هل لآخر السَّنَة خصوصية بعبادة؟

قال سماحة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله -في أواخر شريط (تلقي العلم وضوابطه) الذي كان بتاريخ 11محرم1427-:
آخر السَّنَةِ ليس له خصوصيةٌ بالعباداتِ أو شيءٍ مِن الأذكار، كما يروج الآن في الجوّالات: اعملوا في آخر السَّنَةِ كذا، وقُولوا كذا!
هذا مِن البِدعِ، والدعوةِ إلى البِدع.
فليس لآخِرِ السَّنَةِ خُصوصيّةٌ عن أوَّلِها أو عن وسطِها أو عن أيِّ شهرٍ أو يومٍ.
المسلمُ مَطلوبٌ منه العملُ في كُلِّ السَّنَةِ لا في آخِرها فقط!
ثم إنّ آخِرَ السَّنَةِ هذا اصطِلاحيٌّ وليس هو حقيقيًا.

قولهم: جمعة مباركة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه

أما بعد

فقد انتشرت قبل عام – وربما أكثر ولكني لم أنتبه، الله أعلم – عبارةٌ كثيرًا ما يتبادلها الناس، لا سيما في رسائل الجوال..
ترسل إحداهن يوم أو ليلة الجمعة رسالةً فيها حديثٌ (صحيح أو ضعيف، سيان! ولا حول ولا قوة إلا بالله) ثم تختم رسالتها بعبارة:
جمعة مباركة
فباختصار أقول إن هذه العبارة لم يرد عن السلف أنهم كانوا يقولها بعضهم لبعض يومَ الجمعة
وأرى الأمر شديد الوضوح في هذا
لكن انتشار هذه العبارة وإصرار البعض عليها حتى سرتْ إلى بعض الأخوات ممن نظن أنهن على علم بأهمية متابعة السلف؛ دفعني لأسأل عنها فضيلة شيخنا عبيد الجابري -حفظه الله- عنها فقال:
"لم أعلم لها أصلاً".

كان ذلك في النصف الثاني من شهر رمضان الماضي (1429هـ)
.
هذا وقد أبلغتْني - بَعدُ - أختٌ لي مِن الفُضليات أنّ سماحة الشيخ الفوزان قد أفتى في هذا، وأرسلتْ لي الرابط أثابها الله، فها هي فتواه - حفظه الله - متبوعةً بالرابط:
سئل حفظه الله:
ما حكم إرسال رسائل الجوال كل يوم جمعة وتختم بكلمة جمعة مباركة؟
فأجاب:
"ما كان السلف يهنئ بعضهم بعضًا يوم الجمعة؛ فلا نحدث شيئًا لم يفعلوه".

ألا هل بلغت؟

نبذة عن الإمام القصاب صاحب "نكت القرآن"

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
ترجمة موجزة للحافظ الإمام القصاب
صاحب "نكت القرآن"

قال الحافظ الذهبي رحمه الله:
"القصاب الحافظ الإمام أبو أحمد محمد بن علي بن محمد الكَرَجي المجاهد، وإنما عرف بالقصاب لكثرة ما اهراق مِن دماء الكفار في الغزوات.
وكان والده يروي عن علي بن حرب الطائي وطبقته.
وروى هو عن:
محمد بن إبراهيم الطيالسي، وعبد الرحمن بن محمد بن سلم الرازي، ومحمد بن العباس الأخرم، وجعفر بن أحمد بن فارس، والحسن بن يزيد الدقاق، وخلق كثير.
وصنف:
كتاب ثواب الاعمال، وكتاب عقاب الأعمال، وكتاب السُّنّة، وكتاب تأديب الأئمة، وغير ذلك.
روى عنه:
ابناه أبو الحسن علي، وأبو الفرج عمار، وأبو منصور المظفر بن محمد بن الحسين البروجردي، وغيرهم.
ولم أظفر بوفاته، وكأنه بقي إلى قريب الستين وثلاث مائة، فالله أعلم.
وفيه يقول أبو الحسن الكرجى:
وفي الكرج الغراء أوحد عصره * أبو أحمد القصاب غير مغالب
تصانيفه تبدي غزير علومه * فلست ترى علمًا له غير سارب
وهو القائل في كتاب "السُّنة":
"كلُّ صفةٍ وَصَف الله بها نفسه أو وصفه بها نبيه فهي صفة حقيقة لا مجاز".
قلت [القائل الإمام الذهبي رحمه الله]:
نعم؛ لو كانت صفاته مجازًا لتحتّم تأويلُها ولقيل: معنى البصر كذا، ومعنى السمع كذا، ومعنى الحياة كذا، ولفُسِّرَت بغير السابق إلى الأفهام، فلما كان مذهب السلف إمرارها بلا تأويل؛ عُلم أنها غير محمولة على المجاز، وأنها حق بيّن".
انتهى من "تذكرة الحفاظ" (3/ 938 و939)

