أَنْزَلَ اللهُ قُرْآنًا في قَولِ المَلَكَين

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه>
أمَّا بعد:
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
 عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ:
اللَّهُمَّ! مَنْ أَنْفَقَ فَأَعْقِبْهُ خَلَفًا، وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تَلَفًا».
رواه أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم بنحوه، وقال:
"صحيح الإسناد".
والبيهقي من طريق الحاكم، ولفظه -في إحدى رواياته-:
قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إِلَّا وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَا خَلَقَ اللهُ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى.
وَلَا آبَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ:
اللهُمَّ! أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا.
وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ قُرْآنًا فِي قَوْلِ الْمَلَكَيْنِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ" فِي سُورَةِ (يُونُسَ):
﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)﴾.
وَأَنْزَلَ فِي قَوْلِهِمَا: "اللهُمَّ! أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا":
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (2)﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لِلْعُسْرَى (10)﴾».
"صحيح الترغيب والترهيب" (8-  كتاب الصدقات/ 15- الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير/ 1/ 546 و547/ ح 917 ، كذلك: 24 - كتاب التوبة والزهد/ 2 - الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها/ 3/ 229و230/ ح 3167 (صحيح، حسن)).


الأحد 19 شوال 1437هـ

الأمر بذكر الله تعالى تدارُكًا للقصور ورفعًا للخلل

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمَّا بعد:
قال اللهُ تعالى في شرعِ صلاةِ الخوف في سورة النساء:
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)﴾
ثم قال سبحانه:
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103)﴾
قال العلَّامة السعديُّ -رَحِمَهُ اللهُ- في فوائد استنبطها مِن إتباعِ آية صلاة الخوف بالأمرِ بِذكر الله عَزَّ وَجَلَّ:
" أي: فإذا فرغتُم مِن صلاتكم -صلاةِ الخوف وغيرِها- فاذكروا اللهَ في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خُصَّت صلاةُ الخوف بذلك لِفوائد:
منها: أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه.
وأعظم ما يحصل به هذا المقصود: الصلاة، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه.
ومنها: أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة.
ومِن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصدُ الحميدة بسببِ اشتغالِ القلب والبدن والخوف فأمر بِجَبْرِها بالذكر بعدها.
ومنها: أن الخوف يوجب مِن قلق القلب وخوفه ما هو مظنَّة لِضعفه، وإذا ضعف القلبُ؛ ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكرُ للهِ والإكثارُ منه مِن أعظم مقوّيات القلب.
ومنها: أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سببٌ للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾ [الأنفال] فأمر بالإكثار منه في هذه الحال.
إلى غير ذلك من الحِكَم" اﻫ من "تيسير الكريم الرحمٰن" (ص198 و199، ط 1، 1421ﻫ، مؤسسة الرسالة).
وقال رَحِمَهُ اللهُ:
"ذِكْرُ اللهِ تعالى مُرَقّعٌ لِلْخَلَلِ، مُتَمِّمٌ لِما فيه نقْص، ودليلُه قولُه تعالى -بعدما ذَكَرَ صلاةَ الخوفِ وما فيها مِن عدمِ الطمأنينة ونحوِها- قال:
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي: لينجبر نقصُكم، وتتمَّ فضائلُكم.
ويُشبه هذا: أنَ الكمالَ هو الاستثناءُ في قولِ العبد: إني فاعل ذلك غدًا، فيقول: إن شاء الله، فإذا نسي فقد قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف من الآية: 24]، وهذا أعمُّ مِن كونه يستثني، بل يَذكر اللهَ تعالى تكميلًا لِما فاته مِن الكمال، واللهُ أعلم.
فعلى هذا المعنى ينبغي لِمن فعل عبادةً على وجهٍ فيه قصور، أو أخلَّ بما أُمِرَ به على وجْه النسيان؛ أن يتدارك ذلك بِذِكر اللهِ تعالى؛ ليزولَ قصورُه، ويرتفعَ خَلَلُه" اﻫ من "المواهب الرَّبَّانيَّة" (ص 28 و29، الإصدار الثالث، 1428هـ، دار المعالي).
الخميس 16 شوال 1437هـ



