الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم خُدّامُ أنفُسِهِم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمَّد، وعلىٰ آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلىٰ يوم الدِّين.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ، رِعَايَةَ إِبِلِنَا، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإذَا رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ».
فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ! مَا أَجْوَدَ هَٰذِهِ!
رواه مسلم وأبو داود –واللفظ له- والنسائي وابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه"، وهو بعض حديث.
ورواه الحاكم إلا أنه قال:
«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ؛ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» الحديث. وقال:
"صحيح الإسناد".
(أوجب) أي: أتىٰ بما يوجِب له الجنة.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5-  كتاب الصلاة/ 14- الترغيب في الصلاة مطلقًا، وفضل الركوع والسجود والخشوع/ 1/ 282 و283/ ح 395 (صحيح لغيره)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هُم أصحابُ مَن حَثَّهم علىٰ أن لا يَسألوا الناسَ شيئًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، كما في حديث عوفِ بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وفيه: «فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَٰئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ»! "صحيح مسلم" (1043).
بل أَمَرَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ:
«اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ السِّوَاكِ»!
رواه البزّار وغيره عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وصححه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1450)، وسيأتي في "صحيح الترغيب والترهيب" (818).
هُم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خُدّامُ، عُمّالُ، مُهَّانُ أنفسِهم!
عن يحيَى بن سعيدٍ أنهُ سألَ عَمْرةَ عنِ الْغُسلِ يومَ الجُمعةِ؟
فقالتْ: قالتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
(كانَ الناسُ مَهَنَةَ (وفي طريقٍ: عُمَّالَ) أنفُسِهم، وكانُوا إِذا راحُوا إِلى الجُمعةِ راحُوا في هيْئَتِهِم، [وكانَ يكون لهم أرواحٌ]، فقيلَ لهم: "لوِ اغتسَلْتُمْ").
"مختصر صحيح الإمام البخاري" للوالد رَحِمَهُ اللهُ (1/ 274/ ح 461).
وعند أبي داود وغيره: (كَانَ النَّاسُ مُهَّانَ أَنْفُسِهِمْ). "صحيح سنن أبي داود" (2/ 181/ ح 379).
وقد استعمل –أبي رَحِمَهُ اللهُ– هٰذا الوصفَ السامي (خُدَّام أنْفُسِهم) في الدعوةِ إلىٰ خُلُقٍ نبيل؛ استنادًا إلىٰ حديثٍ آخر، أنقله مِن "صحيحته":
"فضْلُ المفْطِر على الصائمِ في السَّفَر
85 – «ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ[1]، وَاعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ! ادْنُوَا فَكُلَا».
رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في " المصنف " (ج 2 / 149 / 2) ، والفريابي في
"الصيام" (4 / 64 / 1) عنه وعن أخيه عثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا عمر بن سعد أبو داود عن سفيان عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:
"أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ بِ(مَرِّ الظَّهْرَانِ)، فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «ادْنُوَا فَكُلَا»، فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ، فَقَالَ: «ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ» الحديث.
وكذا أخرجه النسائي (1 / 315) وابن دحيم في " الأمالي " (2 / 1) من طرق أخرىٰ عن عمر بن سعد به.
ثم أخرجه النسائي من طريق محمد بن شعيب: أخبرني الأوزاعي به مرسلًا لم يذكر أبا هريرة، وكذٰلك أخرجه من طريق علي - وهو ابن المبارك - عن يحيىٰ به.
ولعل الموصول أرجح؛ لأن الذي وصله وهو سفيان عن الأوزاعي ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تكن منافية لمن هو أوثق منه.
قلت: وإسناده صحيح علىٰ شرط مسلم، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" وقال: " فيه دليل علىٰ أنَّ لِلصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الْفِطْرَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ النَّهَارِ". كما في " فتح الباري " (4 / 158) .
وأخرجه الحاكم (1 / 433) وقال:
