لن يلج النار مَن صلَّاهما، وفائدة في معنى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عن أبي زُهير عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَنْ يَلِجَ(1) النَّارَ أَحَدٌ صَلَّىٰ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ.
رواه مسلم.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) "أي يدخل، من (الولوج): الدخول.
قلت: أي دخول عذاب، وإلا فمطلق الدخول لابد منه لعموم الناس، لقوله تعالىٰ: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] أي: داخلها، على القول الراجح في تفسيرها، انظر مقدمتي لكتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات" للشيخ نعمان الألوسي، وهو مطبوع*" اﻫ .

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 21- الترغيب في المحافظة على الصبح والعصر / 1/ 314/ ح 457 (صحيح)).



*   استدل أبي -رَحِمَهُ اللهُ- بحديث جابرٍ عن أُمِّ مُبَشِّرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- في "صحيح مسلم" (2496)[1]، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ:
«لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا».
قَالَتْ: بَلَىٰ، يَا رَسُولَ اللهِ!
فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71]. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72]».
فقال رَحِمَهُ اللهُ:
"ففي استدلال السيدة حفصة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- بآية الورود دليل على أنها فهمت (الورود) بمعنى الدخول، وأنه عام لجميع الناس: الصالح والطالح منهم، ولذلك؛ أشكل عليها نفيُ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخولَ النار في حق أصحاب الشجرة، فأزال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشكالها بأن ذكَّرها بتمام الآية: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، ففيه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرَّها علىٰ فهمها المذكور[2]، وأنه على ذلك أجابها بما خلاصته:
أن الدخول المنفي في الحديث هو غير الدخول المثبت في الآية، وأن الأول خاص بالصالحين، ومنهم أهل الشجرة، والمراد به نفي العذاب، أي أنهم يدخلونها مرورًا إلى الجنة، دون أن تمسهم بعذاب .
والدخول الآخر عام لجميع الناس ثم هم فريقان : منهم من تمسه بعذاب ومنهم على خلاف ذلك، وهذا ما وضحته الآية نفسها في تمامها. وراجع لهذا "مبارق الأزهار" (1 / 250) و "مرقاة المفاتيح" (5 / 621 - 632).
 قلت: فاستفدنا من الإقرار المذكور حكمًا لولاه لم نهتد إلىٰ وجه الصواب في الآية، وهو أنّ الورود فيها بمعنى الدخول، وأنه لجميع الناس، ولكنها بالنسبة للصالحين لا تضرُّهم، بل تكون عليهم بردًا وسلامًا، كما كانت علىٰ إبراهيم، وقد روي هٰذا صراحةً مرفوعًا في حديثٍ آخرَ لجابرٍ، لٰكن استغربه الحافظ ابن كثير، وبيّنتُ علَّته في " الأحاديث الضعيفة " (4761). لٰكن حديثه هٰذا عن أم مبشر يدل علىٰ صحة معناه، وقد مال إليه العلامة الشوكاني في تفسيره للآية (3 / 333)، واستظهره مِن قبله القرطبي (11 / 138 و139)، وهو المعتمد" اﻫ كلام أبي -رَحِمَهُ اللهُ- مِن "الآيات البينات" (ص 52 و53، ط1 للطبعة الشرعية الوحيدة، 1425ه، مكتبة المعارف – الرياض).

الأحد 17 رجب 1437ه




[1] -  وهو من أحاديث "صحيح الترغيب والترهيب" (3628).
[2] -      ساق الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديث مثالًا على أنه "مِن الفقه الدقيق الاعتناءُ بتتبع ما أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الأمور والاحتجاجُ به.." كما في "الآيات البينات" ص 51.

فضلُ تَطَوُّعِ الرَّجُلِ في بيته على تطوُّعه حيث يراه الناس

الحمدُ لله وحده، والصَّلاة والسَّلام علىٰ من لا نبي بعده، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديَه.
أمَّا بعد:
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أراه رَفَعه(1)- قَالَ:
"فَضْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ عَلَىٰ صَلَاتِهِ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ: كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى التَّطَوُّعِ"
رواه البيهقي[1] وإسناده جيد إن شاء الله تعالىٰ
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) هٰذه الجملة ليست في "شعب الإيمان" للبيهقيّ، فلعلَّها مِن المؤلِّف. انظر "الصحيحة" (3149)Emoji.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5-  كتاب الصلاة/ 21- الترغيب في صلاة النافلة في البيوت / 1/ 307/ ح 441 (صحيح موقوف)).



