طريق الدعوة: بالحق إلى الحق للحق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه
أما بعد
قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- في كتابه النافع الماتع "المواهب الربانية مِن الآيات القرآنية" ص49 و50

"الداعي إلى الله وإلى دينه له:
طريق
ووسيلة إلى مقصوده
وله مقصودان

فطريقة الدعوة:
§ بالحق
§ إلى الحق
§ للحق
فإذا اجتمعت هذه الثلاثة بأن:
§ كان يدعو بالحق، أي: بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن،
§ وكان يدعو إلى الحق، وهو: سبيل الله تعالى وصراطه الموصل لسالكه إلى كرامته،
§ وكانت دعوته للحق، أي: مخلصًا لله تعالى قاصدًا بذلك وجه الله؛
حصل له أحدُ المقصودَين لا محالة، [و] هو:
ثوابُ الداعِين إلى الله، وأجرُ ورثةِ الرسل، بحسب ما قام به مِن ذلك.

وأما المقصود الآخر وهو:
حصولُ هدايةِ الخلق وسلوكِهم لسبيل الله الذي دعاهم إليه؛
فهذا قد يحصل وقد لا يحصل.

فليجتهد الداعي في تكميل الدعوة كما تقدم، وليستبشر بحصول الأجر والثواب.
وإذا لم يحصل المقصود الثاني -وهو هداية الخلق-، أو حصل منهم معارضة أو أذية له بالقول أو بالفعل؛ فليصبر ويحتسب، ولا يوجب له ذلك ترْكَ ما يَنفعه، وهو القيام بالدعوة على وجه الكمال، ولا يضيق صدرُه بذلك فتضعف نفسُه وتحضره الحسرات، بل يقوم بجدٍ واجتهاد، ولو حصل ما حصل من معارضة العباد.

وهذا المعنى تضمنه إرشاد الله بقوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (سورة هود: 12)
فأمره بالقيام به بجد واجتهاد، مكملاً لذلك، غير تارك لشيء منه، ولا حرج صدره لأذيتهم، وهذه وظيفته التي يطالَب بها؛ فعليه أن يقوم بها، وأما هداية العباد ومجازاتهم؛ فذلك إلى الله الذي هو على كل شيء وكيل". ا.هـ

تقديم الاتباع على اجتهاد الآباء

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (كتاب الحج/ بَاب الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ) عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ؟! حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (3/ 397 و398) -أثناء شرحه للمتن -:
" وَكَانَ اِبْن عُمَر يَتْبَع فِي ذَلِكَ أَبَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَه اِسْتِدَامَة الطِّيب بَعْدَ الْإِحْرَام كَمَا سَيَأْتِي ، وَكَانَتْ عَائِشَة تُنْكِر عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَقَدْ رَوَى سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ عَائِشَة كَانَتْ تَقُول:
" لَا بَأْس بِأَنْ يَمَسّ الطِّيب عِنْدَ الْإِحْرَام " قَالَ: فَدَعَوْت رَجُلًا وَأَنَا جَالِس بِجَنْبِ اِبْن عُمَر فَأَرْسَلْتُه إِلَيْهَا وَقَدْ عَلِمْتُ قَوْلهَا وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْمَعهُ أَبِي ، فَجَاءَنِي رَسُولِي فَقَالَ إِنَّ عَائِشَة تَقُول: لَا بَأْس بِالطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَام، فَأَصِبْ مَا بَدَا لَك . قَالَ: فَسَكَتَ اِبْن عُمَر . وَكَذَا كَانَ سَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر يُخَالِف أَبَاهُ وَجَدَّهُ فِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَة ، قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ: " أَخْبَرَنَا عَمْرو بْن دِينَار عَنْ سَالِم أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْل عُمَر فِي الطِّيب ثُمَّ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَة " فَذَكَرَ الْحَدِيث ، قَالَ سَالِم :
سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَع ". ا.هـ