"صحيح علىٰ شرط الشيخين". ووافقه الذهبيُّ! وإنما هو علىٰ شرط مسلم وَحْده، فإنَّ عمر بن سعد لم يخرج له البخاري شيئًا.
والغرضُ مِن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ...» الإنكارُ وبيانُ أنَّ الأفضل أن يُفطِرا ولا يُحْوِجَا الناسَ إلىٰ خِدْمتِهما، ويبيِّنُ ذٰلك ما روى الفريابيُّ (67 / 1) عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال:
"لا تَصُمْ في السَّفَر؛ فإنهم إذا أَكلوا طعامًا؛ قالوا: ارْفَعُوا لِلصَّائم! وإذا عَمِلُوا عَمَلًا قالوا: اكْفُلُوا لِلصَّائم! فيَذْهَبُوا بِأجْرِك!". ورجاله ثقات.
قلت: ففي الحديث توجيهٌ كريم، إلىٰ خُلُقٍ قويم، وهو الاعتمادُ على النَّفْس، وترْكُ التواكُلِ على الغير، أو حَمْلِهم علىٰ خدمته، ولو لسببٍ مشروعٍ كالصيام، أفليس في الحديث إذن ردٌّ واضح علىٰ أولٰئك الذين يستغلُّون عملهم، فيحملون الناس على التسارُع في خدمتهم، حتىٰ في حمل نعالهم؟!
ولئن قال بعضهم: لقد كان الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَخدمون رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن خدمة، حتىٰ كان فيهم مَن يَحمل نعليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عبد الله بن مسعود.
فجوابُنا: نعم، ولٰكن هل احتجاجهم بهٰذا لأنفسهم إلَّا تزكيةٌ منهم لها، واعترافٌ بأنهم ينظرون إليها علىٰ أنهم ورَثَتُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العلم حتىٰ يصح لهم هٰذا القياس؟!
وايم اللهِ! لو كان لديهم نصٌّ علىٰ أنهم الوَرَثَةُ لم يَجُزْ لهم هٰذا القياس، فهٰؤلاء أصحابُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهودُ لهم بالخَيرية -وخاصة منهم العشرة المبشَّرين بالجَنة-، فقد كانوا خُدَّامَ أنفسِهم، ولم يكن واحدٌ منهم يُخدَم مِن غيرِه عُشرَ مِعشارِ ما يُخدَم أولٰئك المعنيُّون مِن تلامذتهم ومريديهم! فكيف وهم لا نصَّ عندهم بذٰلك، ولذٰلك فإني أقول: إنَّ هٰذا القياسَ فاسدُ الاعتبارِ مِن أصله، هدانا اللهُ تَعَالَىٰ جميعًا سبيلَ التواضع والرشاد" اﻫ مِن "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 168 – 170).
وبعد!
فهنيئًا لمن جَبَلَه خالقُه -سبحانه- علىٰ هٰذا الخُلُق الكريم، وإنها لمن النِّعَم أن يكون عيشُ المرءِ بين مَن يتحلَّون بهٰذه الحلية النفيسة، فإنه سيرىٰ صورًا مِن المتابَعة لِلصحابة الكرام رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ولتابعيهم بإحسان، وإن لم يكن ثمة سوطٌ يَسقط ليُتناوَل! وسيتعلّم أنْ ماذا يَضُرُّ مَن يقوم مِن مكانه ويمشي هٰكذا إلىٰ أن يصل إلىٰ مفتاح الضوء أو مفتاح مكيّف الهواء لِيفتحه أو يغلقه، ولو كان هناك قريبًا من هٰذا المفتاح صديقُه أو شقيقُه أو ربَّما ابنُه!
جاء في "الطبقات" لابن سعد (7/ 387 – ط الخانجي) عن الوليد بن سليمان رَحِمَهُ اللهُ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا سَمَرَ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ أَسْرَجَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ, وَإِذَا سَمَرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَسْرَجَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ نَعَسَ السَّرَّاجُ, فَقَامَ إِلَيْهِ لِيُصْلِحَهُ, فَقِيلَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّا نَكْفِيكَ. فَقَالَ:
أَنَا عُمَرُ حِينَ قُمْتُ، وَأَنَا عُمَرُ حِينَ جَلَسْتُ!".
وجاء نحوُه عن رجاء بن حَيْوَة -رَحِمَهُ اللهُ- في "الزهد" للإمام أحمد (1721 – الكتب العلمية)، وفيه أنه قال:
"قُمْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَجَعْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ!".
والأمثلةُ كثيرة جدًّا، إنما المقصودُ هنا التنويهُ وحسْب؛ فالاستغناءُ عن الناس دوحةٌ ضخمةٌ عديدة الأغصان، وفيما سبق فروعٌ رقيقةٌ منها، تهِفُّ عمَّا وراءها مِن عظيم! وقد خَصَّص الحافظ المنذريُّ -رَحِمَهُ اللهُ- في هٰذا الكتاب بابًا للترهيب مِن المسألة والترغيب في التعفُّف، وسيأتي عليه الانتخابُ إن شاء اللهُ تعالىٰ، وإنما عجلت بالتنبيهِ لسببين:
1) لأن هٰذا الحديث ليس في ذاك الباب؛ فهو ليس علىٰ شرط المنذريِّ في تضمُّن الحديثِ لترغيبٍ أو ترهيبٍ. وبعبارة أخرىٰ: لم يَرِدْ وَصْفُ «خُدَّام أنفُسِنا» في هٰذا الكتاب إلَّا هنا، فلم تَرْضَ نفسي أن أدع جَلْوَ مرآتِه، وما طابت بإنساء الاستمداد مِن نورِ مشكاتِه!
2) لقُرْبِ العهدِ بالصيام، وامتدادِه باستحبابِ صيام الستِّ مِن شوال، فلْيتأمّلِ الصائمُ في السَّفر مع رِفقةٍ مفطرين؛ إنْ رام الأفضل!

