا يَعْني.
ويجوز أن تكون «لا» لِنفي الجنس، ويكون «لَغْوَ» مَبنيًّا على الفتح، نحو: لا رجلَ في الدار، ويجوز أن تكون بمعنى (ليس)، ويكون «لَغْوٌ» مرفوعًا على أنه اسم (ليس)، وخَبَرُه: قوله: «بَيْنَهُمَا».
فإن قلتَ: ما موقع هٰذه الجملة؟
قلت: وقعتْ في المعنى صفةً كاشفةً لِلصلاة؛ لأن الصلاة التي تُكتب في عِلِّيين موصوفةٌ بشيئين:
الأول: أن تكون مكتنَفةً بصلاة أخرى.
والثاني: أن لا يكون بينهما لغوٌ وأباطيلُ؛ مِن الكذب والغيبة والنميمة، ونحو ذٰلك.
قوله: «كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» أي: مكتوبٌ فيها، كالحساب بمعنى: المحسوب، قال اللهُ تَعالى:
{ كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)} (المطففين).
وعليّون: جمعٌ، واحِدُه: عِلِّيّ، مشتقٌّ مِن العُلو، وهو للمبالغة، ويُقال: جُمِعَتْ كجمع الرجال؛ إذ لا واحد لها ولا تثنية.
وقال الفراء: اسم موضعٍ علىٰ صيغته، كعشرين وثلاثين.
وقال ابن مالك: عليّون اسم لأعلى الجنة، كأنه في الأصل (فعِّيل) مِن العلو، فجُمع جمْعَ ما يُعقَلُ، وسُمّي به أعلى الجنة، وله نظائر مِن أسماء الأمكنة، نحو: صريفون، وصفون، ونصيبون، وسَلحون، وقنسرون، ويَبْرون، ودارون، وفلسطون.
وقال ابن زيد: هي السماء السابعة.
وقال قتاده: إليها ينتهي أرواح المؤمنين.
وقال كعب: هي قائمة العرش اليمنى.
وقال الضحاك: هي سدرة المنتهى" اﻫ المراد مِن كلام العلامة العيني.

ويتجلَّىٰ معنىٰ (عِلِّيِّين) مِن كلامٍ لِلحافظ الإمام الطبري –رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيرِه لآيةِ سورة المطففين، إذ قال بعد أن عَدَّد الأقوالَ بنحو ما ذكره العلامةُ العَيني:
"وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذٰلِكَ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ فِي عِلِّيِّينَ؛ وَالْعِلِّيُّونَ: جَمْعٌ، مَعْنَاهُ: شَيْءٌ فَوْقَ شَيْءٍ، وَعُلُوٌّ فَوْقَ عُلُوٍّ، وَارْتِفَاعٌ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ، فَلِذٰلِكَ جُمِعَتْ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، كَجَمْعِ الرِّجَالِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَاثْنَيْهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: أَطْعِمْنَا مَرَقَةَ مَرَقِينَ: يَعْنِي اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ..... وَكَذٰلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ جَمْعٍ لَمْ يَكُنْ بِنَاءٌ لَهُ مِنْ وَاحِدِهِ وَاثْنَيْهِ، فَجَمَعَهُ فِي جَمِيعِ الإِنَاثِ وَالذُّكْرَانِ بِالنُّونِ، عَلَىٰ مَا قَدْ بَيَّنَّا، وَمِنْ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: عِشْرُونَ وَثَلاثُونَ.
فَإِذَا كَانَ ذٰلِكَ كَالَّذِي ذَكَرْنَا؛ فَبَيِّنٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَفِي عِلِّيِّينَ} مَعْنَاهُ: فِي عُلُوٍّ وَارْتِفَاعٍ، فِي سَمَاءٍ فَوْقَ سَمَاءٍ، وَعُلُوٍّ فَوْقَ عُلُوٍّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذٰلِكَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَإِلَىٰ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِلَىٰ قَائِمَةِ الْعَرْشِ، وَلا خَبَرَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ بِأَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ بَعْضُ ذٰلِكَ دُونَ بَعْضٍ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي ذٰلِكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
إِنَّ كِتَابَ أَعْمَالِ الأَبْرَارِ لَفِي ارْتِفَاعٍ إِلَىٰ حَدٍّ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مُنْتَهَاهُ، وَلا عِلْمَ عِنْدَنَا بِغَايَتِهِ، غَيْرَ أَنَّ ذٰلِكَ لا يَقْصُرُ عَنِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، لإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ الْتَأْوِيلِ عَلَى ذٰلِكَ" اﻫ مِن "تفسير الطبري" ط دار هجر (24/ 210 و211).