علّق الوالد رحمه الله، فقال:
"وهكذا فليكن تحقيقُ الاتباعِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم! فرحِمَ اللهُ أولئك الآباءَ الذين خلّفوا أمثالَ هؤلاء الأبناء، الذين يُقدّمون سنّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على اجتهاد آبائهم، فأين منهم هؤلاء الخَلَف الذين تتضح لهم السُّنةُ الصريحة في المسألة ثم لا يتّبعونها، ويؤثرون عليها تقليَد المذهب أو الجمهور، بحجة أنهم أعلم منا بالسُّنة! أفلم يكن عمر وابنه عبد الله أعلم مِن عبد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر بالسّنة بصورة عامة؛ فما الذي حملهما على مخالفة أبويهما؟ أهو اعتقادهما أنهما أعلم منهما؟ حاشاهما من ذلك، وإنما هو ثبوت السنة لديهما، وليس معنى ذلك عندهما أنهما أعلم من أبويهما في كلّ ما سواها، فهل للمقلّدين أن يَعتبروا بذلك، ويُفردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتباع؟!".
"مختصر صحيح الإمام البخاري" (1/455) مكتبة المعارف

عَنْ أَنَسٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ
وَالِدِهِ
وَوَلدِهِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
متفق عليه

إلى مَن يقول: منقول !

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
أما بعد
فقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 89) قولاً للمزني ثم أردفه بقوله:
"ما ألزمه المزني عندي لازم ؛ فلذلك ذكرته وأضفته إلى قائله ؛ لأنه يقال :
إن مِن بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله "

وقال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث (إنما الأعمال بالنية) في كتابه "بستان العارفين" (3 و4 شاملة):
" ومما ينبغي الاعتناء به بيان الأحاديث التي قيل إنها أصول الإسلام وأصول الدين أو عليها مدار الإسلام أو مدار الفقه والعلم، فنذكرها في هذا الموضع؛ لأن أحدها حديث (الأعمال بالنية)، ولأنها مهمة، فينبغي أن تقدّم، وقد اختلف العلماء في عددها اختلافًا كثيرًا، وقد اجتهد في جمعها وتبيينها الشيخ الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح رحمه الله تعالى، ولا مزيد على تحقيقه وإتقانه، فأنا أنقل ما ذكره رحمه الله مختصرًا، وأضم إليه ما تيسر مما لم يذكره، فإنّ (الدِّينَ النصيحة)، ومِن النصيحة: أن تضاف الفائدةُ التي تُستغرَبُ إلى قائلها، فمَن فعل ذلك؛ بورك له في عِلْمِه وحالِه، ومَن أَوْهَم ذلك وأوهم فيما يأخذه مِن كلام غيره أنه له؛ فهو جديرٌ أن لا يُنتفَع بعِلمِه، ولا يُبارَك له في حال. ولم يَزل أهلُ العلم والفضل على إضافةِ الفوائد إلى قائلها، نسأل الله تعالى التوفيق لذلك دائمًا". ا.هـ

وفي "الآداب الشرعية": فَصْلٌ (فِي الْأَدَبِ مَعَ الْمُحَدِّثِ وَمِنْهُ التَّجَاهُلُ وَالْإِقْبَالُ وَالِاسْتِمَاعُ):
"قَالَ الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ سَمِعْت أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَامٍ يَقُولُ :
إنَّ مِنْ شُكْرِ الْعِلْمَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَ رَجُلٍ فَيُذَاكِرَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ ، فَيَذْكُرَ لَهُ الْحَرْفَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيَذْكُرَ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي سَمِع مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ ، فَيَقُولَ: مَا كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا شَيْءٌ حَتَّى سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا .
فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ شَكَرْت الْعِلْمَ، وَلَا تُوهِمْهُمْ أَنَّك قُلْت هَذَا مِنْ نَفْسِك". ا.هـ