السبت 9 شوال 1436هـ





[1] - أي شُدُّوا الرَّحْلَ لهما على البَعير. منه.

أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعَلِّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ:
قَعَدْتُ إِلَىٰ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَلَا يَقْعُدُ، فَقُلْتُ: وَاللّٰهِ! مَا أَرَىٰ هَٰذَا يَدْرِي يَنْصَرِفُ عَلَىٰ شَفْعٍ أَوْ عَلَىٰ وِتْرٍ! فَقَالُوا:
أَلاَ تَقُومُ إِلَيْهِ فَتَقُولَ لَهُ؟ قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ:
يَا عَبْدَ اللهِ! مَا أَرَاكَ تَدْرِي تَنْصَرِفُ عَلَىٰ شَفْعٍ أَوْ عَلَىٰ وِتْرٍ! قَالَ:
وَلَٰكِنَّ اللهَ يَدْرِي! سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«مَنْ سَجَدَ لِلّٰهِ سَجْدَةً؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً».
فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ:
أَبُو ذَرٍّ!
فَرَجَعْتُ إِلَىٰ أَصْحَابِي فَقُلْتُ:
جَزَاكُمُ اللهُ مِنْ جُلَسَاءَ شَرًّا! أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعَلِّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وفي رواية(1):
فَرَأَيْتُهُ يُطِيلُ الْقِيَامَ، وَيُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَذَكَرْتُ ذَٰلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَلَوْتُ أَنْ أُحْسِنَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«مَنْ رَكَعَ رَكْعَةً، أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً؛ رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً، وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ».
رواه أحمد والبزّار بنحوه، وهو بمجموع طُرقه حسَنٌ أو صحيح(2).
(ما ألوت) أي: [ما] قَصَّرْتُ.
_____________________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) هٰذه الرواية ليست عن مطرِّف، وإنما رواها أحمد (5/ 147) من طريق أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُخَارِقِ، قَالَ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا... الحديث نحوه، والمخارق هٰذا ذكره ابن حبّان في "ثقات التابعين" (5/ 444)، ولا يُعرف إلا بهٰذه الرواية، ويقوِّيها الرواية الأولىٰ.
(2) قلت: بل له إسنادٌ ثالثٌ عند أحمد أيضًا (5/ 164)، والدارميّ (1/ 341) عن الأحْنَفِ بنِ قيسٍ نحو رواية مطرِّف، وهو صحيح علىٰ شرط مسلم، وهو مخرَّج في "الإرواء" (2/ 209)، وكذا رواه ابن نصر في "الصلاة" (1/ 312/ 288).

