مجرد (ليت) لٰكنَّ اللهَ أَدناه مِن (البيت)!


بسم الله الرحمٰن الرحيم

الحمد لله علىٰ ما يُنزله مِن قضائه، بامتحانه وامتنانه، حمدًا كثيرًا طيّبًا، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله عزاءِ كلِّ مَن فَقَدَ غاليًا حبيبًا! صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ[1].

أمّا بعد

فإني أقصد بمقالتي هٰذه بيانَ سببِ الصلاةِ علىٰ شقيقي الغالي عبدِ المصوِّر -رَحِمَهُ اللهُ- في الحرم المكيِّ الشريف، ثم دفْنِه في مقبرةِ العدْل بمكَّة المكرَّمة، ودافِعُ البيانِ واضحٌ لمن يعلم أنه مِن سُكّان جُدّة؛ فإنَّ السُّنَّةَ هي الدفنُ في البلد الذي مات فيه، ولا يُنقَل إلىٰ غيره؛ لأنه ينافي الإسراعَ المأمور به[2].

فهٰذا البيان:

1- لم يوصِ عبدُ المصوِّر بذٰلك، ولٰكنْ سمعتُه يومًا -خلال مرضه- يقول:

(يا ليت يُصلَّىٰ عليّ في الحرم وأُدفن هناك!)، أو عبارةً نحوَها.

2- مضت الأيامُ والشهورُ وعبد المصوِّر يُعالَج في جُدَّة، ونُسيت تلك الأمنية!

3- وفي الأشهر الخمسة الأخيرة استدعت حالتُه نقلَه إلىٰ مستشفًى يقع في طريقِ المسافر إلىٰ مكَّة، علىٰ مسافةٍ تبعد عن جُدَّة بين ثلثِ ونصف ساعةٍ بالسيارة، ونحوها بزيادةٍ قليلةٍ جدًّا للوصول إلىٰ مكَّة.

4- صار يعالَج هناك ويَخرج مِن المستشفىٰ إلىٰ جُدَّة لَمَّا يَتحسَّن قليلًا، ثم يعود إليها للعلاج، تكرَّر هٰذا إلى الأسبوعَين الأخيرَين قبل وفاته، فقضاهما في هٰذه المستشفىٰ.

5- لَمًّا حلَّ القضاءُ وتوفي -رَحِمَهُ اللهُ- في هٰذه المستشفىٰ، وبدأ الأهلُ بالعمل في إجراءاتِ الخروج، ذكرت أمنيّة عبدِ المصوِّر!

6- سعىٰ أهلُ الخير سعيًا حثيثًا -جزاهم اللهُ خيرَ الجزاء وأطيبَه- في هٰذا الأمرِ واستخراجِ التصاريح لِتحقيقِه رسميًّا، علىٰ نوعِ صعوبةٍ فيه، ولٰكنَّ اللهَ القديرَ -جلَّ جلالُه- يسَّره!

7- لو توفِّي عبدُ المصوِّر في قلب جُدة؛ لم نكن لنهمّ -بله أن نسعىٰ- في نقله إلىٰ مكة! بل ما جال هٰذا لِأحدٍ علىٰ بال، فضلًا عن أن يتكلَّم فيه بمقال!  ولٰكنه توفّي بين البلدَين! سبحان الله!

8- فاضت نفسُ عبدِ المصوِّر تمامَ السابعة صباح السبت.

وصُلِّي عليه في الحرم المكِّيِّ تمامَ السابعةِ بَعد صلاة المغرب!

وانتهى الدفنُ في السابعة وخمس وأربعين دقيقة -مع رشٍّ مِن مطر!-.

وهٰذا وقت ليس بالطويل عند مَن يَعلم أنَّ هناك إجراءات وأعمالًا! بل مِن الجنائز مَا يستغرق نحو هٰذا الوقت وهو في بلده، مع سعيِ أهله في تعجيل تجهيزه! لا سيما وأنَّ معاملة استلام الجثمان من المستشفىٰ لم تنتهِ إلا قرابة الساعة الثانية والنصف ظهرًا، فلا تأثير يُذكر لموقعِ الدفن! إذ بَعد الخروج من المستشفىٰ إما أن تتَّجه إلىٰ جُدَّة في نصف ساعة، وإما أن تُيمِّمَ شطْرَ المسجدِ الحرامِ في نحوِها!

الخلاصةُ أنَّ الصلاةَ علىٰ عبدِ المصوِّر في الحرم المكِّيِّ ودفنَه في مكَّة كان مجردَ أُمْنيَّةٍ لِمآلِ مَنيَّةٍ، ذَكَرَها ذِكرًا عابرًا لمرَّةٍ واحدة، لٰكنّ اللهَ هيَّأ أسبابَ الظَّفَرِ بها، فقرَّبه إلىٰ تلك الأرضِ الطَّيبِّة في أيَّامه الأخيرة!

فسبحان مَن سهَّل شيئًا لم نكن نحلم به أن يكون، فضلًا عن أن يَسْهُل فيَتِمَّ على الصورة التي رأيناها من التيسير العجيب الذي تجلَّىٰ للجميع! والذي نقَّلَنا بين مغاني الاسترجاع علىٰ  مُوجِعِ الرَّزايا، وبين باحاتِ الحمدِ لله علىٰ ما شملنا مِن لطائف العطايا!

اللّٰهمَّ! تقبَّل دعاءَ مَن صلَّوا علىٰ أخي وشيَّعوه ودفنوه أو شاركوا في دفنه، وباركْ لهم في القراريط التي وعدتَ، واجزِهم خير الجزاء.

اللّٰهُمَّ! اغْفِرْ لشقيقي أَبِي محمَّد عبدِ المصوِّر، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ! وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ[3].

هٰذا البيان، وربنا الرحمٰن المستعان لجبْر القلوب.

سكينة الألبانية

الجمعة 20 ذي القعدة 1436ﻫ




[1] - جاء في الحديث: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ؛ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي» رواه ابن ماجه، وصحَّحه الوالد لشواهده؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3/ 180/ تحت 1106).
[2] - ينظر  "أحكام الجنائز" للوالد رَحِمَهُ اللهُ (المسألة 17/ الفقرة و/ ص 24 و25 ، ط 1 للطبعة الجديدة، 1412ه، مكتبة المعارف).
[3] - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَىٰ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ» ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: «لَا تَدْعُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَىٰ مَا تَقُولُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «اللّٰهُمَّ! اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ! وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ». "صحيح مسلم" (920).