وقال الوزير المغربي في كتابه: "أدب الخواص" (ص11 شاملة):
"وألغينا الأسانيد خيفة التطويل إلا في أحد ثلاثة مواضع: إما خلاف نورده، وغفل نحضره، فنحتاج إلى إسناد يعضده، وإما أثر شرف رواية في نفوسنا، وكان مِن أماثل مَن أدركناه في زماننا، فحسبنا أن التخفيف بحذفه لا يبلغ ثمن العطل مِن التحلي بذكره، وإما فائدة كان موقعها منَّا لطيفًا، و موردها عندنا غريبًا، فرأينا أنّ الإغماض عن ذِكرِ مَن استفدناها منه خللٌ في المروءة، وشعبةٌ مِن كُفرِ النعمة، وغمطٌ لإحسانٍ لسنا أغنياء عن أمثاله، ولا مكتفين دون ما نستأنف مِن أشكاله، فقد حدثني أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ أنه كتب إليه أبو عبد الله النيسابوري أنه سمع أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يحكي عن العباس بن محمد الدوري أنه سمع أبا عبيد القاسم بن سلام يقول:
مِن شُكرِ العلم ذِكرُك الفائدة منسوبةً إلى مَن أفادك إياها، أو كما قال". ا.هـ

لا تنسوا:
بركة العلم... شكر العلم

وأعظمُ مِن ذلك كـلِّه: قولُ نبينا عليه الصلاة والسلام:


(الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور)، متفق عليه.

وقوله:

(وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا؛ لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً) "صحيح مسلم" (110)

وأرهب من ذلك: قوله جل جلاله:
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 188)
وقد جعل الحافظ ابن كثير رحمه الله الحديثَ كأنه تفسير للمعنِيِّين بالآية، فقال رحمه الله:
"وقوله تعالى: { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} الآية، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن ادَّعَى دَعْوى كاذبة لِيتَكَثَّر بها؛ لم يَزِدْه اللهُ إلا قِلَّةً) . وفي الصحيح: (المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثَوْبَي زُور)". ا.هـ (2/ 181)

وها هي مناسبة الحديث الأول؛ يا لها من موعظة تدلّ على شمول ديننا الكامل!
عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي ضَرَّةً؛ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)
متفق عليه.

قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" (9/ 317 و318):
قَوْله " الْمُتَشَبِّع " أَيْ الْمُتَزَيِّن بِمَا لَيْسَ عِنْده يَتَكَثَّر بِذَلِكَ وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ ؛ كَالْمَرْأَةِ تَكُون عِنْد الرَّجُل وَلَهَا ضَرَّة، فَتَدَّعِي مِنْ الْحَظْوَة عِنْد زَوْجهَا أَكْثَر مِمَّا عِنْده، تُرِيد بِذَلِكَ غَيْظ ضَرَّتهَا ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرِّجَال". ا.هـ

قال الإمام النووي رحمه الله:
" ((المُتَشَبِّعُ )) : هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الشَّبَعَ وَلَيْسَ بِشَبْعَان . ومعناهُ هُنَا : أنْ يُظْهِرَ أنَّهُ حَصَلَ لَهُ فَضيلَةٌ، وَلَيْسَتْ حَاصِلَةً . (( وَلابِسُ ثَوْبَي زُورٍ )) أيْ : ذِي زُورٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ، بِأنْ يَتَزَيَّى بِزِيِّ أهْلِ الزُّهْدِ أَو العِلْمِ أَو الثَّرْوَةِ ، لِيَغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ، وَلَيْسَ هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ . وَقَيلَ غَيرُ ذَلِكَ واللهُ أعْلَمُ". ا.هـ من "رياض الصالحين" بتحقيق الوالد رحمه الله (ص 551 و552).