ومما جاء في مقدمة تحقيق كتاب "النكت" للشيخ علي التويجري – حفظه الله – (1/ 19 – 47)، وأنقله هنا باختصار:

الكَرَجِي: نسبة إلى الكَرَج، وهي مدينة بين همذان وأصبهان، ومكانها يقع الآن في غرب إيران.

يظهر أنه نشأ في بيت علم؛ لأن والده كان من المحدثين ومن أصحاب علي بن حرب الطائي.

قضى وقتًا من عمره في الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار، وكان رحمه الله شجاعًا شديد الفتك بالكفار، معملاً سيف الحق في رقابهم، يقتلهم تقتيلاً حتى اشتهر ذلك عنه وسمي من أجله بالقصاب.

سلفي المعتقد يدور مدار الدليل من القرآن والسنة، ويقول بما يقول به الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
مذهبه مذهب المحدّثين، فهو يقول بموجب ما يظهر له من الدليل، ولم يكن مقلدًا ولا متبعًا لمذهب من المذاهب الفقهية المعروفة.

أثنى عليه من العلماء كل من:
الصفدي، شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر، وابن عبد الهادي، والسيوطي، رحمهم الله جميعًا.

جمع القصاب رحمه الله بين علوم:
العقيدة ومذاهب الناس، والفقه، والحديث، والتفسير، واللغة والقراءات والناسخ والمنسوخ.

وللتوسع؛ تُراجَع المقدمة المذكورة؛ فقد جَمَع فيها الشيخُ –حفظه الله- جمعًا وافيًا يُغْني عن أيّ مصدر في ترجمة هذا الإمام، فجزاه الله خيرًا، ورَحِمَ العلامةَ القصاب.. آمين.

معنى (إيمانًا واحتسابًا)

نص الرسالة (مِن المناسب إرسالها في رمضان) :
ما معنى (إيمانًا واحتسابًا)؟
يُنظر تفسير ابن كثير للآية (265: البقرة).
.
~~~~~~~~~
.
.
يقرأ المرسَل إليه قوله تعالى:
.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
.


ثم يقرأ تفسير الحافظ ابن كثير - رحمه الله- للآية ففي أوله:
"...{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في المعنى: قوله عليه السلام في الحديث المتفق على صحته: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا. . . )) أي:
يؤمن أنّ الله شَرَعَهُ، ويحتسب عندَ الله ثوابَه.
قال الشعبي: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: تصديقًا ويقينًا".




الإنصات للموعظة واجب! قاله الإمام القصاب

نص الرسالة:
الإسراء 47 قال فيها الإمام القصاب في كتابه "نكت القرآن":
دليل على أن الإنصات للموعظة والإقبال على الواعظ واجب

.
~~~~~~~~~
.
يقرأ المرسَل إليه آية الإسراء:
.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}

من كان عنده كتاب "النكت" يمكنه أن يقرأ المزيد؛ قال رحمه الله:

"ذكر الموعظة:
قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}
دليلٌ على أن الإنصات للموعظة والإقبال على الواعظ؛ واجب ، وأن الكلام عندها أو محادثة بعضهم بعضًا في مجمعٍ يعظ فيه واعظٌ؛ مذموم، وتهاونٌ بالموعظة ولهوٌ عنها، وفي ذلك زوال منفعتها وفهم ما أودع فيها".
.
.
ومن لم يكن عنده، فيكفيه العبارة المرسَلة، فيربط بين كون الآية في سياق وصف حال المشركين، ونحن منهيون عن التشبُّه بهم مأمورون بمخالفتهم، فيستنبط حكمَ الوجوب الذي توصل إليه الحافظ القصاب.


