مواضع {ومِنْ آياتِه} في كتاب ربِّنا العظيم



للحُفَّاظِ والمتحفِّظين وعمومِ قُرّاء كتابِ ربِّنا العظيم:
بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسُلِ الله أجمعين، أمّا بعد
ورد قوله تَعَالَىٰ: ﴿ومِن آياته﴾ في أحد عشر موضعًا، في ثلاث سورٍ مِن كتابه العظيم، إذ سبعةٌ منها في سورة (الرُّوم) وحدها! وسِتّة فيها على التوالي! وفي (فصلت) موضعان، وما بقي ففي سورة (الشُّورىٰ).
آياتٌ عظيمة مُفتتَحة بهٰذا المطلع المهيب: ﴿ومِن آياته﴾ تُنَبِّهُ العبدَ إلىٰ مَشاهِدَ في الآفاق وفي الناس، مات الإحساسُ بها مِن كثرةِ الإمساس، أو هو يحتضر مِن عَصْرِه! فتأتي آياتُ الآياتِ تُحيي فيه ما هو عصمة أمرِه!
1- 6/ في (الرُّوم): ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)* وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)** وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25)﴾
7/ في (الرُّوم) أيضًا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)﴾.
8 و9/ في (فُصِّلَت): ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).
10 و 11/ في (الشُّورىٰ): ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)﴾.

كم رأينا مِن جريان الفُلك، كم نظرنا إلى السماء وإلى الأرض، كم تعاقَب علينا مِن ليل ونهار، كم لَمَعَ لِعُيوننا بَرْق بين خوفِ حَرْق وطَمَعِ غَدْق، كم عايَنَّا أرضًا اهتزَّتْ بعد سكون، كم ابتغينا مِن فضله عَزَّ وَجَلَّ! كم وكم! فمَن منا المتفكِّر العالِم السَّامع العاقل الصَّبَّار الشَّكور؟! لِيفْقه حكمةَ كلِّ ذٰلك، وأنه علىٰ قدرة المولىٰ علىٰ بَعثِنا دلالاتٌ بيِّنات، فيَقضي العُمرَ في عبادته وَحْدَه لا شريكَ له؛ اللّٰهمّ! أدخِلْنا في زمرتهم.


* قال العلامة البقاعي -رَحِمَهُ اللهُ- في الخاتمة: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾:
"أي مِن الدُّعاةِ النُّصَحاءِ، سَماعَ مَنِ انتبَه مِن نومِه؛ فجِسمُه مُستريحٌ نشيطٌ، وقلبُه فارغٌ عن مُكدِّرٍ لِلنُّصحِ مانعٍ مِن قبوله.
أو المعنىٰ: لِقومٍ هم أهلٌ لِلسَّمعِ، بأن يَكونوا قد تنبَّهوا مِن رقادهم، فرجعوا عن عِنادهم؛ إشارةً إلىٰ أنَّ مَن لم يتأمَّل في هٰذه الآيات؛ فهو نائمٌ لا مستيقظ! فهو غيرُ متأهِّلٍ لِأَنْ يَسْمَعَ!" اﻫ مِن "نظم الدرر" (5/ 615، ط1، 1415ﻫ، العلمية).

يا جِيرَةَ الحَيِّ هُبُّوا مِن رُقادِكُمُ * علىٰ حَديثٍ لَه في سَمعِكُم شُغلُ![1]

* * قال الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في آية البرق:
"... وجَعَلَ إراءتَهم الْبَرْقَ وَإنزالَ الماءِ مِن السَّمَاء وإحياءَ الأرض بِهِ: آيَاتٍ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ فَإِنَّ هَٰذِه أمورٌ مَرئيَّةٌ بالأبصار مُشَاهدَةٌ بالحِسّ، فَإِذا نَظَر فِيهَا بِبَصَرِ قَلبِه -وَهُوَ عقْلُه-؛ اسْتدلَّ بهَا علىٰ وجودِ الرَّبِّ تَعَالَىٰ وَقُدرتِه وعِلْمِه ورَحمتِه وحِكمتِه وإِمْكَانِ مَا أَخْبَر بِهِ من إحْيَاء الْخَلَائق بَعْدَ مَوْتهم كَمَا أَحْيا هَٰذِه الأرضَ بَعْدَ موتها. وَهَٰذِه أمورٌ لا تُدرَك إِلَّا بِبَصَرِ الْقلبِ -وَهُوَ الْعقلُ-؛ فَإِن الحِسَّ دَلّ على الآية، وَالعقلَ دَلَّ علىٰ مَا جُعِلَتْ آيَةً لَهُ، فَذَكَر سُبْحَانَهُ الآيةَ الْمَشْهودةَ بِالبصر، والْمَدلولَ عَلَيْهِ الْمَشْهُودَ بِالْعقلِ، فَقَالَ: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)﴾ (الروم).
فَتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ كَلَامَهُ حَيَاةً لِلقلوب، وشِفاءً لِما فِي الصُّدُورَ!" اﻫ مِن "مفتاح دار السعادة" (534 و535، ط ،  1432ﻫ، المجمع).

السبت 29 المحرم 1436ﻫ
علىٰ إثْرِ سماءٍ وبرْق ورعدٍ كان مِن ليلِ جُدّة!


[1] - "اللطائف" لابن الجوزي رَحِمَهُ اللهُ (ص 67 ، ط 2، 1410 ﻫ، دار الهجرة - بيروت).