«أن تَبذُل الفضلَ خيرٌ لك، وأن تُمسكه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف»

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ(1) الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
__________
[تعليق أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) "ضبطه النووي في "شرح مسلم" بفتح الهمزة، قال:
"وَمَعْنَاهُ: إِنْ بَذَلْت الْفَاضِل عَنْ حَاجَتك وَحَاجَة عِيَالِك فَهُوَ خَيْر لَك؛ لِبَقَاءِ ثَوَابه، وَإِنْ أَمْسَكْته فَهُوَ شَرّ لَك؛ لِأَنَّهُ:
إِنْ أَمْسَكَ عَنِ الْوَاجِب؛ اسْتَحَقَّ الْعِقَاب عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَمْسَكَ عَنِ الْمَنْدُوب؛ فَقَدْ نَقَصَ ثَوَابُه، وَفَوَّتَ مَصْلَحَة نَفْسه فِي آخِرَته، وَهَذَا كُلّه شَرّ.
وَمَعْنَى (لَا تُلَام عَلَى كَفَاف): أَنَّ قَدْر الْحَاجَة لَا لَوْم عَلَى صَاحِبه، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ فِي الْكَفَافِ حَقٌّ شَرْعِيّ، كَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ زَكَوِيّ وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِشُرُوطِهَا، وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى ذَلِكَ النِّصَابِ لِكَفَافِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاة، وَيُحَصِّلُ كِفَايَتَهُ مِنْ جِهَةٍ مُبَاحَة.
وَمَعْنَى (اِبْدَأْ بِمَنْ تَعُول): أَنَّ الْعِيَال وَالْقَرَابَة أَحَقّ مِنْ الْأَجَانِب".

"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/ في بابين: 4- الترهيب من المسألة وتحريمها مع الغنى، وما جاء في ذم الطمع، والترغيب في التعفف والقناعة والأكل من كسب اليد، 15- الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير كرمًا، والترهيب من الإمساك والادخار شُحًّا/ 1/ 504، 546/ ح 831 ، 916 (صحيح)).


"الكفاف: ما يكفَّ مِن الرزق عن مسألة الناس، أي يُغني".
هذا الذي تذكره كتب اللغة والشروح.
وقال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
".. وأما الكفاف من الرزق فهو الذي يكفي العبد، ويكفُّ قلبَه ولسانه عن التشوُّف وسؤال الخلق.." اﻫ من "الفواكه الشهية" 79، ط1، 1414هـ، دار الشريف).
ومِن جميل ما نقله الشيخ عبد العزيز السلمان -رَحِمَهُ اللهُ- وذكر أنه مما يُنسب للإمام الشافعي رَحِمَهُ اللهُ، كما في "موارد الظمآن لدروس الزمان" (2/ 477، ط 30، 1424ﻫ):
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى شَيْئَيْنِ لَوْ جُمِعَا * عِنْدِي لَكُنْتَ إِذًا مِنْ أَسْعَدِ الْبَشَرِ
كَفَافِ  عَيْشٍ  يَقِينِي  شَرَّ  مَسْأَلَةٍ * وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ  حَتَّى  يَنْتَهِي  عُمُرِي


الثلاثاء 14 شوال 1437ه

صدقة لكنها مذمومة

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد:
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
 عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ عَصًا، وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قِنْوَ حَشَفٍ(1)، فَجَعَلَ يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ، فَقَالَ:
«لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْ هَذَا، إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ حَشَفًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
رواه النسائي -واللفظ له- وأبو داود وابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" في حديث
__________
[تعليق أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) (القنو): العِذْقُ بما فيه مِن الرُّطَب، وجمْعُه أقْناء[1].
و(الحشف): أردأ التمر، وهو الذي يجفُّ من غير نضجٍ ولا إدراك. كما في "المصباح".

"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/ 9- الترغيب في الصدقة والحث عليها، وما جاء في جهد المقِلّ، ومَن تصدَّق بما لا يحِبّ/ 1/ 526و527/ ح 879 (حسن)).