التوحيد هو الصدق والموحِّدون هم الصادقون

نص الرسالة:
من هم الصادقون؟ وما هو صدقهم؟

انظر تفسير ابن كثير رحمه الله، المائدة: 119
.
~~~~~~~~~
.
يقرأ المرسَل إليه آية المائدة:

.
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
.

ثم يقرأ تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله وفيه:
"{ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } قال الضحاك، عن ابن عباس يقول:

"يوم ينفع الموحِّدين توحيدُهم".

موعظة قيمة من ابن عباس رضي الله عنهما ووصف جليل للقرآن

نص الرسالة:
موعظة قيمة من ابن عباس رضي الله عنهما ووصف جليل للقرآن

ص بخاري ك توحيد ب 42

~~~~~~~~~~~~~~
.
يفتح المرسَل إليه "صحيح البخاري" كتاب التوحيد الباب الثاني والأربعين؛ فيجد:
..موعظة قيمة من ابن عباس رضي الله عنهما ووصف جليل للقرآن
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟!"
.

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:
"يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكُتُبَ، قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَوَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟! فَلَا وَاللَّهِ! مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ".

لو كان خيرًا لسبقونا إليه

نص الرسالة:
خطأ فاحش للكفار، وصوابه عند أهل السنة والجماعة.
انظر تفسير ابن كثير، الأحقاف: 11

.
~~~~~~~~~
.
يقرأ المرسَل إليه قوله تعالى:
.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: 11)

.
ثم يقرأ تفسير ابن كثير- رحمه الله- إذ قال:
"وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرًا؛ ما سبقنا هؤلاء إليه، يَعنون بلالاً وعمارًا وصُهَيبًا وخبابًا وأشباههم وأقرانهم مِن المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أنّ لهم عند الله وجاهةً وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطًا فاحشًا، وأخطئوا خطأ بيّنًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] أي: يتعجبون: كيف اهتدى هؤلاء دوننا؛ ولهذا قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}
وأما أهل السُّنّة والجماعة فيقولون في كلِّ فِعلٍ وقولٍ لم يَثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرًا؛ لَسَبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة مِن خصال الخير إلا وقد بادروا إليها".

لا نحصي ثنـــــــــــاء عليك

نص الرسالة:
مَثَلٌ لا يَسعنا بَعدَه إلا أن نقول:

لا نُحصي ثناء عليك.
انظر تفسير السعدي، لقمان (27)

.
~~~~~~~~~~
.
يقرأ المرسَل إليه آية سورة لقمان:

.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
.

ثم يقرأ تفسير العلامة السعدي رحمه الله:
"ثم أخبر عن سعة كلامه وعظمة قوله، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ، وتنبهر له العقول، وتحير فيه الأفئدة، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر، فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} يكتب بها {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} مدادًا يستمد بها، لتكسّرت تلك الأقلام، ولفني ذلك المداد، ولم تنفد {كَلِمَاتُ اللَّهِ} تعالى، وهذا ليس مبالغةً لا حقيقة له، بل لَمّا عَلم تبارك وتعالى، أن العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته، وعَلم تعالى أنّ معرفته لعباده، أفضل نعمة، أنعم بها عليهم، وأجل منقبة حصلوها، وهي لا تُمكن على وجهها، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله؛ فنبّههم تعالى تنبيهًا تستنير به قلوبُهم، وتنشرح له صدورُهم، ويستدلّون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه، ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه:
"لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"
وإلا فالأمر أجلُّ مِن ذلك وأعظم.
وهذا التمثيل مِن باب تقريب المعنى، الذي لا يُطاق الوصول إليه إلى الأفهام والأذهان، وإلا فالأشجار، وإن تضاعفت على ما ذكر أضعافًا كثيرة، والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة؛ فإنه يُتصوَّرُ نفادُها وانقضاؤها؛ لكونها مخلوقة.
وأما كلام اللّه تعالى، فلا يُتصوّر نفادُه، بل دلَّنا الدليلُ الشرعي والعقلي، على أنه لا نفاد له ولا منتهى، وكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}
وإذا تَصوَّر العقل حقيقةَ أوليته تعالى وآخريته، وأنه كل ما فرضه الذهن مِن الأزمان السابقة، مهما تسلسل الفرض والتقدير؛ فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية

وأنه مهما فرضه الذهن والعقل، مِن الأزمان المتأخرة، وتسلسل الفرض والتقدير، وساعد على ذلك مَن ساعد، بقلبه ولسانه؛ فاللّه تعالى بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية.
واللّهُ في جميع الأوقات يحكم، ويتكلم، ويقول، ويفعل كيف أراد، وإذا أراد لا مانع له مِن شيء مِن أقواله وأفعاله، فإذا تصور العقلُ ذلك؛ عَرَف أنّ الْمَثَلَ الذي ضربه اللّه لكلامه، ليدرك العباد شيئًا منه، وإلا فالأمر أعظم وأجلّ.
ثم ذكر جلالةَ عزته وكمالَ حكمته فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: له العزة جميعًا، الذي ما في العالم العلوي والسفلي مِن القوة إلا منه، أعطاها للخلق، فلا حول ولا قوة إلا به، وبعزته قهر الخلق كلهم، وتصرّف فيهم، ودبّرهم، وبحكمته خلق الخلق، وابتدأه بالحكمة، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة، وكذلك الأمر والنهي وجد بالحكمة، وكانت غايته المقصودة الحكمة، فهو الحكيم في خلقه وأمره".

لا يكفي الإقرار ببعض الحق

نص الرسالة:

الزخرف 9 ؛ لا يكون العبد بإقراره ببعض الحق مؤمنًا حتى يقر بجميعه. انظر "نكت القرآن"

يقرأ المرسَل إليه آية الزخرف 9 :

.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}
.
ثم إن كان عنده كتاب "نكت القرآن" يجد فيه:
"الإقرار ببعض الحق:
قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، وكذلك قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف : من الآية 87) ، دليل على أن الإنسان لا يكون بإقراره ببعض الحق مؤمنًا حتى يقر بجميعه، وأن الكفر ببعض الحق كفرٌ بجميعه؛ ألا ترى أن القوم قالوا حقًا، لم ينفعهم الإقرار به، وقد ردّوا غيره". ا.هـ
.
وإذا لم يكن لديه هذا الكتاب فيكفي تأمله في الآية مع ربطه بتلك الجملة المختارة.

معارَضةُ الباطلِ للحقِّ؛ عُلُوٌّ للحقِّ

نص الرسالة:
معارضة الباطل للحق علو للحق. انظر تفسير السعدي. الفرقان :31

~~~~~~~
يقرأ المرسَل إليه آية الفرقان 31 :

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }

ثم يقرأ تفسير العلامة السعدي؛ فيجد:
.
"{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
مِن بعض فوائد ذلك:
أن يعلو الحق على الباطل
وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحًا عظيمًا
لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحًا وبيانًا وكمالَ استدلال
وأن يتبين ما يَفعل اللهُ بأهلِ الحق مِن الكرامة، وبأهل الباطل من العقوبة، فلا تحزن عليهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا } يهديك فيحصل لك المطلوب، ومصالح دينك ودنياك. { وَنَصِيرًا } ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا، فاكتف به وتوكل عليه".

أحقُّ ما قال العبدُ

نص الرسالة:
ما هو أحق ما قاله العبد؟ انظر صحيح مسلم ك الصلاة ب40 ح 477

~~~~~~~~~
يفتح المرسَل إليه "صحيح مسلم"؛ فيجد:


حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ قَزْعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ:

(رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ -وَكُلُّنَا لَكَ عَبْد-:ٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ).