"صحيح الترغيب والترهيب" (5-  كتاب الصلاة/ 14- الترغيب في الصلاة مطلقًا، وفضل الركوع والسجود والخشوع/ 1/ 280 و281/ ح 392 (صحيح لغيره)).
________________ 
 وفيها أنَّ الأحنف بن قيس -رَحِمَهُ اللهُ- قال لمّا عَلِمَ أنه أبو ذرٍّ صاحبُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ:
«فَتَقَاصَرَتْ إِلَيَّ نَفْسِي!».

*******
"يَا بَاغِيَ الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ ... لِيَفَوزَ منه بِغَايَةِ الآمَالِ
انْظُرْ إِلَىٰ هَدْيِ الصَّحَابَةِ والذي ... كانُوا عليه في الزَّمانِ الخَالِي
واسْلُكْ طَرِيْقَ القَوْمِ أينَ تَيَمَمُّوا ... خُذْ يَمْنَةً ما الدَّربُ ذاتَ شِمَالِ
تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لِأنْفُسِهِمْ سِوَىٰ ... سُبلِ الهُدَىٰ في القَوْل والأَفْعَالِ
دَرَجُوا عَلَىٰ نَهْجِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ ... وَبِهِ اقْتَدَوْا في سَائِرِ الأَحْوَالِ
نِعْمَ الرِّفِيْقُ لِطَالِبٍ يَبْغِي الهُدَىٰ ... فَمَآلُهُ في الحَشْرِ خَيْرُ مَآلِ
القَانِتِيْنَ المُخْبِتِيْنَ لِرَبِّهمْ ... النَّاطِقِيْنَ بأَصْدَقِ الأَقْوَالِ
التَّارِكْيْنَ لِكُلِّ فِعْلٍ سَيِّئٍ ... وَالعَامِلِيْنَ بأحْسَنِ الأعَمْالِ
أهْوَاءُهُمْ تَبَعٌ لِدِيْنِ نَبِيِّهِمْ ... وسِوَاهُمُ بالضِّدِ في ذِي الحَالِ
ما شَابَهُمْ في دِيْنِهِم نَقْصٌ وَلَا ... في قَوْلِهِمْ شَطْحُ الجَهُولِ الغَالِي
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا ... فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الهُدىٰ بَضلَالِ
وسِوَاهُمُ بالضِّدِ في الأَمرَينِ قدْ ... تَرَكُوا الهُدَىٰ وَدَعَوا إلَى الإِضْلَالِ
فَهُمُ الأَدِلَّةُ لِلحَيَارىٰ مَنْ يَسِرْ ... بِهُدَاهُمُ لَم يَخْشَ مِن إضْلَالِ
وهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإضَاءَةً ... وعُلُوَّ مَنْزِلَةٍ وَبُعْدَ مَنَالِ
يَمُشُوْنَ بَيْنَ الناسِ هَوْنًا نُطْقُهُمْ ... بالحَقِّ لا بِجَهَالَةِ الجُهَّالِ
حِلْمًا وَعِلْمًا مَعْ تُقًى وَتَواضُعٍ ... وَنَصِيْحَةٍ مَع رُتْبَةِ الإِفْضَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُم بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ ... بِتِلَاوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤالِ
وَعُيُونُهُم تَجْرِيْ بِفَيْضِ دُمُوْعِهِمْ ... مِثْلَ انْهِمَالِ الوابِلِ الهَطَّالِ
في اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وعِنْدَ جِهَادِهِمْ ... لِعَدُوِّهِمْ مِن أشْجَعِ الأبْطَالِ
وإذَا بَدَا عَلَمُ الرِّهَانِ رَأيْتَهُمْ ... يَتَسَابَقُونَ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
بِوُجُوْهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ ... وَبِهَا أشِعّةُ نُورِهِ المُتَلَالِي
وَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الكِتَابُ صِفَاتِهِمْ ... فِي سُوْرَةِ الفَتْحِ المُبْينِ العَالِي
وبِرَابِعِ السَّبْعِ الطِّوَالِ صِفَاتُهُمْ ... قَوْمٌ يُحِبُّهُمْ ذَوُوْا إدْلَالِ
وَبَرَاءَةٍ والحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ ... وبِهَلْ أَتَىٰ وبِسُورَةِ الأَنْفَالِ"
"إغاثة اللهفان مِن مصايد الشيطان" للإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ (1/ 254 و255 - مطبعة مصطفى البابي).


