أفضلُهما أيسرُهما: خلاصةٌ في مسألة أفضلية الصوم أو الفطر في السفر

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عن أبي سعيد الخدريّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال:
"غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ".
وفي رواية:
"يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ".
رواه مسلم وغيره.
(قال الحافظ):
"اختلف العلماءُ أيهما أفضل في السفر؛ الصوم أو الفطر؟
فذهب أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى أنَّ الصوم أفضل، وحُكي ذلك أيضًا عن عثمان بن أبي العاصي، وإليه ذهب إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال مالك والفضيل بن عياض والشافعي: الصوم أحب إلينا لمن قوي عليه.
وقال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: الفطر أفضل.
وروي عن عمر بن عبد العزيز وقتادة ومجاهد: أفضلهما أيسرهما على المرء. واختار هذا القولَ الحافظُ أبو بكر بن المنذر، وهو قول حسن. والله أعلم" (1).
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) قلت: ولقد صدق رحمه الله، "أفضلهما أيسرهما"، والناس تختلف طاقاتهم وظروفهم، فليأخذ كلٌّ منهم بما هو أيسرُ له، ولذلك صحَّ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمن سأله عن الصوم في السفر: «صُمْ إنْ شِئْتَ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ». رواه مسلم (3/ 145)، وفي طريقٍ آخر صحيح بلفظ: «أيّ ذلك عليك أيسر؛ فافعل»، وهو مخرج في "الصحيحة" (2884)Emoji.
"صحيح الترغيب والترهيب" (9- كتاب الصوم/ 14- ترهيب المسافر من الصوم إذا كان يشق عليه، وترغيبه في الإفطار/ 1/ 617و618/ ح 1062 (صحيح)).

Emojiوفيها:
"«أيَّ ذٰلكَ عليكَ أَيْسَرُ؛ فَافْعَلْ» يعني إفطار رمضان أو صيامه في السفر.
أخرجه تمام في "الفوائد" (ق 161 / 1):
أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن فضالة بن غيلان بن الحسين السُّوسي الحمصي الصفار: حدثنا أبو عبد الله بَحْرُ بنُ نَصْرُ حدثنا ابن وهب حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمران بن أبي أنس حدَّثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن حمزة بن عمرو: أنه سأل رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ؟ فقال: فذكره.
قلت:  وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات من رجال "التهذيب" غير السوسي هذا، ترجمه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (2 / 213) برواية جمع عنه، وروى عن أبي سعيد بن يونس أنه قال فيه:
"توفي سنة (339) وكان ثقة، وكانت كتبه جيادًا ". وابن لهيعة في حفظه ضعف إلا في رواية العبادلة عنه، فإنها صحيحة، وهذه منها كما ترى. وللحديث طرق أخرى عن حمزة بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بألفاظ أخرى. أحدها في "صحيح مسلم" وهي مخرجة في "الإرواء" (926). وإنما آثرتُ تخريجَ هذا اللفظ هنا:
لِعِزَّة مَصدره أولًا.
ولتضمُّنِه سببَ ترخيصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخييرِه لِلمسافر بالصوم أو الإفطار ثانيًا، وهو التيسير، والناس يختلفون في ذلك كل الاختلاف، كما هو مشاهد ومعلوم من تباين قدراتهم وطبائعهم، فبعضُهم الأيسرُ له أن يصومَ مع الناس، ولا يقضي حين يكونون مُفطرين، وبعضُهم لا يهمُّه ذلك فيفطر ترخُّصًا ثم يقضي، فصلى اللهُ على النبيِّ الأُمِّيِّ الذي أنزل عليه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾" اﻫ من "صحيحة" أبي (6/ ق2/ 898 و899).

الأحد 21 رمضان 1437ه

مَن خُتِم له بها؛ دخل الجنة

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : أَسْنَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِي فَقَالَ:
«مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ][1]، خُتِمَ لَهُ بِهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، خُتِمَ لَهُ بِهِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، خُتِمَ لَهُ بِهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
رواه أحمد بإسناد لا بأس به،
والأصبهاني، ولفظه:
«يا حذيفة! مَن خُتِمَ لَهُ بِصِيامِ يَومٍ، يُريدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ».
"صحيح الترغيب والترهيب" (9- كتاب الصوم/ 1- الترغيب في الصوم مطلقًا / 1/ 579/ ح 985 (صحيح ، صحيح لغيره)).