استعمال العقل في التفكر في آيات الله

نص الرسالة:
استعمال العقل في التفكر في آيات الله يزيد العقل وينمي اللب. تفسير السعدي (النور:61).

~~~~~~~~~~~~~

يقرأ المرسَل إليه آية النور: 61:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
ثم يقرأ تفسير السعدي - رحمه الله- لها، وفي آخره:
"{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ } الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } عنه فتفهمونها، وتعقلونها بقلوبكم، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها، يزيد في العقل، وينمو به اللب، لكون معانيها أجل المعاني، وآدابها أجل الآداب، ولأن الجزاء من جنس العمل، فكما استعمل عقله للعقل عن ربه، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها؛ زاده من ذلك".

حجة على من يبتغي مع القرآن والسنة سواهما

نص الرسالة:
الحجرات 1 ؛ قال فيها الإمام القصاب في كتابه "نكت القرآن":
حجة على من يبتغي مع القرآن والسنة سواهما ويلتمس الحجة في غيرهما

الصدق والتصديق به

نص الرسالة:
الزمر 33 ؛ ما هو الصدق؟ ومن الذي جاء به؟ ومن الذي صدقه؟ بخاري ك تفسير، وابن كثير
~~~~~~~
يفتح المرسَل إليه "صحيح البخاري" كتاب التفسير/ سورة الزمر؛ فيجد:


"{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } الْقُرْآنُ
{ وَصَدَّقَ بِهِ } الْمُؤْمِنُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ"

ويفتح "تفسير ابن كثير" / سورة الزمر؛ فيجد:
"قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد: { الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو الرسول. وقال السدي: هو جبريل عليه السلام، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } قال: من جاء بلا إله إلا الله، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الربيع بن أنس: "الذين جاءوا بالصدق" يعني: الأنبياء، "وصدقوا به" يعني: الأتباع.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } قال: أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا، فعملنا فيه بما أمرتمونا.
وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير، فإنه جاء بالصدق، وصدَّق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } المسلمون".

تابع 4 / التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام

**[الدعوة إلى العقيدة الصحيحة تحتاج إلى بذل جهد عظيم ومستمر]
فإذاً ، فالدعوة إلى التوحيد وتثبيتها في قلوب الناس تقتضي منا ألا نمر بالآيات دون تفصيل، كما في العهد الأول؛ لأنهم - أولاً - كانوا يفهمون العبارات العربية بيسر ، -وثانياً- لأنه لم يكن هناك انحراف وزيغ في العقيدة نبع من الفلسفة وعلم الكلام، فقام ما يعارض العقيدة السليمة، فأوضاعنا اليوم تختلف تماماً عما كان عليه المسلمون الأوائل ، فلا يجوز أن نتوهم بأن الدعوة إلى العقيدة الصحيحة هي اليوم من اليسر كما كان الحال في العهد الأول، وأقرب هذا في مثل لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان - إن شاء الله تعالى- :
من اليُسر المعروف حينئذ أن الصحابي يسمع الحديث مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ثم التابعي يسمع الحديث مِن الصحابي مباشرة ... وهكذا نقف عند القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية ، ونسأل :
هل كان هناك شيء اسمه علم الحديث ؟
الجواب : لا .
وهل كان هناك شيء اسمه علم الجرح والتعديل ؟
الجواب : لا .
أما الآن فهذان العِلمان لا بد منهما لطالب العلم ، وهما من فروض الكفاية ؛ وذلك لكي يتمكن العالم اليوم من معرفة الحديث إن كان صحيحاً أو ضعيفاً ، فالأمر لم يعد ميسّراً سهلاً كما كان ذلك ميسراً للصحابي؛ لأن الصحابي كان يتلقى الحديث مِن الصحابة الذين زُكُّوا بشهادةِ الله عز وجل لهم ....إلخ .
فما كان يومئذ ميسوراً ليس ميسوراً اليوم؛ مِن حيث صفاء العلم وثقة مصادر التلقي ، لهذا لا بد مِن ملاحظة هذا الأمر والاهتمام به كما ينبغي مما يتناسب مع المشاكل المحيطة بنا اليوم -بصفتنا مسلمين- ، والتي لم تحط بالمسلمين الأولين؛ مِن حيث التلوث العقدي الذي سبَّب إشكالات وأوجد شبهات مِن أهل البدع المنحرفين عن العقيدة الصحيحة ومنهج الحق تحت مسميات كثيرة ، ومنها: الدعوة إلى الكتاب والسُّنة فقط ! كما يزعم ذلك ويدعيه المنتسبون إلى علم الكلام .
ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض ما جاء في الأحاديث الصحيحة في ذلك، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذَكَرَ الغرباء في بعض تلك الأحاديث ، قال : ((للواحد منهم خمسون مِن الأجر)).
قالوا : منا يا رسول الله، أو منهم ؟
قال: ((منكم))
[1] .
وهذا من نتائج الغربة الشديدة للإسلام اليوم، التي لم تكن في الزمن الأول ، ولا شك أن غربة الزمن الأول كانت بين شركٍ صريحٍ وتوحيدٍ خالٍ مِن كلِّ شائبة، بين كفرٍ بواحٍ وإيمانٍ صادقٍ، أما الآن فالمشكلة بين المسلمين أنفسهم، فأكثرهم توحيدُه مليء بالشوائب، ويوجه العبادات إلى غير الله ويدعي الإيمان! هذه القضية ينبغي الانتباه لها أولاً، وثانياً : لا ينبغي أن يقول بعض الناس : إننا لا بد لنا مِن الانتقال إلى مرحلة أخرى غير مرحلة التوحيد وهي العمل السياسي !!
لأن الإسلام دعوته دعوة حقٍّ أولاً ، فلا ينبغي أن نقول : نحن عرب، والقرآن نزل بلغتنا، مع تذكيرنا أن العرب اليوم عكس الأعاجم الذين استعربوا؛ بسبب بعدهم عن لغتهم ، وهذا ما أبعدهم عن كتاب ربهم وسنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فهب أننا نحن العرب قد فهمنا الإسلام فهماً صحيحاً، فليس مِن الواجب علينا بأن نعمل عملاً سياسياً، ونحرك الناس تحريكاً سياسياً، ونشغلهم بالسياسة عما يجب عليهم الاشتغال به ، في فهم الإسلام؛ في العقيدة ، والعبادة ، والمعاملة والسلوك .
فأنا لا أعتقد أن هناك شعباً يعد بالملايين قد فهم الإسلام فهماً صحيحاً، أعني : العقيدة ، والعبادة ، والسلوك، ورُبِّيَ عليها.

