لا يَقْبَلُ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلًا


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
روى النسائيُّ والطبرانيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«اللهُمَّ! مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ(1) وَأَخَافَهُمْ؛ فَأَخِفْهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا»
[1] (الصرف): هو الفريضة. و (العدل): التطوع، قاله سفيان الثوري.
[2] وقيل: هو النافلة، و (العدل): الفريضة.
[3] وقيل: (الصرف): التوبة، و (العدل): الفدية. قاله مكحول.
[4] وقيل: (الصرف): الاكتساب، و (العدل): الفدية.
[5] وقيل: (الصرف): الوزن، و (العدل): الكيل.
وقيل غير ذلك ([1]) .

وقال -الحافظ المنذري- في موضع آخر:
وعن يزيد بن شريك بن طارق التميمي قال:
رأيتُ عليًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على المنْبَرِ يخطُبُ، فسمعتُه يقولُ:
لا -واللهِ!- ما عِنْدَنا مِنْ كتابٍ نَقْرَؤه إلَّا كِتابَ اللهِ، وَمَا في هَذِهِ الصَّحيفَةِ.
فَنَشَرَها، فَإذا فيها أسْنانُ الْإبِلِ، وأشْيَاءٌ مِنَ الجِرَاحاتِ، وفيها: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا([2]) ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
وَمَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي(2).

وفي موضع آخر:
عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاغْتَبَطَ(3) بقَتْلِه؛ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».
رواه أبو داود. ثم روى عن خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الْغَسَّانِيَّ عَنْ قَوْلِهِ «اعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ»؛ قَالَ:
"الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي الْفِتْنَةِ، فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلَى هُدًى، لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ [يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ]".
(الصرف): النافلة. و (العدل): الفريضة. وقيل: غير ذلك، وتقدم فيمن أخافَ أهلَ المدينة.

وآخر :
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ثَلاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلًا:
عَاقٌّ.
وَمَنَّانٌ.
وَمُكَذِّبٌ بالقَدَرِ».
رواه ابن أبي عاصم في "كتاب السنة"(4) بإسناد حسن.
__________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) زاد أبو نعيم في "الحلية": "ظالمًا لهم".
(2) قلت: يعني في "الكبرى" (2/ 486/ 4277 و4278)، وليس عنده، ولا عند المذكورين معه "رأيت عليًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على المنبر"، وقد ساقه البخاري في خمسة مواضع (1870 و3172 و3179 و6755 و7300)، وكذلك ليست عند آخرين ممن خرجوا الحديث كابن حبان بروايتين (3708 و3709)، وأحمد بثلاث روايات، وغيرهم، وهو مخرج في "الإرواء" (1058)، فالظاهر أنَّ المؤلف رواه بالمعنى، ففي رواية البخاري الأخيرة بلفظ: "خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ. . .".
(3) الأصل: (فاعتبط) بالعين المهملة، والتصويب من المخطوطة و"سنن البيهقي" وما يأتي، ووقع في بعض نسخ (أبي داود) بالعين المهملة. قال الناجي:
"تفسير الراوي الآتي يدل على أنه من (الغبطة) بالغين المعجمة، وهو الفرح والسرور؛ لأن القاتل يفرح بقتل خصمه، وإذا كان المقتول مؤمنًا وفرح بقتله؛ دخل في هذا الوعيد. كذا نقله المصنف في حواشي "مختصر السنن"، ثم نقل عن الخطابي أن اللفظة (اعتبط) بالعين المهملة وقال: يريد أنه قتله ظلمًا لا عن قصاص".
(4) رقم (323 - بتحقيقي).

"صحيح الترغيب والترهيب" (11- كتاب الحج/ 15- الترغيب في سكنى المدينة إلى الممات/ 2/ 63/ ح 1215 (صحيح)).
(17- كتاب النكاح وما يتعلق به/ 8 - الترهيب من أنْ يَنْتَسِبَ الإنسان إلى غير أبيه أو يتولى غير مواليه/2/ 436/ ح 1986 (صحيح) ).
(21- كتاب الحدود وغيرها/ 9- الترهيب من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق/ 2/ 633/ ح 2450 (صحيح)).
(22- كتاب البر والصلة وغيرهما/ 2- الترهيب من عقوق الوالدين/ 2/ 662و 663/ ح 2513 (حسن)).