ذكر أبي-رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديث في "أحكام الجنائز " تحت عنوان "علامات حُسن الخاتمة"، وعلّق في "تلخيصها" (ص 24، ط 1، 1402ه، المكتبة الإسلامية) قائلًا:
"أقول بهذه المناسبة: لقد توفي شقيقي الكبير محمد ناجي أبو أحمد في موسم السنة الماضية (1401) على عمل صالح إن شاء الله؛ في الجمرات آخر أيام التشريق وهو جالس مع بعض رفاقه الحُجَّاج، وقد ذَكَرَ لي بعضًهم أنَّ أحدَ الجالسين معه قدَّم إليه بيدِه اليُسرى كأسًا مِن الشاي، فقال له: (يا أخي! أعطني بيدك اليمنى ولا تخالف السُّنة) أو كما قال، ومات مِن ساعته، رحمه الله، وحشرنا وإياه ﴿مَعَ [الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ] النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" اﻫ.
اللّهمَّ! آمين
آمين
آمين
الجمعة 19 رمضان 1437هـ




[1] - من "المسند" (5/ 391).

تأويل النصوص التي فيها تجسيد الأعمال؛ ليس من طريقة السلف

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عن عبدِ الله بن عمروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما؛ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"الصيامُ والقرآنُ يَشْفَعان لِلعَبدِ يومَ القيامةِ:
يقول الصيامُ: أي ربِّ! مَنَعْتُهُ الطَّعامَ والشَّهوةَ [بِالنَّهارِ]؛ فشفِّعْني فيه.
ويقول القرآن: مَنَعْتُهُ النَّومَ بالليلِ، فشفِّعْني فيه.
قال: فَيُشَفَّعانِ".(1)
رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، ورجاله محتج بهم في "الصحيح".
ورواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الجوع" وغيره بإسناد حسن، والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
__________
[تعليق أبي رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أي: يشفّعهما اللهُ فيه ويدخله الجنة.
قال المناوي: "وهذا القول يحتمل أنَّه حقيقة بأنْ يجسد ثوابهما ويَخلق الله فيه النطق ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ويحتمل أنَّه على ضربٍ من المجاز والتمثيل".
قلت: والأول هو الصواب الذي ينبغي الجزم به هنا وفي أمثاله من الأحاديث التي فيها تجسيد الأعمال ونحوها، كمثل تجسيد الكنز شجاعًا أقرع، ونحوه كثير. وتأويلُ مثل هذه النصوص ليس مِن طريقةِ السلف رضي الله عنهم، بل هو طريقة المعتزلة ومَن سلك سبيلهم مِن الخَلَف، وذلك مما يُنافي أولَ شروطِ الإيمان ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، فحذار أنْ تحذو حذوهم، فتضلَّ وتشقى، والعياذ بالله تعالى.
"صحيح الترغيب والترهيب" (9- كتاب الصوم/ 1- الترغيب في الصوم مطلقًا / 1/ 579/ ح 984 (حسن صحيح)).