**[أساس التغيير هو منهج التصفية والتربية]


ولذلك نحن ندندن أبداً، ونركز دائماً حول النقطتين الأساسيتين اللتين هما قاعدة التغيير الحق ، وهما :
التصفية والتربية
فلا بد مِن الأمرين معاً ؛ التصفية والتربية، فإن كان هناك نوع مِن التصفية في بلد فهو في العقيدة ، وهذا بحد ذاته يعتبر عملاً كبيراً وعظيماً أن يحدث في جزء من المجتمع الإسلامي الكبير- أعني : شعباً من الشعوب - ، أما العبادة فتحتاج إلى أن تتخلص من المذهبية الضيقة ، والعمل على الرجوع إلى السنة الصحيحة ، فقد يكون هناك علماء أجلاء فهموا الإسلام فهماً صحيحاً من كل الجوانب ، لكني لا أعتقد أن فرداً أو اثنين ، أو ثلاثة ، أو عشرة ، أو عشرين يمكنهم أن يقوموا بواجب التصفية؛ تصفية الإسلام مِن كل ما دخل فيه، سواء في العقيدة ، أو العبادة ، أو السلوك ، إنه لا يستطيع أن ينهض بهذا الواجب أفراد قليلون يقومون بتصفية ما علق به من كل دخيل، ويربوا مَن حولهم تربية صحيحة سليمة ، فالتصفية والتربية الآن مفقودتان .
ولذلك سيكون للتحرك السياسي في أي مجتمع إسلامي لا يحكم بالشرع آثار سيئة قبل تحقيق هاتين القضيتين الهامتين ، أما النصيحة فهي تحلّ محلّ التحرك السياسي في أيِّ بلد يحكم بالشرع مِن خلالِ المشورة، أو مِن خلال إبدائها بالتي هي أحسن بالضوابط الشرعية، بعيداً عن لغة الإلزام، أو التشهير، فالبلاغ يقيم الحجة ويبرئ الذمَّة.
ومِن النصح أيضاً أن نشغل الناس فيما ينفعهم؛ بتصحيح العقيدة ، والعبادة ،و السلوك ، والمعاملات .
وقد يظن بعضهم أننا نريد تحقيق التربية والتصفية في المجتمع الإسلامي كله! هذا ما لا نفكر فيه، ولا نحلم به في المنام ؛ لأن هذا تحقيقه مستحيل ؛ ولأن الله عز وجل يقول في القرأن الكريم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118)، وهؤلاء لا يتحقق فيهم قول ربنا تعالى هذا، إلا إذا فهموا الإسلام فهماً صحيحاً، وربُّوا أنقسَهم وأهليهم ومَن كان حولهم على هذا الإسلام الصحيح .