وقال القاضي عياض رحمه الله في شرح الحديث الثاني (مَنْ اِدَّعَى دَعْوَى كَاذِبَة لِيَتَكَثَّرَ بِهَا؛ لَمْ يَزِدْهُ اللَّه إِلَّا قِلَّةً) :
"هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ دَعْوَى يَتَشَبَّع بِهَا الْمَرْءُ بِمَا لَمْ يُعْطَ:
مِنْ مَالٍ يَخْتَال فِي التَّجَمُّل بِهِ مِنْ غَيْره
أَوْ نَسَب يَنْتَمِي إِلَيْهِ ليس مِن جَذْمِه
أَوْ عِلْم يَتَحَلَّى بِهِ لَيْسَ مِنْ حَمَلَتِه
أَوْ دِينٌ يُرائي به لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْله
فَقَدْ أَعْلَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَيْر مُبَارَك لَهُ فِي دَعْوَاهُ ، وَلَا زَاكٍ مَا اكْتَسَبَهُ بِهَا . وَمِثْله الْحَدِيث الآخَر (الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ مَنْفَقَة لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ)". "إكمال المعلم" (1/ 391).

وقد استدل الوالد رحمه الله تعالى رحمة واسعة بهذا الحديث (حديث التشبع) على مسألة العزو هذه، فقال رحمه الله بعد أن ذكر "قول العلماء: "مِن بركةِ العلمِ عَزْوُ قولٍ إلى قائله" :

"لأن في ذلك ترفُّعًا عن التزوير الذي أشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)، متفق عليه". ا.هـ من مقدمة "الكلم الطيِّب" ص11 و12

ومع تطور العصر ظهر لهذا التشبُّع مجالاتٌ جديدة!
فنجد في المنتديات والبريد الإلكتروني تطبيقًا واضحًا للتشبُّع بغير المعطَى، فنجد مقالاً أو رسالةً، ونقرأ سطرًا بعد سطر ونحن شاكرون لصنيع الكاتب، مثنون على قلمه، مبجّلون لأصيل عِلمِه، متخيّلون لطويل بحثه وكثيرِ جهده في الجمع والتوليف بين المعاني، وربما توليدها مِن بنات أفكاره، وسعيه الحثيث، في تحرّي صحيح الحديث، وعنائه في توضيح العبارة، وانتقاء رصين الإشارة، حتى إذا انتهت السطور، وقارَبَ قارِبُ دعائنا العبور؛ فجعتْنا تلك الكلمة الكَلوم، تمحو مِن الذهن كلَّ تلك الرسوم، تقول أنّ ما فوقها إلى غيرِ هذا الكاتبِ يَؤُوْل، وهي على هذا تَعُول، مهما لَوَّنوها وزَرْكَشُوها وَوَاوَها أَشْـــبعوها، فبتكثير الواوات طَوّلوها – كأنهم بهذا يؤكّدون لأنفسهم الخروجَ مِن معرّةِ التشبُّع! – مهما كان ذا؛ هي لن تكون إلا كلمة:
(منقول)!

ونكاد نرضى مِن الكُتّاب والكاتبات أن يَدمغوا مشاركاتهم بتيك الكُليمة؛ مِن شدة أسفِ القلب على هذه الظاهرة القتيمة الأليمة! فهذا الذي مَهَر مشاركتَه بها صار مشكورًا مبجَّلاً، وبالأدب الجمّ موصوفًا مُكللاً؛ لَمّا وجدْنا البعضَ لم يتورّع أن (يَنقل) مُهمِلاً حتى هذه الكلمة! ودون أيِّ إشارةٍ أو إحالةٍ إلى أنه ليس (هو) صاحِبَ العمل!
بل أكثر مِن ذلك: إذا كان المقالُ الأصلُ لكاتبٍ قد يُعرَف شخصُه مِن أيِّ كلمةٍ خلال بحثِه؛ فإن الناقلَ يَعمَد إلى تلكم الكلمات، ويحوِّر فيها مُبدّلاً الضمائرَ وتصريفَ الأفعال، دقيقًا في هذا وكأنه يسعى لهدفٍ نبيل! والحقيقة أنه: سـ ر قـ ـة!
ولو أنه صَرَفَ هذا الوقت - الذي يقضيه في التفكير في تصريف تلك الضمائر، والتقدير لطمس معالم هوية الساطر- أقول لو صرفه في أن يبذل جهده ويُدلي بدلوه في بئر الأفكار، ولا يكتفي بالنظر إلى متاع غيره؛ لكان خيرًا له وأحسن مآلاً.