الأحد 3 شوال 1436 هـ

«وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ؟!»

الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعده، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديه
أمَّا بعد

عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَجُلَانِ أَخَوَانِ، فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الْأَوَّلِ منْهُما عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«أَلَمْ يَكُنِ الْآخَرُ مُسْلِمًا؟».
قَالُوا: بَلَىٰ، وَكَانَ لَا بَأْسَ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ؟! إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ فِي ذَٰلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟! فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ».
رواه مالكٌ واللفظ له- وأحمد بإسنادٍ حسن، والنسائي، وابن خزيمة في "صحيحه"، إلا أنه قال:
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : سَمِعْتُ سَعْدًا وَنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ:
 كَانَ رَجُلانِ أَخَوَانِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنَ الآخَرِ، فَتُوُفِّيَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُهُمَا، ثُمَّ عُمِّرَ الآخَرُ بَعْدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَذُكِرَ ذٰلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«أَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي؟».
قَالُوا: بَلَىٰ يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَانَ لَا بَأْسَ بِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ومَاذَا يُدْرِيكُمْ مَاذَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاتُهُ؟!». الحديث.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 13- الترغيب في الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والإيمان بوجوبها/ 1/ 272/ ح 371 (صحيح)).


الأربعاء 28 رمضان 1436ه.

«فَمُدْلِجٌ فِي خَيْرٍ، وَمُدْلِجٌ فِي شَرٍّ»

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
رُوي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«يُبْعَثُ مُنَادٍ عِنْدَ حَضْرَةِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَيَقُولُ:
يَا بَنِي آدَمَ! قُومُوا فَأَطْفِئُوا [عَنْكُمْ] مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ.
فَيَقُومُونَ [[فَيَتَطَهَّرُونَ] فتَسْقُطُ خَطَايَاهُمْ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، وَيُصَلُّونَ، فَيُغْفَرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ تُوقِدُونَ فِيمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الصَّلَاةِ الْأُولَىٰ نَادَىٰ:
يَا بَنِي آدَمَ! قُومُوا فَأَطْفِئُوا مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ.
فَيَقُومُونَ، فَيَتَطَهَّرُونَ](1)، وَيُصَلُّونَ (الظُّهْرَ)، فَيُغْفَرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعَصْرُ فَمِثْلُ ذَٰلِكَ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْمَغْرِبُ فَمِثْلُ ذَٰلِكَ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعَتَمَةُ فَمِثْلُ ذَٰلِكَ، فَيَنَامُونَ [وَقَدْ غُفِرَ لَهُمْ](1)، فَمُدْلِجٌ[1] فِي خَيْرٍ، وَمُدْلِجٌ فِي شَرٍّ».
رواه الطبرانيُّ في "الكبير".
_____________________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) زيادة مِن "الكبير"، وكأن المصنّف تعمَّد حذفَها اختصارًا، فإنها ليست في المخطوطة أيضًا، وتبعه الهيثمي، وأعلَّه بأنَّ فيه أبان بن أبي عيَّاش، وهو وهْمٌ منه، كما وهم المؤلف في الإشارة إلىٰ تضعيف الحديث؛ فإنّ إسناده حسن، كما بيَّنتُ ذٰلك في "الصحيحة" (2530).