Emoji جاء فيها:
"3149- (تَطَوُّعُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ يَزِيدُ عَلَىٰ تَطَوُّعِهِ عِنْدَ النَّاسِ، كَفَضْلِ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَىٰ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ).
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه " (3/70/4835) ، وكذا ابن أبي شيبة (2/256) عن الثَّوريِّ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال... فذكره.
قلت: وهٰذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير ضمرة هٰذا، وهو الزُّبَيدِي الحمصي، وهو تابعي ثقة، وظاهر إسناده الوقف، ولٰكنه في حُكم المرفوع؛ لأنه لا يقال بالرأي والاجتهاد؛ كما هو بَيِّن لا يَخفىٰ على العلماء" اﻫ المراد من "صحيحة" أبي رَحِمَهُ اللهُ.
السبت 9 رجب 1437ه



[1] - وقال عقبه: "وهذا فِي صلاة النَّفْلِ" اﻫ من "شعب الإيمان" (4/ 544، ط1،   142ﻫ، مكتبة الرشد).

صُحبةُ أولِ من يغدو إلى المسجد، وصحبةُ أولِ من يغدو إلى السوق

الحمدُ لله وحده، والصَّلاة والسَّلام علىٰ من لا نبي بعده، وعلىٰ آله وصحبه ومن اتبعه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
رُوي عن مِيْثَمٍ(1)[1] -رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: بَلَغَنِي:
«أَنَّ الْمَلَكَ يَغْدُو بِرَايَتِهِ مَعَ أَوَّلِ مَنْ يَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يَزَالُ بِهَا مَعَهُ حَتَّىٰ يَرْجِعَ يَدْخُلُ بِهَا مَنْزِلَهُ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَغْدُو بِرَايَتِهِ إِلَى السُّوقِ مَعَ أَوَّلِ مَنْ يَغْدُو، فَلَا يَزَالُ بِهَا حَتَّىٰ يَرْجِعَ فَيُدْخِلَهَا مَنْزِلَهُ»[2].
رواه ابن أبي عاصم وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" وغيرها(2).
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) بكسر الميم وفتح المثلثة، كما في "الأنساب" وغيره، وفي طبعة عمارة: (مَيْتَم) بفتح الميم والمثناة من فوق، وهو خطأ.
(2) قلت: ابن أبي عاصم في "الوحدان" (5/183/3715)، وعنه أبو نعيم في "المعرفة" (2/213/2)، وهو موقوف صحيح السند، كما قال الحافظ في "الإصابة"، فلا أدري لماذا أشار المؤلف إلى تضعيفه.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5-  كتاب الصلاة/ 19- الترغيب في صلاة العشاء والصُّبح خاصَّةً في جماعةٍ، والترهيب مِن التأخُّرِ عنهما/ 1/ 299/ ح 422 (صحيح موقوف)).

الأربعاء 6 رجب 1437ه



[1] - لعل اشتقاق اسمه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِن الوَثْم، و"الوَثْمُ: الدَّقُّ والكَسْرُ. وَوَثَمَ يَثِمُ أي: عَدَا. وخُفٌّ مِيْثَمٌ: شديدُ الوطْء، كأنه يَثِمُ الأرضَ أي يدقُّها" اﻫ من "الصحاح" (2048 – دار العلم للملايين).
[2] - وروىٰ الإمام مسلم (2451) عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: "لَا تَكُونَنَّ -إنْ اسْتَطَعْتَ- أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ".