وفي نحو هذا نزل قولُه تعالى في سورة البقرة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)﴾. روى الترمذي (2987) وغيرُه بإسنادٍ صحَّحه أبي وغيرُه عن البَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال:
"نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّة لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُطُ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ فَيَأْكُلُ، وَكَانَ نَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ وَالْحَشَفُ، وَبِالْقِنْوِ قَدْ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ تَعَالَى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ.
قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُ؛ لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ أَوْ حَيَاءٍ. قَالَ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي أَحَدُنَا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ". رضي الله عنهم وأرضاهم.
السبت 11 شوال 1437هـ



[1] - ويُجمع على (قِنْوان) أيضًا.

رُبَّ موتٍ يكون غنًى!

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
(ترغيبُ مَن نَزَلتْ به فاقةٌ أو حاجةٌ أن يُنزلَها باللهِ تعالى)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ؛ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ.
وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ؛ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ، أَوْ آجِلٍ».
رواه أبو داود والترمذي وقال: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ"، والحاكم وقال:
"صحيح الإسناد"، إلا أنه قال فيه:
«أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى؛ إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى آجِلٍ».
(يوشك) أي: يسرع، وزنًا ومعنًى.
"صحيح الترغيب والترهيب" (8-  كتاب الصدقات/ 9- ترغيب مَن نزلت به فاقة أو حاجة أن ينزلها بالله تعالى / 1/ 507/ ح 838 (صحيح)).


فائدة (1)
حقق أبي -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديثَ في "الصحيحة" (2787)، وقال:
"هذا وثمة اختلافٌ آخر بين الرواة يدور حول قوله في آخر الحديث:
«إما بموت عاجل، أو غنى عاجل». 
وذلك على وجوه:
الأول: ما في حديث الترجمة: 
«موت عاجل»، و هو رواية الحاكم ومن بعده، وكذا أبي داود، وأحمد في رواية.
الثاني: بلفظ: 
«موت آجل»، و هو لأحمد في رواية أخرى.
الثالث: بلفظ: 
«أجل آجل»، و هو للطبراني و أبي نعيم.
الرابع: بلفظ: 
«برزق عاجل أو آجل» و هو للترمذي.
وهذا اللفظ الأخير مع تفرُّد الترمذي به، فهو مخالف لما قبله من الألفاظ، مع احتمال أن يكون حرف (أو) فيه شكًّا من الراوي، فلا يحتج به للشك أو المخالفة.
وأما اللفظ الثاني والثالث فهما وإن كانا في المعنى واحدًا، إلا أنّ النفس لم تطمئن لهما لمخالفتهما اللفظ الأول؛ لأنه هو المحفوظ في رواية الأكثرين من الرواة و المخرجين، فهو الراجح إن شاء الله تعالى، و به التوفيق.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فما معنى قوله: 
«إما بموت عاجل، أو غنى عاجل»؟
فأقول : لم أقف على كلامٍ شافٍ في ذلك لأحد من العلماء، وأجمع ما قيل فيه ما ذكره الشيخ محمود السبكي في " المنهل العذب " ( 9/ 283 ) قال:
"إما بموتِ قريبٍ له غنيٍّ، فيرثه.
أو بموت الشخصِ نفسِه، فيَستغني عن المال.
أو بغنًى ويَسارٍ يَسوقه اللهُ إليه مِن أيِّ باب شاء، فهو أعمُّ مما قبله، ومصداقُه قولُه تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق من 2 و3]"". اﻫ من "الصحيحة" (6/ ق1/ 680و681).


فائدة (2)
أورد الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- حديثَ ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هذا في تفسيره لآيتين من سورتين في كتاب الله تعالى:
الأولى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)﴾ [الإسراء].
الثانية: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ [الطلاق من الآية 3].
وكذلك قال العلامة الطيبي في شرح الحديث:
"وفي معناه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ وبلوغُ أمره إمّا بموتٍ عاجل، أو غنًى عاجل" اﻫ مِن "شرح الطيبي على المشكاة" (5/ 1519 ، ط 1، 1417ﻫ، مكتبة نزار مصطفى الباز).