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 13- الترغيب في الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والإيمان بوجوبها/ 1/ 266/ ح 359 (حسن)).

الأحد 25 رمضان 1436ه.





[1] - "قال ابنُ السِّكِّيتِ: أَدْلَجَ القوم إدلاجًا: إذا ساروا الليلَ كلَّه، فهم مُدْلِجُونَ" اﻫ مِن "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 654 – الدار المصرية).

هل تُكفِّر الصلواتُ الخمسُ الكبائرَ أيضًا؟

الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعده، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتبع هديه
أمَّا بعد
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟»
قَالُوا: لَا يَبْقَىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ:
«فَكذَٰلِكَ(1) مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»(2).
رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
ورواه ابن ماجه من حديث عثمان.
(الدَّرَنَ): بفتْحِ الدال المهْمَلة والراءَ جميعًا: هو الْوَسَخُ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ(3)».
رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
_____________________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) كذا وجُد بإقحام الكاف، وصوابُه "فذٰلك"، وهو لفظُ الحديث، وفي القرآن: ﴿ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ. نبَّه عليه الناجي.
 (2) قال ابن العربي: وَجْهُ التَّمْثِيلِ أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يَتَدَنَّسُ بِالْأَقْذَارِ الْمَحْسُوسَةِ فِي بَدَنِهِ وَثوبِهِ وَيُطَهِّرُهُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ؛ فَكَذَٰلِكَ الصَّلَوَاتُ تُطَهِّرُ الْعَبْدَ مِنْ أَقْذَارِ الذُّنُوبِ حَتَّىٰ لَا تُبْقِيَ لَهُ ذَنْبًا إِلَّا أَسْقَطَتْهُ وكّفَّرَتْهُ. واللهُ أعلمُ.
(3) أي: ما لم يؤتَ. قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ في "شرح مسلم":
"مَعْنَاهُ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلّهَا تُغْفَرُ إِلَّا الْكَبَائِرَ، فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يُغْفَرُ شَيْءٌ مِنَ الصَّغَائِر، فَإِنَّ هَٰذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَسِيَاق الْحَدِيث يَأْبَاهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللهُ: هَٰذَا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوب مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ، أَوْ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَىٰ وَفَضْلُه. واللهُ أَعْلَمُ".
قلتُ: هٰذا الحَصْرُ ينافي الاستفهامَ التقريريَّ في الحديث الذي قبله: «هَلْ يَبْقَىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» كما هو ظاهر؛ فإنه لا يُمكن تفسيرُه علىٰ أنَّ المرادَ به الدَّرّنُ الصغيرُ، فلا يَبقىٰ منه شيءٌ، وأمَّا الدَّرَنُ الكبيرُ فيَبقىٰ كلُّه كما هو! فإنَّ تفسيرَ الحديثِ بهٰذا ضَرْبٌ له في الصَّدر، كما لا يَخفىٰ. وفي الباب أحاديث أخرىٰ لا يمكن تفسيرُها بالحَصْرِ المذكور، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَم يَفْسُقْ؛ رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وسيأتي إن شاء اللهُ تَعَالَىٰ.
فالذي يبدو لي -واللهُ أعلم- أنَّ اللهَ تَعَالَىٰ زاد في تَفَضُّلِه علىٰ عِبادِه، فوَعَدَ المصلِّين منهم بأن يَغفر لهمُ الذنوبَ جميعًا وفيها الكبائرُ، بَعد أن كانتِ المغفرةُ خاصَّةً بالصَّغائر، ولعلَّ ممَّا يؤيِّد هٰذا قولَه تَعَالَىٰ: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، فإذا كانت الصغائرُ تُكفَّر بمجرَّد اجتناب الكبائر، فالفَضْلُ الإلٰهيُّ يَقتضي أن تكون لِلصَّلاة وغيرِها مِن العبادات فضيلةٌ أُخرىٰ تتميز بها علىٰ فضيلةِ اجتنابِ الكبائر، ولا يبدو أنَّ ذٰلك يكون إلا بأن تُكَفَّر الكبائرُ. واللهُ أعلمُ.
ولٰكنْ ينبغي على المصلِّين أن لا يَغترُّوا؛ فإنَّ الفضيلةَ المذكورةَ لا شكَّ أنه لا يستحقُّها إلا مَن أقام الصَّلاةَ، وأتمَّها وأَحْسَن أداءها كما أُمِر، وهٰذا صريحٌ في حديث أبي أيوبَ المتقدِّم (4- الطهارة/ آخر الباب 7) «مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ، وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ». وأنَّىٰ لِجماهير المصلّين أن يُحقِّقوا الأمْرَين المذكورَين؛ لِيَستحقُّوا مغفرةَ اللهِ وفضْلَهُ العظيمَ؟! فليس لنا إلا أن ندعوَ اللهَ أن يُعامِلنا برحْمَتِه، وليس بما نَستحقُّه بأعمالنا!".
"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 13- الترغيب في الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والإيمان بوجوبها/ 1/263 و264/ ح 352 - 354 (صحيح/ صحيح لغيره/ صحيح)).