ردّ الوالد الإمام الألباني على الاستدلال لمنهج الموازنات بكلامٍ للحافظ الذهبي

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتم رُسُلِ اللهِ، وعلىٰ آله وصحبه ومَن استمسك بهداه.
أمَّا بعد:
فهٰذا سهمٌ جديد في كنانةِ علومِ الألبانيّ؛ فتوىٰ أخرىٰ للوالد الإمام -رَحِمَهُ اللهُ- في منهج الموازنات، تؤازر المعروفَ المنتشِرَ عنه[1]؛ مزيدَ توكيد، وزيادةَ فائدة، فقد سئل رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ -ليلةَ 17 ذي الحجة 1417ﻫ-:
قال الذهبي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ:
"ثُمَّ إِنَّ الكَبِيْرَ مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُه، وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلْحقِّ، وَاتَّسَعَ عِلْمُهُ، وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ، وَعُرِفَ صَلاَحُهُ وَوَرَعُهُ وَاتِّبَاعُهُ؛ يُغْفَرُ لَهُ زَلَلُهُ، وَلا نُضِلِّلْهُ وَنَطرْحُهُ وَنَنسَىٰ مَحَاسِنَهُ.
نَعَم، وَلا نَقتَدِي بِهِ فِي بِدعَتِهِ وَخَطَئِهِ، وَنَرجُو لَهُ التَّوبَةَ مِنْ ذٰلِكَ" انتهىٰ كلام الذهبي[2].
هل ترون -حفظكم الله- فيما سبق مِن كلام الذهبيِّ وجوبَ الموازنةِ في بيان الحسنات والسيّئات، أو وجوبَ ذكر السَّلبيات والإيجابيات في حال انتقادِ الأشخاص؟
فأجاب رَحِمَهُ اللهُ:
"نجد في تراجمِ رواةِ الحديث؛ منها ترجمة مُطَوَّلة، ومنها ترجمة مختصَرة.
حينما تكون الترجمة مُطَوَّلة؛ يَصْدُقُ عليهم كلامُ الذهبيِّ هٰذا، فأنتم -مثلًا- تَذْكرون جيِّدًا -إن شاء اللهُ- أنَّ كثيرًا مِن أهلِ الأهواء والبِدَع هُمْ عِند علماءِ الحديث حُجَّةٌ في روايةِ الحديث، فمنهم مَن يُعتبَر مِن الخوارج، كعِمْران بن حِطَّان المشهور، ومنهم مَن يُعتبَر أنه مِن المعتزلة مثلًا، وهٰكذا، منهم الشِّيعة، فحينما يُترجِمون لِهٰؤلاء؛ يَذكرون فيهم المدْحَ والقَدْحَ.
لٰكنْ حينما تأتي تَرجمتُهم في المختصَرات؛ يقال: فلان كذَّاب، فلان سيِّئ الحفظ، فلان كذا.. إلخ، لا يَذْكرون المحاسِنَ التي تُذْكَر في المطَوَّلات.
ولذٰلك؛ فنحن نَشْعُرُ أنَّ كلمةَ الحافظ الذهبيّ هٰذه في العصر الحاضر:
تُوضَع -أوَّلًا- في غير موضعها.
وثانيًا: يُقْصَدُ بها تَمْيِيعُ ما يُعرَف في الشَّرعِ بالحُبِّ في اللهِ والبُغْض في اللهِ.
وهٰذا يَلتقي -هٰذا الْمَشْرَب وهٰذا المذهَب مِن استغلالِ مِثل هٰذا النصِّ عن هٰذا الحافظ الإمام يَلتقي- مع كلمةٍ مَشهورةٍ لِبعضِ الدُّعاة مِن بعضِ الأحزابِ المعروفة اليوم، وهي التي تقول:
(نتعاون علىٰ ما اتَّفقنا عليه، ويَعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه).
هٰذا التعاون مع أنه أصْلٌ في الشَّرعِ مُقتَبَس مِن مِثل قولِه تَعَالَىٰ:
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىٰ (المائدة: 2)، ولٰكنْ هٰذا التعاون -أيضًا- لا يكون علىٰ إطلاقه، وإنما ضِمنَ قاعدةِ ترجيحِ المفاسِد على المصالحِ أو العكس تمامًا.