وأخيرًا!
رُبَّ موتٍ يكون غنًى!
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ»[1].
وأخبرنا أنه سيأتي زمان يكون الموتُ نعمةً يُغبَط عليها صاحبُها! «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَني مَكانَهُ»[2]!
وللموت عند الصادقين شأنٌ رفيع، إنه أمرٌ يُنتظَر! ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ [الأحزاب].
ومن عجائب الموت أنه هو نفسه عزاءُ كلِّ فَقْدٍ ولو كان فَقْدَ حبيبٍ بالموتٍ! ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾ [البقرة].
ليس في هذا دعوةٌ لِتمني الموت بإطلاقٍ -فهو جائز فرارًا من الفتن-!
بل دعوة لِاعتباره راحةً بعد العناء! ولكنْ للصالحين، وفرجًا بعد الأسر! ولكنْ للموقنين.
ففي الدعاء المأثور: «وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ»[3].
وفي الخبر الصادق: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ»[4].
ليست دعوة لتمني الموت، بل دعوة للثباتِ عند حلوله على النفس وعلى الأحباب، وتلقِّيه على أنه علاوة على أنه أمر لابد منه فإن فيه (غنًى) و(خيرًا) و(راحةً)!
قال الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
"الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ: حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الْأَبْدَانَ، وَخَلَاصِهَا مِنْ هَذَا السِّجْنِ وَضِيقِهِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ فَضَاءً وَرَوْحًا وَرَيْحَانًا وَرَاحَةً، نِسْبَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ!
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لِتَكُنْ مُبَادَرَتُكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا كَمُبَادَرَتِكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ الضَّيِّقِ إِلَى أَحِبَّتِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِي الْبَسَاتِينِ الْمُونِقَةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)﴾ [الواقعة].
وَيَكْفِي فِي طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ: مُرَافَقَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمُفَارَقَةُ الرَّفِيقِ الْمُؤْذِي الْمُنَكِّدِ، الَّذِي تُنَغِّصُ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ الْحَيَاةَ، فَضْلًا عَنْ مُخَالَطَتِهِ وَعِشْرَتِهِ، إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)﴾ [النساء]، فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَدْ قُلْتُ إِذْ مَدَحُوا الْحَيَاةَ فَأَسْرَفُوا * فِي الْمَوْتِ أَلْفُ فَضِيلَةٍ   لَا تُعْرَفُ
مِنْهَا   أَمَــــــــــانُ      لِقَــــــــــــــــــــــــــائِهِ        بِلِقَائِهِ * وَفِرَاقُ   كُلِّ مُعَاشِـــــــــــــــــرٍ لَا يُنْصِفُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْتِ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ بَابُ الدُّخُولِ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَيْهَا؛ لَكَفَى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ.
جَزَى  اللهُ   عَنَّا  الْمَوْتَ   خَيْرًا   فَإِنَّهُ * أَبَرُّ   بِنَا  مِنْ   كُلِّ   بِرٍّ   وَأَلْطَفُ
يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الْأَذَى * وَيُدْنِي إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ
فَالِاجْتِهَادُ فِي هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ وَالْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، وَالسَّعْيُ وَالْكَدْحُ، وَتَحَمُّلُ الْأَثْقَالِ، وَالتَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ- إِنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ.
وَالْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا.
وَهِيَ يَقَظَةٌ، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَيَاةِ نَوْمٌ.
وَهِيَ عَيْنٌ، وَمَا قَبْلَهَا أَثَرٌ.
وَهِيَ حَيَاةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ، فِي مَقَامِ الْأُنْسِ، وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، حَيْثُ لَا يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، وَلَا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ، حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ، وَالْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ، حَيْثُ لَا عِبَارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي بَلَدٍ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ، وَلَا إِلْفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَاكِنِهِ، فَالنَّفْسُ لِإِلْفِهَا لِهَذَا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمَانًا طَوِيلًا تَكْرَهُ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ مُفَارَقَتَهُ.
وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْنَا بِخَبَرٍ إِلَهِيٍّ عَلَى يَدِ أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَنْصَحِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَتْ شَوَاهِدُهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ هَذَا الظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالْخَيَالِ الْمُضْمَحِلِّ، وَالْعَيْشِ الْفَانِي الْمَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وَأَنْوَاعِ الْغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَشَوْقًا إِلَى ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ، وَوَجْدًا بِهَذَا السُّرُورِ، وَطَرَبًا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَاشْتِيَاقًا لِهَذَا النَّسِيمِ الْوَارِدِ مِنْ مَحَلِّ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَى بَلَدِ الْعَدْلِ وَالْخِصْبِ وَالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ صَبَرَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى كُلِّ مَشَقَّةٍ وَإِعْوَازٍ وَجَدْبٍ، وَفَارَقَ الْمُتَخَلِّفِينَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَابَ الْمُنَادِي إِذَا نَادَى بِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ بَذْلَ الْمُحِبِّ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ، وَوَاصَلَ السَّيْرَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الْوُصُولِ مَسْرَاهُ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْمُسَافِرُ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ.
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى * وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ اللِّقَا
وَمَا هَذَا -وَاللهِ!- بِالصَّعْبِ وَلَا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ [الأحقاف: 35].
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: 45].
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا(46)﴾ [النازعات].
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: 55].
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)﴾ [المؤمنون].
فَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ وَالْحِجَارَةَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَلَا غَبْنًا فِي جَنْبِ مَا يُوَقَّاهُ.
فَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى بَصِيرَةٍ شَاهَدَتْ هَاتَيْنِ الْحَيَاتَيْنِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ، وَمِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ، أَقْعَدَ نُفُوسَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، وَجَذَبَ قُلُوبَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى، وَأَقَامَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الْأَخْطَارِ، فَأَضَاعَ أُولَئِكَ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَقَطَعَ هَؤُلَاءِ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ السَّائِرِينَ، وَعُقِدَتِ الْغَبَرَةُ وَثَارَ الْعَجَاجُ، فَتَوَارَى عَنْهُ السَّائِرُونَ وَالْمُتَخَلِّفُونَ.
وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ الْعَامِلُونَ، وَيَخْسِرُ الْمُبْطِلُونَ.
وَمِنْ طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، لِمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللهِ لَهُ»[5] يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى" اهـ المراد من "مدارج السالكين" (2/ 153 - 158، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).
الثلاثاء 7 شوال 1437هـ