خلاصة
مِن الذين لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلًا:
- مَن ظَلَمَ أهلَ المدينة وأخَافَهُمْ.
- مَن أتى ببدعةٍ في المدينة، أو رضي فيها ببدعة.
- مَن أتى بجريمة منكَرة فيها، أو نَصَر مجرمًا وحال بينه وبين القصاص.
- مَن نقض عهدَ مسلمٍ لكافر، فتعرَّض له بقتلٍ أو بأخذِ مال.
- مَن انتسب إلى غير أبيه.
- مَن انتمى إلى غير مَن أعتقه.
- مَن قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله. ومنه: 
- الذي يقاتِل في الفتنة فيَرى أنه على هُدًى؛ فلا يَستغفِر.
- العاقّ لوالدَيه أو أحدِهما.
- المنّان بما يعطي.
- المكذِّب بالقَدَر.

نسأل اللهَ العافية.
ربَّنا! تقبَّلْ منّا؛ إنكَ أنتَ السّميعُ العليم
وتُبْ علينا؛ إنكَ أنتَ التوّابُ الرّحيم

الجمعة 10 جمادى الآخرة 1440هـ


([1]) من الأقوال:
[6] "الصَّرْفُ: المَيْلُ، والعَدْلُ: الاسْتِقامةُ، قاله ابنُ الأَعرابِيّ.
[7] وقِيلَ: الصَّرْفُ: ما يُتَصَرَّفُ به، والعَدْلُ: المَيْلُ، قاله ثَعْلَبٌ.
[8] وقيلَ: الصَّرْفُ: الزِّيادةُ والفَضْلُ، وليس هذا بشَيءٍ.
[9] وقيل: الصَّرْفُ: القِيمة، والعَدْلُ: المِثْلُ. وأَصلُه في الفِدْيَةِ، يقال: لم يَقْبَلُوا منهم صَرْفًا ولا عَدْلًا: أي لم يَأْخُذوا منهم دِيَةً، ولم يَقْتُلُوا بقَتِيلهِم رَجُلًا واحِداً، أي: طَلَبُوا منهم أَكْثَرَ من ذلك، وكانت العَرَبُ تَقْتُلُ الرجُلَيْنِ والثلاثةَ بالرَّجُلِ الواحدِ، فإِذا قَتَلُوا رَجُلًا برَجُلٍ، فذلك العَدْلُ فيهم، وإذا أَخَذُوا دِيَةً فقد انْصَرَفُوا عن الدَّمِ إلى غيره، فصَرَفُوا ذلك صَرْفًا، فالقِيمةُ صَرْفٌ؛ لأَنَّ الشيءَ يُقَوَّمُ بغيرِ صِفَتِه، ويُعْدَلُ بما كانَ في صِفَتِه، ثم جُعِلَ بعدُ في كُلِّ شيءٍ، حتى صارَ مَثَلًا فيمَنْ لم يُؤْخَذْ منه الشَّيْءُ الذي يَجِبُ عَلَيه، وأُلْزِمَ أَكْثَرَ منه، فتأَمَّلْ ذلِك" اﻫ من "تاج العروس" مادة صرف (12/ 12/ ط 1408هـ، مطبعة حكومة الكويت).
[10] وقيل: "الصّرْف: الْحِيلَة، وَمِنْه قَوْلهم: إِنَّه ليتصرف فِي الْأُمُور، وَالْعدْل: الْفِدَاء" اﻫ من "تلقيح فهوم أهل الأثر" (ص: 526، ط1، 1418، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم - بيروت).
وقال الشيخ العثيمين رَحِمَهُ اللهُ:
"(صرف) يعني صرْف العذابِ عنه بدون مُقابل، و(لا عدل) أي بمقابل، يعني: لو طَلَبَ أن يُشفع له ويُرفع عنه العذاب؛ لا يُقبل، لو طلب أن يُسلِّمَ فداءً؛ لا يُقبل، نسأل الله العافية" اﻫ من "أشرطة شرح كتاب الحج من صحيح البخاري" للعلامة العثيمين (بداية الشريط 21).
([2]) أي نقض عهده، قال ابن الأثير: "خَفَرْت الرجُل: أجَرْته وحَفِظْته. وخَفَرْتُهُ إِذَا كُنْتَ لَهُ خَفِيراً، أَيْ حَامِيًا وكفِيلًا. وتَخَفَّرت بِهِ إِذَا اسْتَجَرت بِهِ. والْخُفَارَةُ- بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ-: الذِّمَامُ. وأَخْفَرْتُ الرَّجُلَ، إِذَا نقضتَ عَهْدَهُ وذِمامه. وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلإزَالة: أَيْ أَزَلْتَ خِفَارَتَهُ، كأشْكَيته إِذَا أزلْتَ شِكَايَته، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ" اﻫ من "النهاية" (3/ 53).