الأحد 14 رمضان 1437هـ

{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} لماذا لم يذكر الرُّسُل؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله.
أما بعد:
قال الله تعالى في آية آل عمران العظيمة:
﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾.
ما الجوابُ إن قيل:
لِمَ لمْ يّذكر اللهُ -سبحانه- شهادةَ الرُّسُل مع شهادةِ الملائكة؟
الجواب:
قال العلامة ابن القيم خلال إبحاره في معاني هذه الآية العظيمة*:
"فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ اللهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ رُسُلِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ، وَهُمْ أَعْظَمُ شَهَادَةً مِنْ أُولِي الْعِلْمِ؟
قِيلَ: فِي ذَلِكَ عِدَّةُ فَوَائِدَ:
إِحْدَاهَا: أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَيَدْخُلُونَ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي ذِكْرِ أُولِي الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتَعْلِيقِهَا بِهِمْ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلْمِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقَالُ: إِذَا طَلَعَ الْهِلَالُ وَاتَّضَحَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَرَاهُ، وَإِذَا فَاحَتْ رَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّمِّ يَشَمُّ هَذِهِ الرَّائِحَةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ [النازعات: 36] أَيْ كُلُّ مَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ يَرَاهَا حِينَئِذٍ عِيَانًا.
فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجُهَّالِ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ مِنْ أُولِي الْجَهْلِ، لَا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيُؤَدِّيهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ، فَهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، وَسَائِرُ مَنْ عَدَاهُمْ أُولُو الْجَهْلِ، وَإِنْ وَسَّعُوا الْقَوْلَ وَأَكْثَرُوا الْجِدَالَ" اﻫ مِن "مدارج السالكين" (4/ 478 و479، ط 2، 1429ﻫ، دار طيبة).

إذا لَقِيَ اللهَ فَجَزَاهُ؛ فَرِحَ

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ لَهُ(1)، إلَّا الصَّومَ؛ فإنَّهُ لي، وأنا أَجْزِي بِهِ، والصِّيامُ جُنَّةٌ(2)، فإذا كان يَومُ صَومِ أَحَدِكُم، فَلَا يَرفُثْ، ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّه أَحَدٌ أو قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائم، إنِّي صَائم(3)، والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَخُلُوفُ فمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتان يَفْرَحُهُما: إذا أَفْطَرَ؛ فَرِحَ بِفِطْرِه، وإذَا لَقِيَ رَبَّه؛ فَرِحَ بِصَوْمِه».(4)
رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم.
وفي رواية للبخاري:
«يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».
وفي رواية لمسلم:
« كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِئَة ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
وفي أخرى له أيضًا ولابن خزيمة:
« إِذَا لَقِيَ اللَّهَ فَجَزَاهُ؛ فَرِحَ» الحديث.
ورواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي بمعناه، مع اختلاف بينهم في الألفاظ.
وفي رواية للترمذي: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ رَبَّكُمْ يَقُولُ: كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ».
__________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أي: له أجر محدود (إلا الصوم)، فأجره بدون حساب. ويشهد لهذا المعنى رواية مسلم الآتية بلفظ: "كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم. .".
(2) بضم الجيم: كل ما سترَ، ومنه (المِجن)، وهو الترس، ومنه سُمي الجن لاستتارهم عن العيون. وإنما كان الصوم جُنَّة؛ لأنه إمساك عنَ الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، كما في الحديث الصحيح: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».
قال ابن الأثير في "النهاية": "معنى كونه جُنّة: أي يَقِي صاحبَه ما يؤذيه من الشهوات".
(3) يحتمل أنْ يكون كلامًا لسانيًّا ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غالبًا. ويحتمل أنْ يكون كلامًا نفسانيًا، أي: يحدِّث به نفسَه ليمنعَها مِن مشاتمته.
قلت: والراجح الأول: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "*وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُ  بِلِسَانِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ; فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا مَا فِي النَّفْسِ فَمُقَيَّدٌ، كَقَوْلِهِ: «عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا»،  ثُمَّ قَالَ: «مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ»، فَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا هُوَ الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ. فَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ: إِنِّي صَائِمٌ؛ بَيَّنَ عُذْرَهُ فِي إِمْسَاكِهِ عَنِ الرَّدِّ، وَكَانَ أَزْجَرَ لِمَنْ بَدَأَهُ بِالْعُدْوَانِ".
(4) أي: بجزائه وثوابه. ففي رواية لأحمد (2/ 232): «إِذَا لَقِيَ اللَّهَ فَجَزَاهُ؛ فَرِحَ»، وسنده صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه في "صحيحه" (3/ 158) في رواية كما يأتي في الكتاب، وابن خزيمة (1900).