وجاء في "عون المعبود" (4/ 168):
صَلاة فِي إِثْر صَلاة»: أَيْ صَلاة تَتْبَع صَلاةً وَتَتَّصِل بِهَا، فَرْضًا أَوْ سُنَّة أَوْ نَفْلاً" اﻫ.
وفيه أيضًا (2/ 264):
لا لَغْو بَيْنهمَا»: أَيْ بِكَلامِ الدُّنْيَا" اﻫ.


وقال العلامة عبد المحسن العبّاد -حَفِظَهُ اللهُ تَعالىٰ- في معنى الحديث:
"يعني: أنه يُرفَع شأنُه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وتُرفَع درجتُه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، ما دام أنه صلاة علىٰ إثرِ صلاةٍ، والذي بينهما خالٍ مِنَ اللَّغو، ليس فيه إلا ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، وما يعود على الإنسان بالخير، ولا يأتي بسيئاتٍ وبكلامٍ سيِّئ ولغوٍ بين تلك الصلاتين، فإنّ هٰذا في أعلى الدرجات، وفي أعلى المنازل، ويَكتُب الله ذٰلك له، ويُثْبته عنده، ويحصِّل بذلك الدرجاتِ العالية والمنازلَ الرفيعة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ........ ومِن المعلوم أنّ الإنسان إذا أدَّى الصلواتِ الخمس وحفظ لسانَه فيما بين كلِّ صلاةٍ وصلاة؛ فلا شكَّ أنه علىٰ خير، ولا شك أنّ ذٰلك يَرفع شأنَه ودرجته عند الله عَزَّ وَجَلَّ" اﻫ.  

وسئل -حفظه الله- في شرح الرواية الأخرى عن مناسَبةِ الحديث لباب (صَلاةِ الضُّحَى)؛ فقال:
"بالنسبة لصلاة الضحىٰ؛ لا تَظهر مناسبتُه تمامًا، إلا أنَّ كونه صلاةً بَعْدَ صلاةٍ وأنه لا يَحصُل بينهما لغوٌ؛ أنّ ذٰلك مكتوب، يعني أيّ صلاة، ومِن ذٰلك: صلاةُ الفجر وصلاةُ الضحى؛ فإنّ هٰذه صلاةٌ في إثر صلاةٍ ولا لغو بينهما، يعني أن هٰذا مِن جملة ما يَدخل تحت عموم الحديث؛ لأن الحديث ليس خاصًّا بصلاةٍ مُعيَّنة، وإنما هو صلاةٌ في إثر صلاة، يعني صلاةٌ عقِبَ صلاة، سواء كانت فريضةً بعد فريضة، أو نافلتين بينهما فراغ، كلُّ ذٰلك صلاةٌ في إثر صلاة، حيث لا لغو بينهما.
 «كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ»: يعني: مكتوبٌ في عِلِّيين، تَكتبه الملائكةُ وتَرفعه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وتَصعد به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن الأعمالَ الصالحةَ تُرفَع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ" اﻫ.
***
رمضان 1432

