دعاءُ المتقين الذين أعدَّ اللهُ لهم الجنةَ وما فيها

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه.
أما بعد:
قال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
كذلك: دعاءُ المتقين الذين أعد [اللهُ] لهم الجنةَ وما فيها[1]:
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)﴾ [آل عمران]
فتوسَّلوا بربوبيَّةِ اللهِ لهم.
وبإيمانهم.
أن يغفرَ لهم الذنوبَ.
وأن يقيَهم عذاب النار.
وإذا غُفِرَتْ ذنوبُهم ووقاهم اللهُ عذابَ النارِ؛ زال عنهم الشرُّ بأجمَعِه، وحصل لهم الخيرُ بأجمَعه؛ لأن الأدعية هكذا تارةً تأتي مطابِقةً لجميعِ مطالبِ العبد، وتارةً يُذكَر نوعٌ منها ويَدخُل الباقي باللُّزوم، كهذا الدعاء" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص127 و128، ط 1428ﻫ، دار المعالي).
وهذا مِن أنواع التوسُّل المشروع المحمود، وهو التوسُّل بالإيمان، أو بالعمل الصالح، ويتصل أيضًا بنوعٍ آخر وهو التوسُّل بوعدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ ينظر "قاعدة جليلة" (فقرة 296، ط 1، 1422ه، مكتبة الفرقان).

فوائد من الآية، ذكرها الشيخُ العثيمين رَحِمَهُ اللهُ:
"1 ـ أنَّ مِن صفات المتقين إعلانَهم الإيمانَ بالله، واعترافَهم بالعبودية؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾، والقول هنا يكون باللسان ويكون بالقلب.
2 ـ أنَّ مِن صفات المتقين عدمَ الإعجاب بالنفس، وأنهم يرون أنهم مقصِّرون؛ لطلبهم المغفرة من الله؛ لقولهم: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾.
3 ـ أنَّ التقوى لا تعصم العبدَ مِن الذنوب، بل قد يكون له ذنوب، لكنَّ المتَّقي يُبادِر بالتوبة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
4 ـ جواز التوسل بالإيمان؛ لقوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾؛ فإن الفاء هنا للسببية، تدل على أنَّ ما بعدها مسبَّبٌ عمَّا قبلها.
5 ـ أنه ينبغي للإنسان أن يسأل اللهَ المغفرةَ والوقايةَ مِن النار؛ لقوله: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
وسؤالُ المغفرة يغني عن سؤال الوقاية من النار، إلا أنه في باب الدعاء ينبغي البسط؛ لأربعة أسباب:
السبب الأول: أن يستحضر الإنسان جميعَ ما يدعو به بأنواعه.
السبب الثاني: أن الدعاء مخاطَبةٌ لله عزّ وجل، وكلما تبسَّط الإنسانُ مع الله في المخاطبة كان ذلك أشوق وأحبّ إليه مما لو دعا على سبيل الاختصار.
السبب الثالث: أنه كلما ازداد دعاءً، ازداد قربه إلى الله عزّ وجل.
السبب الرابع: أنه كلما ازداد دعاءً، كان فيه إظهار لافتقار الإنسان إلى ربِّه؛ ولهذا جاء: «اللَّهمَّ! اغفر لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّه، عَلَانيته وسِرَّه، وأَوَّلَه وآخِرَه»، وهذا يغني عنه قولُه: «اللهم اغفر لي ذنبي»، بل لو قال: «اللهم اغفر لي» لكان صحيحًا، لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط.

6 ـ إثبات عذاب النار؛ لقوله: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. وعذاب النار إما دائم مستمر، وهذا لأصحاب النار الذين هم أصحابها، وإما مؤقت، وهذا لأصحاب المعاصي؛ فإنهم يعذَّبون بحسب معاصيهم، إذا لم يغفرِ الله لهم" اﻫ المراد من "تفسير القرآن الكريم"/ سورة آل عمران (1/ 116و117، ط1، 1426هـ، دار ابن الجوزي).

الأربعاء 5 رمضان 1438




[1] - سياق الآية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)﴾.