[1] - رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه أبي رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (813).
[2] - متفق عليه عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
[3] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ». "صحيح مسلم" (2720).
[4] - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا المُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ:
«العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ». متفق عليه.
[5] - متفق عليه عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

«مَن أحبَّ أن يُحَلِّقَ حَبيبَهُ حَلْقَةً مِن نار»

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ:
جَاءَتْ هِندُ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهَا فَتَخٌ مِنْ ذَهَبٍ -أَيْ خَوَاتِيمُ ضِخَامٌ-، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ يَدَهَا، فَدَخَلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَشْكُو إِلَيْهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَزَعَتْ فَاطِمَةُ سِلْسِلَةً فِي عُنُقِهَا مِنْ ذَهَبٍ، قَالَتْ:
هَذِهِ أَهْدَاهَا [إِلَيَّ] أَبُو حَسَنٍ.
فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسِّلْسِلَةُ فِي يَدِهَا، فَقَالَ:
«يَا فَاطِمَةُ! أَيَغُرُّكِ(1) أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي يَدِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ؟!».
ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ، فَأَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ بِالسِّلْسِلَةِ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَتْهَا، وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا غُلَامًا -وَقَالَ مَرَّةً: عَبْدًا، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا- فَأَعْتَقَتْهُ، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْجَى فَاطِمَةَ مِنَ النَّارِ».
رواه النسائي بإسناد صحيح(2).
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ(3) حَلْقَةً مِنْ نَارٍ؛ فَلْيُحَلّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ؛ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ بِسِوَارٍ مِنْ نَارٍ؛ فَلْيُسَوِّرْهُ بِسِوَارٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَلكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ؛ فَالْعَبُوا بِهَا».
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(قال الْمُمْلي) رَحِمَهُ اللهُ:
وهذه الأحاديث التي ورد فيها الوعيدُ على تَحَلّي النساء بالذَّهب يحتمل وجوهًا من التأويل:
أحدها: أن ذلك منسوخ؛ فإنه قد ثبت إباحة تَحَلِّي النساء بالذهب(4).
الثاني: أن هذا في حق مَنْ لا يؤدِّي زكاته دون من أداها، ويدل على هذا حديث عمرو بن شعيب وعائشة وأسماء(5).
وقد اختلف العلماء في ذلك، فروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه أوجب في الحلي الزكاة، وهو مذهب عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جُبَيْر، وعبد الله بن شداد، وميمون بن مهران، وابن سيرين، ومجاهد، وجابر بن زيد، والزهري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، واختاره ابن المنذر.