كذٰلك تمامُ هٰذه الجملة التي تقول -وهي أَبْعَدُ عن الصواب مِن الطَّرَفِ الأولِ منها-: (ويَعْذُرُ بعضُنا بعضًا فيما اختلفْنا فيه).
هٰذا الإطلاق -أيضًا- ليس صوابًا علىٰ إطلاقه؛ لأنهم يَعْنُون -كما يدُلُّ عليه تصرُّفُهم وواقِعُ حياتِهم، بِغَضِّ النَّظَرِ عنِ الخِلافِيَّات، ولو كانت خِلافيَّاتٍ جَذْريَّةً وعَقَديَّةً كما يقولون اليوم؛ يَعْنُون- بها أَشْبَهَ ما يَعني دُعاةُ التقريبِ بين الأديان، وهٰذا أَبْعَدُ ما يكون عنِ الإسلام، لٰكنْ قريبٌ منه هو: التقريبُ بين المذاهِب، التقريب الذي كان قام به بعضُ الشِّيعة، في دَهْرٍ مَضىٰ في الأزهر، وكادت أن تَنجَح الحركة هٰذه، لٰكنْ -والحمد لله- فشلتْ؛ التقريب بين السُّنَّةِ والشِّيعة، كان هٰذا التقريبُ الْمُدَّعىٰ يَقُومُ علىٰ أن يَتنازَل أهلُ السُّنَّةِ عن كثيرٍ مِن عقائدِهم التي يُخالِفون فيها الشِّيعة، هٰذه الجملة: (يَعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) تلتقي تمامًا مع ما كان يَرمي إليه الشِّيعةُ في مَنهجِهِم المشار إليه سابقًا، وهو التقريب بين المذاهب.
مِن أجْلِ هٰذا؛ نحن نَجِدُ بعضَ الأحزابِ القائمة اليوم هَمُّهم التَّجميعُ مِن مُختلفِ المذاهِب والمشارِب.
فكلُّنا يَعْلم أنَّ منهجَ الإخوان المسلمين لا يُفَرِّقون بين مَذْهبٍ ومَذْهبٍ، بل لا يُفَرِّقون بين سَلفيٍّ وخَلَفِيٍّ، بل بين سلفيٍّ وصُوفيٍّ، وفي كثيرٍ مِن الأدوارِ التي مَرُّوا عليها كان يوجد في أعضاء الإخوان المسلمين كثيرٌ مِن شيوخِ الصوفيَّة، وفي بعض الأحيان -وفي مصر بصورةٍ خاصة- كان في الإخوان بعض الشِّيعة.
فلذٰلك؛ الكلمة هٰذه -كلمة الحافظ الذهبيّ- يُراد بها: عدمُ الموالاةِ لِدَعْوةِ الحقِّ.
ولذٰلك؛ فالذي جَرَىٰ عليه عَمَلُ المسلمين قاطبةً حتىٰ هٰذا الزمان إلا مَنِ انحرَفَ؛ هو: التعصُّبُ لِلْحَقِّ مع أيِّ شخصٍ كان، ومحارَبةُ الباطلِ مع أيِّ شخصٍ كان، لٰكنْ هٰذا لا يَعني إنكارَ الحقِّ الذي مع ذاك الْمُبطِل.
وغايةُ ما يُمْكن أن يقال هنا -بالنسبة لهٰذه الكلمة- هي أننا إذا كُنّا وَقَفْنا أمامَ عالِمٍ مِن علماءِ المسلمين -فضلًا عن إمامٍ مِن أئمةِ المسلمين- ووَجدْنا له بعضَ الأخطاء، ولم يَتبيَّنْ لنا أنَّ هٰذا الخطأَ كان عَمْدًا، أو كان هَوًى، أو إصرارًا عليه؛ فيأتي كلامُ الحافظِ الذهبيِّ هنا تمامًا، ونستدلُّ علىٰ ذٰلك بالحديث المعروف في "صحيح البخاري"[3]:
«إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فأَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإن أَخْطَأ؛ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ».
أمَّا إذا تَبَيَّن أنّ رَجُلًا، ولو كان صالحًا، ولو كان له جَولاتٌ وصَولاتٌ في الجهاد في سبيلِ الله مثلًا، لٰكنْ كان عنده انحرافٌ قد أُقيمَتِ الحُجَّةُ عليه؛ حينئذ؛ نحن نُعادِيه ونُبْغِضُه في اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ.
هٰذا ما يُمكن أن يقالَ بمناسَبة هٰذا السؤال.
انتهىٰ جوابُ أبي رَحِمَهُ اللهُ
الملفّ الصوتيّ -يُنشر لِأول مرة- هنــــــــا
السبت 2 رجب 1437ه