اللهم إنك عفوٌ تحب العفوَ فاعفُ عني: تعليمُ أفضلِ الخلق لأَحَبِّ أزواجه

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتم رسل الله
أمّا بعد
تتعلَّق القلوبُ بليلة القَدْرِ للدعاء والرجاء، ولٰكنّ التفاوتَ في المتعلَّقاتِ أبعد مما بين الأرض والسماء!
وفيما يلي تنبيه إلىٰ هٰذا، نستفيده مِن العلامة ابن باديس -رَحِمَهُ اللهُ- في تعليقه علىٰ حديثِ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- المشهور:
قَالَتْ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ:
«قُولِي: اللَّهُمَّ! إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنِّي».
رواه الإمام الترمذي وغيرُه وصحَّحه أبي -رَحِمَهُم اللهُ-؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3337).
فقال -أعني الشيخ ابن باديس رَحِمَهُ اللهُ-:
"ليلةُ القَدْرِ مِن أوقاتِ الاستجابةِ، فينبغي للمؤمنِ أن يُكثِرَ فيها مِن الدعاء، ولهٰذا سألتْ عائشةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عن صيغةٍ تَدْعو بها تلك الليلة، وقد بيَّن رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِزَوجِه الكريمةِ عليه صيغةَ الدعاء، فيتعيَّن أنْ يُكرِّرَ المسلمُ هٰذا الدعاء ليلة القدر، وأن يُفَضِّلَه علىٰ ما سواه؛ لأنه لَفظُ أفضلِ الخلقِ الذي عَلَّمه لأَحَبِّ زوجاتِه.
ثم هٰذا يؤكِّد ما قَدّمناه مِن أنّ ليلةَ القدر تُراد لِلدِّين لا للدُّنيا. وكثيرٌ مِن العوامِّ يَتمنىٰ لو يَعلم ليلةَ القدْرِ لِيَطلب بها دنياه، فلْيتُبْ إلى اللهِ مَن وَقَع له هٰذا الخاطرُ السِّيئ؛ فإنّ الله يقول في كتابه العزيز:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (الشورىٰ: 20).
وكثيرٌ مِن العوامِّ يَعتقدون في بعض البيوتات الغَنيّة أنّ مؤسِّسَ ذٰلك البيت رأىٰ ليلةَ القدر، فَسَألَ اللهَ أن يَجعل مالَه ونَسلَه خيرًا مِن مالِ الناسِ ونَسْلِهم، فكان ذٰلك. ثم يَجعلون هٰذه الميزةَ الدُّنيويةَ دليلاً على ولايةِ ذٰلك الداعي وصلاح ذريتِه.
وحديثُ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وآيةُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} وما في معنىٰ ذٰلك مِن الآيات والآثار- شاهدةٌ بِفَساد ذٰلك الاعتقاد، وضلالِ تلك الأفكار، وأنّ الفَرْقَ بين التَّقيِّ والفاجر هو الإقبالُ على الآخرة أو الإقبالُ على الدنيا.
ولسنا نُنْكِر علىٰ مَن يَطلب الدُّنيا بأسبابها التي جعلها اللهُ تعالىٰ، وإنما نُنْكِر علىٰ مَن يكون هَمُّه الدنيا دون الآخرة، حتىٰ أنه يترصَّد ليلةَ القَدْرِ لِيَطلب فيها الدنيا غافِلاً عنِ الآخرة، ثم يعتقد أنّ مَن نال ثروةً دنيوية بغيرِ أسبابٍ ظاهرةٍ لديه، فإنما ذلك لولايته ودعائه ليلةَ القدر" اﻫ مِن "مجالس التذكير من حديث البشير النذير" ص211 و212.

وختامًا؛ قال الوالد رَحِمَهُ اللهُ:
"ثبت عن عائشة أنها قالت:
"لَوْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيلةٍ لَيلةُ القَدْرِ؛ لَكانَ أَكْثَرَ  دُعَائِي  فِيْهَا أَنْ أَسْأَلَ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَة".
رواه النسائي (878)، والبيهقي في "الشعب" (3702) مِن طريقَين عنها" اﻫ مِن "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7/ ق2/ 1011).
***
رمضان 1432 

... فهناك تقول حقًّا: «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي»

بسم الله الرحمٰن الرحيم
قال العلامة ابن قيم الجوزية رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
"قال صاحبُ (المنازل):
(المحاسَبَةُ لَها ثلاثةُ أركانٍ:
أحدها: أن تُقَايِسَ بين نِعمتِه وجِنايتِكَ).
يعني تُقايِسُ بين ما مِنَ اللهِ وما مِنْكَ؛ فحينئذٍ يَظهَرُ لكَ التَّفاوُتُ، وتَعْلَمُ أنّه ليس إلا عَفوُه ورحمتُه، أو الهلاكُ والعَطَبُ.
وبهٰذه الْمُقَايَسة:
تَعْلَمُ أنَّ الرَّبَّ رَبٌّ، والعَبْدَ عَبْدٌ.
ويتبيَّن لكَ:
حقيقةُ النفسِ وصفاتُها.
وعظَمةُ جلالِ الرُّبوبيّة.
وتَفَرُّدُ الرَّبِّ بالكمالِ والإفضالِ.
وأنّ كلَّ نعمةٍ منه فَضْلٌ، وكلَّ نقمةٍ منه عَدْلٌ.
وأنت قَبْلَ هٰذه المقايَسة جاهِلٌ بحقيقةِ نفسِكَ، وبرُبوبيةِ فاطرِها وخالقِها، فإذا قايَسْتَ؛ ظَهَر لك:
أنها مَنْبَعُ كلِّ شَرٍّ.
وأساسُ كلِّ نَقْصٍ.
وأنَّ حَدَّها: الجاهلةُ الظالمةُ.
وأنه لولا فضلُ اللهِ ورحمتُه بتزكيتِه لها؛ ما زَكَتْ أبدًا.
ولولا هُداه؛ ما اهْتَدتْ.
ولولا إرشادُه وتوقيفُه؛ لَمَا كان لها وصولٌ إلى خيرٍ ألبتة.
وأنّ حُصولَ ذٰلك لها مِن بارئِها وفاطرِها، وتوقُّفَه عليه كتوقُّفِ وجودِها علىٰ إيجادِه، فكما أنها ليس لها مِن ذاتها وجود؛ فكذٰلك ليس لها مِن ذاتها كمالُ الوجود؛ فليس لها مِن ذاتها إلا العدم: عدمُ الذاتِ، وعدمُ الكمال؛ فهناك تَقُول حقًّا:
«أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي»*" اﻫ مِن "مدارج السالكين" (1/ 320) –دار طيبة، ط: 2، 1429- 2008-.