وممن أسقط الزكاة فيه: عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأسماء ابنة أبي بكر، وعائشة، والشعبي، والقاسم بن محمد، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة. قال ابن المنذر:
"وقد كان الشافعي قال بهذا إذْ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وقال: هذا مما أستخير اللهَ تعالى فيه".
وقال الخطابي:
الظاهرُ مِن الآياتِ يشهد لقول من أوْجَبَهَا، والأثر يؤيدها، ومن أسقطها ذهب إلى النظر، ومعه طرَف من الأثر، والاحتياط أداؤها. والله أعلم(6).
الثالث: أنه في حق مَنْ تزينت به وأظهرته(7)، ويدل لهذا ما رواه النسائي، وأبو داود عن رِبْعِي بن حِرَاش عن امرأته عن أُختٍ لحذيفة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«يَا مَعْشَرَ النِّسَاء! مَا لَكُنَّ في الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ بِهِ؟ أمَا إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأةٌ تَتَحَلىّ ذَهَبًا وَتُظْهِرُهُ إلا عُذِّبَتْ بِه».
وأُخت حذيفة اسمها فاطمة، وفي بعض طرقه عند النسائي عن رِبْعيٍّ عن امرأة عن أخت لحذيفة، وكان له أخواتٌ أدركْن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال النسائي:
"باب الكراهة للنساء في إظهار الحليِّ والذهب"، ثم صَدَّره بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمنع أهلَه الحلية والحرير، ويقول:
«إن كنتم تحبون حليةَ الجنة وحريرَها؛ فلا تلبسوهما في الدنيا».
وهذا الحديث رواه الحاكم أيضًا، وقال:
صحيح على شرطهما(8).
ثم روى النسائي في الباب حديث ثوبان المذكور، وحديث أسماء.
الرابع من الاحتمالات: أنه إنما منع منه في حديث الأسْوِرة والفَتَخَات لما رأى من غلظه؛ فإنه مظنة الفخر والخيلاء، وبقية الأحاديث محمولة على هذا.
وفي هذا الاحتمال شيء، ويدل عليه ما رواه النسائي عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نَهَى عن لُبس الذهب إلا مُقَطَّعًا»(9).
وروى أبو داود والنسائي أيضًا عن أبي قلابة عن معاوية بن أبي سفيان:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نهى عن ركوب النِّمَارِ(10)، وعن لُبس الذهب إلا مُقَطَّعًا».
وأبو قلابة لم يسمع من معاوية، لكن روى النسائي أيضًا عن قتادة عن أبي شيخ؛ أنه سمع معاوية، فذكر نحوه، وهذا متصل، وأبو شيخ ثقة مشهور.
_________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) من (الغرور)، أي: يسرُّك هذا القولُ، فتصيري بذلك مغرورة، فتقعي في هذا الأمر القبيح بسببه؟! قاله أبو الحسن السندي.
(2) قلت: وهو كما قال، وقد سبقه وتبعه على ذلك غير ما واحد من الأئمة، ومع ذلك يأبى بعض أهل الأهواء إلا الطعن في الحديث، ويتكلَّف في اختلاق العلل له ما شاء له هواه تأييدًا منه للعامة. نسأل الله العصمة والسلامة. انظر الردّ المفصل في مقدمة "آداب الزِّفاف" (ص 17 – 30(.
(3) فعيل بمعنى مفعول، أي: محبوب، يقال في الأنثى والذكر، والمراد هنا الأول، أي: من نسائه وبناته، كما كنت شرحته في "آداب الزفاف". وقد بلغني منذ أيام أنّ بعض الفضلاء زعم أن هذا اللفظ "حبيبه" محرَّف، وصوابه: "جبينه" بالجيم! وهذا مما لا يكاد يُصدّق. فإنه لا يصدر ممن يفقه شيئًا من العربية وآدابها، مع كونه بدعًا من القول! فلعلَّ ذلك لا يصح عنه.