"صحيح الترغيب والترهيب" (9- كتاب الصوم/ 1- الترغيب في الصوم مطلقًا / 1/ 574/ ح 978 (صحيح/ صحيح لغيره)).


* للإمام ابن تيمية كلامٌ قبل هذا، يبين فيه الراجح في مسألةِ: هل يُفَرَّق بين الفرضِ والنَّفل، فيجهر في الأولِ دون الثاني؟ ينظر في التدوينة:

وللعلَّامة العثيمين تنبيهٌ لطيف:
" وهل يقولها سرًّا، أو جهرًا؟
قال بعض العلماء: يقولها سرًّا.
وقال بعض العلماء: جهرًا.
وفصَّل بعض العلماء بين الفرض والنفل، فقال: في الفرض يقولها جهرًا؛ لبعده عن الرياء، وفي النفل يقولها سرًّا؛ خوفًا من الرياء.
والصحيح: أنه يقولها جهرًا في صوم النافلة والفريضة؛ وذلك لأن فيه فائدتين:
الفائدة الأولى: بيان أن المشتوم لم يترك مقابلة الشاتم إلا لكونه صائمًا، لا لِعَجْزه عن المقابلة؛ لأنه لو تركه عجزًا عن المقابلة لَاستهان به الآخَرُ، وصار في ذلك ذلٌّ له، فإذا قال: (إني صائم) كأنه يقول: أنا لا أعجز عن مقابلتك وأن أبيِّن من عيوبك أكثر مما بيَّنت مِن عيوبي، لكني امرؤ صائم.
الفائدة الثانية: تذكير هذا الرجل بأنَّ الصائم لا يشاتم أحدًا، وربما يكون هذا الشاتم صائمًا كما لو كان ذلك في رمضان، وكلاهما في الحَضَر سواء، حتى يكون قوله هذا متضمنًا لنهيه عن الشتم، وتوبيخه عليه.
وينبغي للإنسان أن يُبعِد عن نفسه مسألة الرياء في العبادات:
لأن مسألة الرياء إذا انفتحت للإنسان؛ لعب به الشيطان!
حتى إنه يقول له: لا تطمئن في الصلاة وأنت تصلي أمام الناس؛ لئلا تكون مرائيًا.
وحتى يقول له: لا تتقدم للمسجد؛ لأنهم يقولون إنك مراءٍ.
ويقول: لا تنفق؛ لأنهم يقولون مراءٍ.
وأيضًا أنه إذا اتَّبع السُّنَّة قد يكون قدوةً لغيره، فمثلًا لو دعاك أحد لغداءٍ في أيامِ البِيض، وقلت: (إني صائم)؛ حَصَل بذلك تمام العذر لأخيك فعذرك، وربما يقوده ذلك إلى أن يصوم، فيقتدى بك.
فالمهم أن باب الرياء ينبغي للإنسان ألا يكون على باله إطلاقًا، واللهُ -سبحانه- مَدَحَ الذين ينفقون أموالهم سرًّا وعلانية حسب الحال، قد يكون السر أفضل، وقد تكون العلانية أفضل" اﻫ من "الشرح الممتع" (6/ 432 و433، ط 1، 1424هـ، دار ابن الجوزي).

الثلاثاء 9 رمضان 1437هـ

مِن صفات الله عز وجل في قولِه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}

الحمدُ لله وحده، والصَّلاة والسَّلام علىٰ من لا نبي بعده، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديه.
أمَّا بعد
ما وجهُ دخولِ قولِه تعالى:
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ (البقرة: من الآية 144)
في بابِ صفاته جل جلاله؟