* مِن حديثِ سيد الاستغفار؛ رواه الإمام البخاري وغيرُه، ونصُّه كاملاً في "صحيح البخاري" (6306): عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ:
اللَّهُمَّ! أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلا أَنْتَ
خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ
وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ
أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ
أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ
وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي
فَاغْفِرْ لِي
فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ».
قَالَ:
«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».

***
رمضان 1432

ماذا يقول الصائمُ إذا سَبَّه أَحدٌ؟

๑ ๑نصّ رسالة الجوّال๑ ๑
ماذا يقول الصائمُ إذا سَبَّه أَحدٌ؟
ينظر
ص البخاري 1894 و 1904
أو ص مسلم 1151
--------------
๑ ๑البيان๑ ๑
روى الإمام البخاريُّ –رَحِمَهُ اللهُ- في "صحيحه" (1894) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ؛ مَرَّتَيْنِ»، وفي روايةٍ (1904): «فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
ونحو ذٰلك في "صحيح مسلم" (1151).
وبهٰذا نصل إلىٰ جوابِ سؤالِ ماذا يقولُ الصائمُ إذا سَبَّه أحدٌ –وكذا (قَاتَلَهُ)، (آذَاهُ)، (جَهِلَ عَلَيْهِ)؛ يُنظر "صحيح الترغيب والترهيب" (978)، و"التعليقات الحسان" (3407)-؟
إِنِّي [امْرُؤٌ] صَائِمٌ، إِنِّي [امْرُؤٌ] صَائِمٌ

مسألة:
هل يقولها سِرًّا أم جهرًا؟
قال الإمامُ شيخ الإسلام ابن تيمية –رَحِمَهُ اللهُ- في "منهاج السُّنَّة النبويّة" (5/ 197):
"وَفِيهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ:
قِيلَ: يَقُولُ فِي نَفْسِهِ فَلا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: يَقُولُ بِلِسَانِهِ.
وَقِيلَ: يُفَرّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ؛ فَيَقُولُ بِلِسَانِهِ، وَالنَّفْلِ؛ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ; فَإِنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ مُشْتَرَكٌ، وَالنَّفْلُ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُ بِلِسَانِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ; فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُطْلَقَ لا يَكُونُ إلا بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا مَا فِي النَّفْسِ فَمُقَيَّدٌ، كَقَوْلِهِ: «عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا»، ثُمَّ قَالَ: «مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» [متفق عليه]، فَالْكَلامُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا هُوَ الْكَلامُ الْمَسْمُوعُ.
وَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ: إِنِّي صَائِمٌ:
بَيَّنَ عُذْرَهُ فِي إِمْسَاكِهِ عَنِ الرَّدِّ.
وَكَانَ أَزْجَرَ لِمَنْ بَدَأَهُ بِالْعُدْوَانِ" اﻫ.

وسئل فضيلةُ الشيخ عبد المحسن العَبّاد –حفظه اللهُ-:
هل الجهرُ بقولِ: (إني صائم) يدخل في الرِّياء إنْ كان الصَّومُ تطوُّعًا؟
فأجاب:
"لا، ما يدخل في الرياء؛ لأنّ هٰذا مأذونٌ به شرعًا، وفيه مصلحة وفائدة له ولغيره" اﻫ.

---------
تنبيه:
عدَّلتُ هٰذه التدوينةَ بعد أنْ تَنَاهىٰ إلىٰ عِلمي تَعليقٌ علىٰ سندِ زيادةِ: (وإنْ كنتَ قائمًا فاجْلِسْ)؛ وذٰلك مِن باب «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ» [رواه الإمام الترمذي وغيرُه -رَحِمَهُمُ اللهُ-، وصححه أبي -رَحِمَهُ اللهُ-؛ "الإرواء" (12)]؛ فتَبقى السُّنَّةُ المنشورة قول: (إِنِّي [امْرُؤٌ] صَائِمٌ)؛ فقط.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.