الأربعاء 21 رمضان 1436ه.

مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَىٰ جَنْبِ الْمَسْجِدِ!

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا أَعْلَمُ رَجُلًا أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، كَانَتْ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ! فَقِيلَ لَهُ:
لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ وَفِي الرَّمْضَاءِ؟ فَقَالَ:
مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَىٰ جَنْبِ الْمَسْجِدِ؛ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَىٰ أَهْلِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَٰلِكَ كُلَّهُ».
( وفي رواية ) :
فَتَوَجَّعْتُ لَهُ، فَقُلْتُ:
يَا فُلَانُ! لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ الرَّمْضَاءَ وَهَوَامَّ الْأَرْضِ؟ قَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ! مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطَنَّبٌ بِبَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالَ:
فَحَمَلْتُ بِهِ حِمْلًا! حَتَّىٰ أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَٰلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْجُو أَجْرَ الْأَثَرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ».
رواه مسلم وغيره. ورواه ابن ماجه بنحو الثانية.
(الرمضاء) ممدودًا: هي الأرض الشديدة الحرارة مِن وقْع الشمس.
________________
 [تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أي: مشدودٌ بالأَطْنَابِ، و(الطُّنُبُ): أحدُ أَطْنابِ الخَيمَة. قال ابنُ الأثير: "يعني ما أُحِبُّ أن يَكون بيتي إلىٰ جانبِ بَيتِهِ؛ لأني أَحْتَسِبُ عندَ اللهِ كَثرةَ خُطايَ مِن بَيتي إلى المسجدِ".
(2) بِكَسْرِ الْحَاءِ: معناهُ أَنه عَظُمَ عَلَيَّ وَثَقُلَ، وَاسْتَفْظَعْتُهُ؛ لِشَنَاعَةِ لَفْظِهِ، وَهَمَّنِي ذَٰلِكَ. وَلَيس المرادُ به الْحَمْلَ عَلَى الظَّهْرِ. كذا في "العجالة" (54).

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 9- الترغيب في المشي إلى المساجد سيّما في الظُّلَم، وما جاء في فضلها/ 1/ 244/ ح 308 (صحيح)).