دعاءُ الرَّاسِخين في العلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّه إمامِ العلماءِ الراسخين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
قال العلَّامة السعديُّ رَحِمَهُ اللهُ:
"ومِن هذا: دعاءُ الراسخين في العلم بَعْدَ الثناءِ عليهم بالإيمان التام:
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾ [آل عمران].
فسألوا ربَّهم وتوسَّلوا بربوبَّيتِه في حُصولِ:
。 أفضلِ الوسائل؛ وهو استقامةُ القلوبِ على ما يحبُّه اللهُ ويرضاه، والثباتُ على ذلك، وعدمُ زَيغِها عن هذه الهداية.
。 وأَجَلِّ المقاصد؛ وهو حصولُ رحمةِ اللهِ تعالى التي يحصل معها خيرُ الدنيا والآخرة.
وخَتموا دعاءهم بالتوسُّلِ إلى ربِّهم باسمِه الوهَّاب أي: كثيرِ العطايا، واسعِ الكرم، فمِن كَرَمِكَ -يا وهابُ!- نسألك الاستقامةَ وعدمَ زيغِ القلوب، وأن تَهَبَ لنا مِن لدنك رحمة؛ لأن الرحمةَ التي مِن لدُنْهُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَها ولا يَعلم ما فيها من البركات والخيرات إلا الذي وَهبهم إيَّاها.
ويُشبِه أن يكون قولُهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)﴾ [آل عمران] توسُّلًا إلى ربِّهم بإيمانهم بهذا اليوم، وتصديقِ ربِّهم في وَعْدِه ووَعيده؛ فإنَّ التوسُل إلى الله بالإيمانِ ومنّةِ اللهِ به- مِن الوسائل المطلوبة؛ فيكون هذا مِن تمام دعائهم" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص123، ط 1428ﻫ، دار المعالي).
فائدة:
قال الحافظ البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (3186):
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ:
أَيَقْرَأُ أَحَدٌ خَلْفَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ:
أُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ:
وَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ؟
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ: سَمِعَ قَيْسَ بْنَ الْحَارِثِ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيّ أَنَّهُ: "قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَصَلَّى وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةً سُورَةً مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ، ثُمَّ قَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِيَ لَتَكَادُ أَنْ تَمَسَّ ثِيَابَهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾ [آل عمران]".
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ؛ قَالَ:
إِنْ كُنْتُ لَعَلَى غَيْرِ هَذَا، حَتَّى سَمِعْتُ بِهَذَا، فَأَخَذْتُ بِهِ".
والسند صحيح، وانظر "أصل صفة صلاة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (2/ 468)، فهو من الأدلة على أن القراءة بعد الفاتحة فيما بعد الأُولَيين؛ مِن السُّنة.