"ما المعنى؟؟ هل على كل أحد أن يصبحَ مجتهدًا لا يكتب إلا مِن أفكارِه وجهده؟!
وهل إذا مررتُ بمقالٍ مفيد نافع أتركه في مكانه ولا أنشر الخير بنشره، ولعل فيه سُنّةً مهجورة، فيكون لي سهمٌ في المشاركة بنشرها؟!"
أبدًا.. ليس معنى ما ذكرتُ هو الترك لهذه الفضائل والرغبة عن هذه الأجور
كل المطلوب هو الصدق في النقل، وهذا ليس بمستغرَب مِن (طالب علمٍ)، بل العجَبُ كيف تطيب نفسُه أن ينقل دون أن يُحيل ما لَمّ ! هل يُلام -بعد هذا- العوامّ ؟!
وذلكم الصدق يكون بـ:
· أن يذكر الناقلُ اسمَ صاحبِ المقال قبل عَرضه له أو يختم به.
· أن يُحِيلنا إلى الرابط الذي نقل منه المقال.
ليت شعري؛ أين الصعوبة في هذا؟!
أليس كلُّ الشغلِ في المسألة: نسخًا فلصقًا؟!
فلنبيِّن اسمَ صاحب المقال مع مقاله؛ يُبارَكْ لنا فيه
ولا ننسَ الرابط؛ نكسبِ الدِّلالةَ على السُّنّة التي في المقال، وعلى الموقع الطيب الذي نقلنا منه، فيكون لنا باب أجر أوسع بإذن الله، ونكون اتخذنا سبيلاً للإيمان : (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) متفق عليه، ألستَ تحبّ إذا قرأتَ كلامًا أن تعرف مصدره؟ وإذا أحالك الناقل إلى المصدر وفّر عليك الوقتَ والجهد في البحث عنه؟!
ونحتسب هذا عند الله وِقايةً مِن وصمةِ: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)، وتزكيةً لحسن الخلق، وتربيةً للنفس لتُشفى مِن حب التعالي على أكتاف الآخرين!
ولنتذكّر أنه على فرض كون الحقوق في الشبكة ليست محفوظة؛ فإنّ مثل هذه الصنائع عند ذوي الأبصار والبصائر ملحوظة، يَستخفّون الاستخفاءَ وراء ذاك الثوب الزور، وإن غفلوا؛ ففَوقنا – جميعًا- ربٌ رقيبٌ يَعلمَ السِّرَّ وأخفى.

على أنه من الإنصاف أن نقول:
إنّ الساحةَ لم تَخْلُ مِن فارِس، ولا زال في أفق الصدق كواكبُ عطاء ما منها خانس، فبفضل الله هناك منتديات تحرص كل الحرص على أمانةِ التوثيق الكامل (اسمًا وموقعًا)، وهناك أخوات فاضلات تصلني منهن رسائلُ بريدٍ عطرةٌ بطِيبِ الكلامِ النافع، نضرةٌ بالعنايةِ بذِكر المراجع، حتى ولو كان المرسَل سطرًا، أو كان تفريغَ شريط، بل حتى لو كان مجردَ نقلٍ مِن كتاب (أي: نقلاً عن نقل)، بل يحرصن على هذا في رسائل الجوال أيضًا، فالخلق إنْ حسُن؛ عمّ كل مجال حتى في الخطابات الشفوية لا سيما في الحوارات العلمية؛ "قرأتُ هذا في كتاب كذا، سمعتُه من الشيخ فلان، أفادتنيه فلانة،.... إلخ"، فجزاهن الله خيرًا جميعًا، والحمد لله على فضله.

لكني أحسب أولئكم – والله حسيبهم- يخشون اللهَ ربَّهُم، ويحبّون الخيرَ دَأبَهُم، وسيتذكرون لَمّا نُذكِّر النفسَ معهُم؛ ولهذا كتبتُ للذكرى {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.