الجواب:
في الآية إثباتُ صفةِ الرؤية (البصر)، فالله عز وجل بصير، وصفةِ العلوِّ، فهو سبحانه العليُّ الأعلى. 
وبيانُه -مع فوائد أخرى!- في كلام العلامة العثيمين رَحِمَهُ اللهُ:
"1ــــ من فوائد الآية: إثبات رؤية الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾.
2ــــ ومنها: أن النظر إلى السماء ليس سوءَ أدبٍ مع الله؛ لقوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾، لكن في الصلاة لا يَرفع بَصرَه إلى السماء؛ لِورودِ الوعيدِ الشديد به[1].
3ــــ ومنها: إثبات علوِّ الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهَه في السماء؛ لأن الوحيَ يأتيه من السماء.
4ــــ ومنها: كمال عبوديَّة الرسول صلى الله عليه وسلم لربِّه، حيث كان يحب أن يتوجَّه إلى الكعبة؛ لكنه لم يَفعل حتى أُمر بذلك" اﻫ المراد من "تفسير القرآن الكريم/ سورة البقرة" (2/ 125 و126، ط1، 1423هـ، دار ابن الجوزي).
الثلاثاء 2 رمضان 1437هـ




[1] روى الإمام مسلم في "صحيحه" (428) عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ».

الأذكار وخطبة الحاجة توقيفية

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ:
(اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ).
فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ».
قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ)؛ قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ:
«لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»(1)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) "فيه تنبيهٌ قويٌّ على أنَّ الأوراد والأذكار توقيفية، وأنه لا يجوز فيها التصرّف، بزيادةٍ أو نقص، ولو بتغييرِ لفظٍ لا يُفسِد المعنى، فإنَّ لفظ (الرسول) أعمُّ مِن لفظة (النبي)، ومع ذلك ردَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مع أن البراء رضي الله عنه قاله سهوًا لم يتعمّده! فأين منه أولئك المبتدعة الذين لا يتحرَّجون مِن أيِّ زيادة في الذكر، أو نقص منه؟! فهل مِن معتبِر؟! ونحوهم أولئك الخطباء الذين يبدلون مِن خطبة الحاجة زيادة ونقصًا، وتقديمًا وتأخيرًا، فليتنبه لهذا منهم مَن كان يرجو اللهَ والدار الآخرة" اﻫ .
"صحيح الترغيب والترهيب" (6-  كتاب النوافل/ 9-- الترغيب في كلمات يقولهنّ حين يأوي إلى فراشه/ 1/ 388/ ح 603 (صحيح)).

الأحد 29 شعبان 1437هـ

موضعُ تأمينِ المأمومِ

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِذَا قَالَ الإِمَامُ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
رواه مالك والبخاري -واللفظ له-، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) "ظاهر هذه الرواية أن المؤتمَّ يؤمِّن بعد فراغ الإمام من قراءة ﴿وَلَا الضَّالِّين، وهذا لازمُهُ أنّ تأمينَه يطابق تأمينَ الإمام، ولا يتأخَّر عنه، بخلاف الرواية التالية: «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا»، ورواه البخاري في «الدعوات» بلفظ: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا»، فهذا ظاهرُه أنَّ تأمينَ المأموم يَقع عقبَ تأمينِ الإمام، وبهذا قال بعضهم. وذهب الجمهور إلى الأول.
وكلٌّ مِن الأمرين محتمَل.
   لأنه يمكن تأويل الأول فيقال: إذا قال: ﴿وَلَا الضَّالِّين أي: وأمّن؛ لِتصريح الرواية الأخرى.
   ويمكن تأويل هذه بأنّ المراد: إذا أراد أن يؤمِّن ، وبه تأوَّله الحافظُ وغيرُه، وقد وجدتُ ما يرجِّح هذا التأويل مِن فعل راوي الحديثِ نفسِه فضلًا عن غيره، ولذلك مِلتُ إليه أخيرًا  في المجلد الثاني من "الأحاديث الضعيفة" (رقم ٩٥٢)[1].
ولكنْ على المصلّين أن لا يَسبقوا الإمامَ بـ (آمين) كما يقع مِن جماهيرهم، وطالما حذَّرْناهم مِن ذلك، وعلى الأئمة تذكيرُهم" اﻫ .

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 32- الترغيب في التأمين خلف الإمام/ 1/ 340/ ح 514 (صحيح)).

الأربعاء 25 شعبان 1437هـ
َ


[1] - وكذلك ينظر "صحيحة" الوالد (6/ 78- 81).