الثلاثاء 4 رمضان 1438

دُعاءٌ مِن كنزٍ تحت العرش

دُعاءٌ مِن كنزٍ تحت العرش[1]
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمَّا بعد:
قال العلَّامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
"ومِن ذلك: الدعاءُ الذي في آخر "البقرة" الذي أخبر اللهُ على لسانِ رسوله أنه قَبِلَه مِن المؤمنين حين دَعوا به[2]:
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286].
ولَمَّا كان إخلالُ العبد بأمرِ اللهِ قد يكون عمدًا على وجْهِ العِلم، وقد يكون نسيانًا وخطأً، وكان هذا القِسْمُ غيرَ ناشئٍ عن عمل القلب الذي هو محلُّ الإثم وعدمه؛ سألوا ربَّهم أن لا يؤاخذَهم بالنسيان والخطأ، وذلك عامٌّ في جميع الأمور؛ قال الله تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ».
ولَمَّا كانت بعضُ الأفعال فيها شدَّةٌ ومَشَقَّة وآصارٌ وأغلال، لو كُلِّف العِبادُ بها لَأَحْرى أن لا يقوموا بها؛ سألوا اللهَ تعالى ألا يُحَمِّلَهم إيَّاها، ولا يكلِّفَهم بما لا طاقةَ لهم به؛ ليَسْهُلَ عليهم أَمرُ ربِّهم، وتخفَّ عليهم شرائعُه الظاهرة؛ فقال الله تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ».
ولَمَّا كانت أيضًا الشرائعُ التي شرعها اللهُ لِعِباده لا بد أن يَحْصل منهمُ التقصيرُ فيها، إما بِفعل محظورٍ، أو بترْكِ مأمور، وذلك موجبٌ للشرِّ والعقوبة إنْ لم يَغفره اللهُ ويُزِلْه؛ قالوا: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾. فبهذه الأمور تندفع المكروهاتُ والشرورُ كلُّها.
ثم سألوا اللهَ بعد ذلك الرحمةَ التي يَنشأ عنها كلُّ خير في الدنيا والآخرة.
ولَمَّا كان أمرُ الدِّين والتمكين -مِن فِعْل الخير وتركِ الشر- لا يحصل ولا يتمُّ إلا بولايةِ الله وتَوَلِّيه، ونُصرته على الأعداء الكافرين -مِن الشيطان وجنوده-؛ قالوا: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾؛ قال تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ».
فالله تعالى يتولى عَبْدَه، ويُيَسِّرُه لليُسرى في جميع الأمور؛ فيَدفع عنه الشرورَ، فهو نِعْم المولى ونِعْم النصير!" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص125 -127، ط 1428ﻫ، دار المعالي).

خواتيم سورة البقرة مِن عتيد النعم
وقال الوزير ابن هبيرة رَحِمَهُ اللهُ:
".. وأما خواتيم سورة البقرة فإنها مِن عتيد النِّعَم؛ لأنها ليس في القرآن ما اتصلتْ فيه الأدعيةُ أكثرَ منها؛ لأنه قال سبحانه فيها: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ إلى آخر الآية، فجمعت:
الاستعاذةَ مِن: النسيانِ والخطأِ وحملِ الإصرِ وإن كان حمله مَن كان قَبلنا،
والاستعاذةَ مِن تحمُّلِ ما لا طاقة لنا به.
ثم طلبَ العفو، وإردافَ ذلك بطلبِ المغفرة، ثم بسؤالِ الرحمة.
ثم ختم ذلك كلَّه بسؤالِ النصر على القوم الكافرين.
وكأن الله تعالى بإنزال هذا علَّمهم أنِ ادْعُوني بكذا وكذا، أفيَظن ظانٌّ أنَّ الله تعالى لقَّنَنا هذا الدعاءَ لندعوَه به إلا وهو سبحانه يجيب حتمًا؟! إن الله على ما يشاء قدير[3]" اﻫ من "الإفصاح" (2/ 119، ط دار الوطن).

الإثنين 3 رمضان 1438هـ




[1] - جاء في حديث حُذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «وَأُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَ مِنْهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا أَحَدٌ بَعْدِي». رواه ابن خزيمة وغيره، وصححه أبي رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1482).
[2] - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ[البقرة من الآية 284]؛ قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا». قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، قَالَ:
قَدْ فَعَلْتُ.
﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، قَالَ:
قَدْ فَعَلْتُ.
﴿وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾، قَالَ:
قَدْ فَعَلْتُ". "صحيح مسلم" (125).
[3] - للفائدة في حكم هذه العبارة (إن الله على ما يشاء قدير) في مثل هذا السياق؛ تُنظر "صحيحة" والدي رَحِمَهُ اللهُ (7/ 347-353).