[1]- ومنها ما هو مدوّنٌ في بعض كتب العلّامة ربيع المدخليّ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَىٰ، مثل: "المحجة البيضاء"، ومقدمة الطبعة الثانية لـ "منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال"، و"النصر العزيز على الرد الوجيز"، وهي في "مجموع كتبه" وَفق التالي: (5/ 284-288)، (10/ 153و154)، (10/ 275و258).
[2]- "سير أعلام النبلاء" (9/ 325).
[3]- برقم (7352)، ولفظه: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ». وزيادة «وَاحِدٌ» في رواية الترمذي (1326) وغيرِه.

تَخْوِيفُ النِّفَاقِ على تاركِ شُهُودِ الجماعة

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
«كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ فِي الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ؛
أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ».
رواه البزار والطبراني وابن خزيمة في "صحيحه".

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 19- الترغيب في صلاة العشاء والصُّبح خاصَّةً في جماعةٍ، والترهيب مِن التأخُّرِ عنهما/ 1/ 297/ ح 417 (صحيح موقوف)).


بوّب له الإمام ابن خزيمة في "صحيحه" بقوله:
"بَابُ تَخْوِيفِ النِّفَاقِ عَلَىٰ تَارِكِ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ"
والحافظ ابن حبان:
"ذِكْرُ مَا كَانَ يُتَخَوَّفُ عَلَىٰ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي أَيَّامِ الْمُصْطَفَىٰ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"


الخميس 29 جمادى الآخرة 1437ه

فَضْلُ صلاةِ العشاءِ والفجرِ في جماعة

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ عُثْمَانُ بْنُ عَفْانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ(1) فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ».
رواه مالك، ومسلم -واللفظُ له-، وأبو داود، ولفظُه:
«مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ».
 رواه الترمذيُّ كرواية أبي داود، وقال:
حديث حسن صحيح.
وقال ابن خزيمة في "صحيحه":
"بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَبَيَانِ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ فَضْلَهَا فِي الْجَمَاعَةِ ضِعْفَا فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ".
 ثم ذكره بنحو لفظِ مسلم. ولفظُ أبي داود والترمذيِّ يُدافِعُ ما ذَهَبَ إليه. واللهُ أعلم.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أي: وكان صلَّى العشاءَ في جماعةٍ؛ كما بيَّنه اللفظُ الذي بعده.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 19- الترغيب في صلاة العشاء والصُّبح خاصَّةً في جماعةٍ، والترهيب مِن التأخُّرِ عنهما / 1/ 296/ ح 415 (صحيح)).

الثلاثاء 27 جمادى الآخرة 1437ه

ربِّ اغفر لي ولأخي

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه
أمّا بعد
فهذا دعاءٌ عظيم الاستعطاف، رقيق الاسترحام، ولئن كانت كلُّ أدعية القرآن الكريم والسنة الكريمة كذلك، فإنّ هذا الدعاء امتاز بتخصيص الداعي فيه -مع نَفْسِه- شِقَّ نَفْسِه: أخاه!
جاء في قصة النبيَين موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- في سورة الأعراف:
﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)﴾.
Emoji ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ﴾ يَعْنِي هَارُون قَالَ لِمُوسَى: ﴿ابْن أُمَّ﴾، وَيُقْرَأ بِكَسْر الْمِيم ونصبِها:
فَأَمَّا بِكَسْر الْمِيم: مَعْنَاهُ يَا ابْن أُمِّي، قَالَ الشَّاعِر:
يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شُقيّقَ نَفْسِي! * أَنْتَ  خَلَّفْتَنِي  لِأَمْرٍ  كَؤُودِ[1]
وأمَّا بِنصب الْمِيم: فَوجْهُ النصْبِ فِيهِ أَنَّ قَولَه: ﴿ابْنَ أُمَّ﴾كلمتان، لكنهما ككلمةٍ وَاحِدَة، مثل قَوْلهم: "حَضرمَوْت" و "بعلبك " ركب أحد الاسمين فِي الآخر، فبقيَ على النصب؛ تبيينًا". "تفسير السمعاني" (2/ 217و218، ط1، 1418ه2، دار الوطن).
Emoji "وإنما قال: ﴿ابْنَ أُمَّ﴾؛ لِتكون أرأفَ وأنجعَ عنده، وإلا فهو شقيقُه لِأبيه وأُمِّهِ". "تفسير ابن كثير" (3/ 477، ط2، 1432ه، دار طيبة).
Emoji "﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾ أي: في وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا مِن كلِّ جانب؛ فإنها حصنٌ حصينٌ مِن جميع الشُّرور، وثَمَّ كلُّ خيرٍ وسُرور.
﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ أي: أرحمُ بنا مِن كلِّ راحِم، أرحمُ بِنا مِن آبائنا، وأمَّهاتنا وأولادِنا، وأنفسنا". "تفسير السعدي" (ص 304، ط1، 1421ﻫ، مؤسسة الرسالة).

﴿رَبّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا في رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين

سكينة الألبانية
الجمعة 23 جمادى الآخرة 1437ﻫ



[1] - مِن رثاء شاعرٍ لأخيه، وقد جاء نحوه في رثاء أبي زبيد الطائي لابن أخته، كما في "ديوانه" (ص 48، ط المعارف - بغداد).