*******************
"(فائدة):
"وأمَّا الحديث الذي أخرجه أحمد (5/399) من طريق بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ عَلِيَّ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ فَضْلَ الدَّارِ الْقَرِيبَةِ -يَعْنِي مِنَ الْمَسْجِدِ- عَلَى الدَّارِ الْبَعِيدَةِ كَفَضْلِ الْغَازِي عَلَى الْقَاعِدِ):
فهو حديثٌ منكَر جدًّا؛ وعليُّ بنُ يزيد هٰذا: هو الألهَانيّ، وهو متروك؛ وقد
رواه بلاغًا عن حُذيفة؛ فبينهما مجهول.
وقد أسقطه ابنُ لهيعةَ في روايته عن بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو. أخرجه أحمد أيضًا (5/387)، وهو مِن سُوء حِفْظِ ابنِ لهيعة" اﻫ كلامُ أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "صحيح سنن أبي داود" الأُمّ (3/ 81 و82).

الإثنين 19 رمضان 1436هـ

«الْقَاعِدُ يَرْعَى الصَّلَاةَ: كالْقَانِتِ»

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بَعْدُ
عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
«إذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ يَرْعَى الصَّلَاةَ؛ كَتَبَ لَهُ كَاتِبَاهُ -أَوْ كَاتِبُهُ- بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إلَى المَسْجِدِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَالْقَاعِدُ يَرْعَى الصَّلَاةَ كَالْقَانِتِ، وَيُكْتَبُ مِنَ المُصَلِّينَ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِه حَتَّىٰ يَرْجِعَ إلَيْهِ».
[قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:]
رواه أحمد، وأبو يعلىٰ، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وبعض طرقه صحيح، وابن خزيمة في "صحيحه"، ورواه ابن حبان في "صحيحه" مفرَّقًا في موضعين.
(القنوت): يُطلَق بإزاءِ مَعانٍ، منها:
1/ السكوت.
2/ والدعاء.
3/ والطاعة.
4/ والتواضع.
5/ وإدامة الحج.
6/ وإدامة الغزو.
7/ والقيام في الصلاة، وهو المراد في هٰذا الحديث، والله أعلم.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 9- الترغيب في المشي إلى المساجد سيّما في الظُّلَم، وما جاء في فضلها/ 1/ 240/ ح 298 (صحيح)).
*****************
قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ
"ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْقُنُوتَ وَرَدَ لِعَشْرَةِ مَعَانٍ، فَنَظَمَهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِيمَا أَنْشَدَنَا لِنَفْسِهِ إِجَازَةً غَيْرَ مَرَّةٍ:
وَلَفْظُ     الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيَه تَجِدْ   *   مَزِيدًا عَلَىٰ   عَشْرٍ   مَعَانِيَ   مَرْضِيَّهْ
دُعَـاءٌ       خُشُوعٌ      وَالْعِبَادَةُ    طَاعَةٌ   *   إِقَامَتُهَا          إِقْـــــــــرَارُه       بِالْعُبُودِيَّهْ
سُكُوتٌ       صَلَاةٌ     وَالْقِيَامُ    وَطُولُه   *    كَذَاك   دَوَامُ الطَاعَةِ   الرَّابِحُ الْقُنْيَهْ"
مِن "فتح الباري" (2/ 570، ط3، 1407، السلفية – القاهرة).


السبت 17 رمضان 1436هـ

«لَا يُصَلِّي لَكُمْ هٰذا»

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد، وعلىٰ آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلىٰ يوم الدِّين.
عن أَبى سَهْلَةَ السَّائبِ بْنِ خَلَّادٍ -مِن أَصحاب النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ:
«لَا يُصَلِّي لَكُمْ هٰذا».
فَأَرَادَ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَٰلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«نَعَمْ» وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ!».
رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه".

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 8- الترهيب مِن البصاق في المسجد وإلى القبلة، ومِن إنشاد الضَّالَّة فيه، وغير ذٰلك مما يُذْكَر هنا / 1/ 235/ ح 288 (صحيح لغيره)).


الخميس 15 رمضان 1436هـ