دعاءُ أربابِ الهِمَمِ العالية

دعاءُ أربابِ الهِمَمِ العالية
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
قال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
"ومِن أجمع الأدعية وأنفعها: دعاءُ أربابِ الهِمم العالية، الذين جَمع اللهُ لهم بين خَيري الدنيا والآخرة. قال تعالى:
﴿وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾ [البقرة].
فصدَّروا دعاءهم بقولهم: ﴿رَبَّنَا﴾، وذلك متضمنٌ لِاستحضارهم معنى:
تربيةِ اللهِ العامة، وهو الخَلقُ والتدبير، وإيصالُ ما به تستقيم الأبدان.
والتربيةِ الخاصة لخيار خَلقه، الذين ربَّاهم بِلُطفه وأصلح لهم دينَهم ودنياهم، وتولَّاهم فأخرجهم مِن الظلمات إلى النور.
وهذا متضمنٌ لِافتقارهم إلى ربهم، وأنهم لا يقدرون على تربية نفوسهم من كل وجه، فليس لهم غير ربهم يتولاهم ويصلح أمورهم، ولهذا كانت أغلبُ أدعية القرآن مصدَّرةً بالتوسُّل إلى الله بربوبيته؛ لأنها أعظمُ الوسائل على الإطلاق التي تحصل بها المحبوباتُ وتندفع بها المكروهاتُ.
وحَسَنةُ الدنيا: اسمٌ جامعٌ للعلم النافع والعمل الصالح، وراحة القلب والجسم، والرزق الحلال الطيب، من كل مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومنكحٍ ومسكنٍ، ونحوِها، فهي اسمٌ جامعٌ لحُسن الأحوال، وسلامتِها مِن كل نقص.
وأما حَسَنةُ الآخرة: فهي كل ما أعدَّه اللهُ لأوليائه في دار كرامته، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشر.
ولما كانت حسنةُ الدنيا والآخرة تمامُها وكمالُها الحفظَ مِن عذاب النار، والحفظَ من أسبابه -وهو الذنوب والمعاصي-؛ قالوا: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
فاشتمل هذا الدعاءُ على كلِّ خيرٍ ومطلوبٍ محمود، ودفعِ كلِّ شرٍ وعذاب، ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بهذا الدعاء كثيرًا[1]" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص124 و 125، ط 1428ﻫ، دار المعالي).
دعاءُ النقلِ مِن عافيةٍ إلى عافية
قال الوزير ابن هبيرة رَحِمَهُ اللهُ:
"في هذا الحديث مِن الفقه: هو أنّ هذه الكلماتِ جامعةٌ لخير الدنيا والآخرة؛ لأنه إذا طَلَبَ في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة؛ فقد طَلَب الحسنين في الدنيا والآخرة.
و﴿حَسَنةً﴾ صفةٌ لِموصوفٍ محذوف، وفي حذفِه فوائدُ:
وهي أنّ كلَّ مطلوبٍ مِن النعمةِ والقربةِ والحياةِ والعافيةِ والنُّصرةِ والبركةِ والكفايةِ والإصابة وغير ذلك -يجوز أن يكون في الموصوف، فلما حَذَفَ الموصوفَ وذَكَرَ الصفة؛ جاز أن ينصرف ذلك إلى ذلك كلِّه!
وقولُه: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ دعاءُ عارِفٍ أن أقلَّ قليلٍ مِن آلاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في الدنيا والآخرة لا يَقوم له العبد، فمَن طلب أن يؤتيَه اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً؛ فقد طَلَبَ أن يَنقله مِن عافيةٍ إلى عافية، ويُقّلِّبُه مِن نعمةٍ إلى نعمة، فلم يَبق في ذلك ما يُخاف على هذا العبد إلا ما عساه أن يتوجَّهَ إليه مِن عقوبةٍ على خطاياه. ولَمَّا كان مِن الجائز أن يَنال حسنةَ الآخرةِ بعد مسيسِ شيءٍ مِن عذابِ النار، فقال بعد السؤالَين: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، فتَمَّ له الدعاءُ وشملَهُ الاحتياطُ" اﻫ من "الإفصاح عن معاني الصحاح" (5/ 249، ط دار الوطن).

الأحد 2 رمضان 1438هـ




[1] - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا! آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». متفق عليه.