(4) قلت: هذا الجواب غير سديد إلا على افتراض ثبوت أن تحريم الذهب على النساء عام، وليس كذلك، فإنَّ أحاديث الباب فيها ما صح وما لم يصح، وما صح منها خاص بالذهب المحلَّق كما ترى، وهو الطوق، والسوار، والخاتم، وحينئذ فالعامُّ لا ينسخ الخاص، بل العكس هو الصواب، وهو أنَّ الخاص يخصص العامّ، والنص المخصص يسميه السلفُ ناسخًا، كما هو معروف عند العلماء. وما لم يصح من أحاديث التحريم لا حجة فيها، فهي على الإباحة العامة. وينتج منه أن الذهب[1] كله حلال على النساء إلا المحلَّق منه، وبهذا تجتمع الأحاديث، وما سوى ذلك مِن طرقِ الجمعِ والتأويلِ التي ذكرها المصنف وغيره؛ فهو ضعيف كما سترى. وتجد تفصيل هذا في كتابي "آداب الزفاف".
(5) قلت: لكن قصة بنت هُبيرة وفاطمة في حديث ثوبان (رقم 18 في الباب)، وكذا ما في حديث أبي هريرة هذا؛ مما لا يمكن حمله على ذلك؛ لأن الزكاة لم تذكر فيهما أصلًا، ولأنَّ الفضة كالذهب في إخراج الزكاة، وقد فرَّق حديثُ أبي هريرة بينهما، فحرَّم التزيُّنَ بالذهب المحلَّق، وأباح ذلك بالفضة حين قال: «وَلكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ؛ فَالْعَبُوا بِهَا». فهذا صريحٌ في أن الوعيد المذكور فيه ليس من أجل منع الزكاة، فبطل التأويلُ المذكور.
(6) "معالم السنن" (3/ 176)، والحقُّ وجوبُ الزكاة على الحلي، كما فصَّلتُه في "الآداب".
(7) قلت: هذا باطل أيضًا؛ فإنَّ حديث ربعي فرَّق أيضًا -كحديث أبي هريرة المتقدم- بين الذهب والفضة، وهما في الإظهار سواء، على أنَّ الحديث ضعيف؛ لِجهالة امرأة ربعي.
(8) قلت: ورواه غير الحاكم، (سيأتي في 18 - اللباس/ 4) إن شاء الله تعالى.
(9)  قلت: ووجه استدلال المصنف بهذا الحديث -على ما أشار إليه من ضعف الاحتمال المذكور- هو أنّ الحديث قد أباح الذهبَ المقطَّع (وهو ما ليس محلَّقًا؛ محيطًا بالعضو) إباحة مطلقة مع أنه مظنة الفخر والخيلاء، فلو كانت العلة المذكورة هي المظنة، لم يكن ثَمة فرق بين المقطَّع وغير المقطَّع من الذهب، بل أقول: ولا فرق في ذلك كله بين الذهب والفضة من جهة، ولا بينهما وبين الحرير وكلِّ زينة أخرى سواهما من جهة أخرى كما هو ظاهر لا يخفى.
والحقُّ أنَّ حديث ابن عمر هذا دليل قويّ في التفريق بين الذهب المحلَّق والذهب المقطَّع للنساء، فإنه يدل بمنطوقه على إباحته لهنَّ، وبمفهومه على تحريم غير المقطَّع من الذهب عليهنَّ، وهو ما صرَّحت به أحاديث الباب، وحمْلُه على الرجال وأنه أباح لهم الذهب المقطَّع؛ أبعد ما يكون عن الصواب. وتجد تفصيل القول في هذه المسائل في كتابي "آداب الزفاف" فراجعه.
(10) قال ابن الأثير: "وفي رواية (النمور) أي: جلود النمور، وهي السباع المعروفة، واحدها (نَمِر)".

"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/  2- الترهيب من منع الزكاة، وما جاء في زكاة الحلي/ فصل [في زكاة الحلي]/ 1/ 473-477/ ح 771و772 (صحيح)).

السبت 4 شوال 1437ه


[1] - يعني من الحُليّ؛ لأن السياق فيها، فهناك استثناء آخر وهو أواني الذهب، ينظر كلام أبي -رَحِمَهُ اللهُ- في مقدمة "الآداب" (46-49).