***
رمضان 1432

أقسام الناس في التمتعِ بالشهوات الدنيوية


نصّ رسالة الجوال


الناس من حيث التمتع بالشهوات الدنيوية- قسمان
ما هما؟
آل عمران14
ت السعدي

البيان:

قال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
"يُخبر تعالىٰ أنه {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الدُّنيويّة، وخَصَّ هٰذه الأمور المذكورة؛ لأنها أعظم شهوات الدنيا، وغيرُها تَبَعٌ لها؛ قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7]، فلما زُيِّنَتْ لهم هٰذه المذكورات بما فيها مِن الدواعي المثيرات؛ تَعَلَّقَتْ بها نفوسُهم، ومالت إليها قلوبُهم، وانقسموا بحسب الواقع إلىٰ قسمين:

القسم الأول

القسم الثاني

جعلوها هي المقصود.


عرفوا المقصود منها وأنّ اللهَ جعلها ابتلاءً وامتحانًا لِعباده، لِيَعلمَ مَن يُقدِّم طاعتَه ومَرضاته علىٰ لذّاته وشهواته.

فصارت أفكارُهم وخواطرُهم وأعمالُهم الظاهرةُ والباطنةُ- لها.

فجعلوها وسيلةً لهم وطريقًا يتزوَّدون منها لآخرتِهم.

فشغلتْهم عمّا خُلِقوا لأجْله.


ويتمتعون بما يتمتعون به علىٰ وجهِ الاستعانةِ به على مرضاته.

وصَحِبوها صُحْبةَ البَهائم السائمة.

قد صحبوها بأبدانِهم، وفارقوها بقلوبِهم.

يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أيِّ وجْهٍ حَصَّلوها، ولا فيما أَنفقوها وصَرفوها.

وعَلِموا أنها كما قال اللهُ فيها: {ذٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فجعلوها مَعْبَرًا إلى الدارِ الآخرةِ، ومَتْجَرًا يَرجون بها الفوائدَ الفاخرة.

فهٰؤلاء كانت زادًا لهم إلىٰ دار الشقاء والعَناء والعذاب.

فهٰؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربِّهم".
ينظر "تيسير الكريم الرحمٰن" ص124
***
رمضان 1432

سبعُ صفاتٍ أثنى اللهُ بها على الراسخين في العلم

~~~نص الرسالة~~~
سبعُ صفاتٍ أثنى اللهُ بها على الراسخين في العلم
ما هي؟
ت سعدي
آل عمران7-9

*------------------------------*

~~~البيان~~~

قال العلامةُ السّعدي في ختامِ تفسيرِها:
"وقد أثنى اللهُ تَعَالَىٰ على الرَّاسخين في العلم بسبعِ صفاتٍ هي عُنوان سعادةِ العبد:
إحداها: العلمُ الذي هو الطريقُ الموصِل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه.
الثانية: الرسوخُ في العلم، وهٰذا قَدْرٌ زائد علىٰ مجردِ العلم؛ فإنّ الراسخَ في العلم يقتضي أن يَكون عالمًا مُحقِّقًا، وعارفًا مدقِّقًا، قد علَّمه اللهُ ظاهرَ العلمِ وباطنَه، فرَسخ قَدَمه في أسرار الشريعة عِلمًا وحالاً وعملاً.
الثالثة: أنه وَصَفَهم بالإيمان بجميع كتابِه، ورَدٍّ لِمُتشابهه إلىٰ مُحْكَمِه؛ بقولِه:
 ]يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[.
الرابعة: أنهم سألوا اللهَ العفْوَ والعافية مما ابتُلي به الزائغون المنحرفون.
الخامسة: اعترافُهم بمنَّةِ اللهِ عليهم بالهداية، وذٰلك قولُه:
 ]رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا[.
السادسة: أنهم مع هٰذا سألوه رحمتَه المتضمِّنةَ حصول كلِّ خير واندفاع كلِّ شرّ، وتوسَّلوا إليه باسمه الوهاب.
السابعة: أنه أَخبر عن إيمانهم وإيقانِهم بيومِ القيامة وخوفِهم منه، وهٰذا هو الموجِب لِلعملِ الرَّادِع عن الزَّلل" اﻫ مِن "تيسير الكريم الرحمٰن" ص123.
***
رمضان 1432