أفضل أدعية القرآن وأفرضُها

أفضل أدعية القرآن وأفرضُها*
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
قال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
"فائدة عظيمة: لَمَّا كان الدعاءُ مُخَّ العبادة[1] ولبَّها وخالصَها؛ لكونه متضمِّنًا لِلِافتقار التامِّ لله، والخشوعِ والخضوعِ بين يديه، وتنوُّعِ عُبوديَّاتِ القلب، وكثرةِ المطالَب المهمَّة؛ كان أفضلُه وأعلاه:
° ما كان أنفعَ للعبد.
° وأصحَّ من غيره.
° وأجمعَ لكل خير.
وتلك أدعيةُ القرآن التي أخبَرَ اللهُ بها عن أنبيائه ورسله وعِباده الأخيار، التي كان سيدُ المرسَلين يختارها على غيرها.
ولمّا كان مِن شروط الدعاء وآدابه:
° حضور قلب الداعي.
° واستحضاره لمعاني ما يدعو به.
أحببتُ أن أُنبّه تنبيهًا لطيفًا على معاني أدعية القرآن؛ ليسهل استحضارُها؛ فيعظم انتفاعُ العبد بها:
فأفضل أدعية القرآن وأفرضُها:
قولُه تعالى:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6، 7]
أي: علِّمْنا -يا ربنا!- وألهِمْنا ووفقنا لسلوكِ الصراطِ المستقيم، صراطِ الذين أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، المشتملِ على:
عِلمِ ما يحبُّه اللهُ ورسولُه، ومحبَّتِه، وفعلِه على وجهِ الكمال.
وعِلمِ ما يكرهه اللهُ ورسولُه ويُغضِبُه، وتركِه مِن كلٍّ وجه.
وحقيقةُ ذلك: أنّ الداعي بهذا الدعاء يسأل اللهَ تعالى أن:
° يهديَه الصراطَ المستقيم، المتضمنَ لمعرفةِ الحقِّ والعملِ به.
° ويجنِّبَه:
     - طريقَ المغضوب عليهم؛ الذين عرفوا الحقَّ وتركوه،
     - وطريقَ الضالين؛ الذين تاهوا عن الحقِّ فلم يعرفوه" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص123 و 124، ط 1428ﻫ، دار المعالي).

* وكذلك قال شيخُ الإسلام ابن تَيْمِيَةَ مِن قبل:
"وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ عِنْدَمَا يُنْعِمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ، فَيَشْهَدُ قَبْلَ فِعْلِهَا حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَى إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ وَتَحَقُّقِ قَوْلِهِ : ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾ [الفاتحة].
وَيَدْعُو بِالْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا طَلَبُ إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ:
«أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك»[2].
وَقَوْلِهِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك[3]، وَيَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ! اصْرِفْ قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك»[4].
وَقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾ [آل عمران].
وَقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾.
وَمِثْلِ قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ! أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَاكْفِنِي شَرَّ نَفْسِي»[5].
وَرَأْسُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَأَفْضَلُهَا: قَوْلُهُ:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾؛ فَهَذَا الدُّعَاءُ أَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ وَأَوْجَبُهَا عَلَى الْخَلْقِ؛ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ صَلَاحَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" اﻫ المراد من رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية "الاحتجاج بالقدر" (ص 45 و46، ط 6، 1411ه، المكتب الإسلامي).

السبت 1 رمضان 1438هـ



[1] - كما ورد في الحديث: (الدعاء مخ العبادة) وهو ضعيف، والصحيح أبلغ منه: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَة»، للفائدة يُنظر هــــــنا.
[2] - رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه الوالد "صحيح سنن أبي داود" الأمّ (1362).
[3] - ورد عن عدد من الصحابة منهم أمُّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْها، رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، وانظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2091)، وتعليقَ الوالد على الرسالة المذكورة أعلاه.
[4] - رواه الإمام مسلم (2654) وغيره عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، دون الجملة الأخيرة (وطاعة رسولك)، وانظر تعليق الوالد ثَمَّ.
[5] - رواه الترمذي وقال: (حديثٌ غريب) يعني ضعيف، وانظر "هداية الرواة" (3/ 24 و25)، وقد صح بلفظ « اللَّهُمَّ! قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي»، انظر "صحيح موارد الظمآن" (2060).