[** مَن يشتغل بالعمل السياسي، ومتى؟]
فالاشتغال الآن بالعمل السياسي مشغلة ! مع أننا لا ننكره إلا أننا نؤمن بالتسلسل الشرعي المنطقي في آن واحد ، نبدأ بالعقيدة ، ونثني بالعبادة ثم بالسلوك ؛ تصحيحاً وتربية ثم لا بد أن يأتي يوم ندخل فيه في مرحلة السياسة بمفهومها الشرعي ؛ لأن السياسة معناها : إدارة شؤون الأمة ، مَن الذي يدير شؤون الأمة ؟ الجواب: ليس زيداً ، ولا بكراً ، ولا عمراً ؛ ممن يؤسس حزباً، أو يترأس حركةً ، أو يوجه جماعة !! هذا الأمر خاص بولي الأمر ؛ الذي يبايع من قِبل المسلمين ، هذا هو الذي يجب عليه معرفة سياسة الواقع وإدارته ، فإذا كان المسلمون غير متحدين - كحالنا اليوم - فيتولى ذلك كل وليّ أمر حسب حدود سلطاته ، أما أن نشغل أنفسنا في أمورٍ لو افترضنا أننا عرفناها حق المعرفة فلا تنفعنا معرفتنا هذه ؛ لأننا لا نتمكن مِن إدارتها ، ولأننا لا نملك القرار لإدارة الأمة ، وهذا وحده عبث لا طائل تحته ، ولنضرب مثلاً الحروب القائمة ضد المسلمين في كثير من بلاد الإسلام، هل يفيد أ ن نشعل حماسة المسلمين تجاهها ونحن لا نملك الجهاد الواجب إدارته مِن إمامٍ مسؤول عُقدت له البيعة ؟! . لا فائدة من هذا العمل ، ولا نقول : إنه ليس بواجب، ولكننا نقول : إنه أمر سابق لأوانه.
ولذلك فعلينا أن نشغل أنفسنا وأن نشغل غيرنا ممن ندعوهم إلى دعوتنا ؛ بتفهيمهم الإسلام الصحيح ، وتربيتهم تربية صحيحة، أما أن نشغلهم بأمور حماسية وعاطفية ، فذلك مما سيصرفهم عن التمكن في فهم الدعوة التي يجب أن يقوم بها كلُّ مكلفٍ مِن المسلمين ؛ كتصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة ، وتصحيح السلوك، وهي مِن الفروض العينية التي لا يُعذر المقصر فيها ، وأما الأمور الأخرى فبعضها يكون مِن الأمور الكفائية ، كمثل ما يسمى اليوم بـ (فقه الواقع )، والاشتغال بالعمل السياسي الذي هو مِن مسئولية مَن لهم الحل والعقد؛ الذي بإمكانهم أن يستفيدوا من ذلك عملياً ، أما أن يعرفه بعض الأفراد الذين ليس بأيديهم حل ولا عقد ويشغلوا جمهور الناس بالمهم عن الأهم ، فذلك مما صرفهم عن المعرفة الصحيحة !
وهذا ما نلمسه لمس اليد في كثير من مناهج الأحزاب والجماعات الإسلامية اليوم ، حيث نعرف أن بعضهم انصرف عن تعليم الشباب المسلم المتكتل والملتف حول هؤلاء الدعاة؛ من أجل أن يتعلم، ويفهم العقيدة الصحيحة ، والعبادة الصحيحة ، والسلوك الصحيح ، وإذا ببعض هؤلاء الدعاة ينشغلون بالعمل السياسي، ومحاولة الدخول في البرلمانات التي تحكم بغير ما أنزل الله ! فصرفهم هذا عن الأهم، واشتغلوا بما ليس مهمًا في هذه الظروف القائمة الآن .
أما ما جاء في السؤال عن كيفية براءة ذمة المسلم، أو مساهمته في تغيير هذا الواقع الأليم ؛ فنقول : كلّ مِن المسلمين بحسبه ، العالم منهم يجب عليه ما لا يجب على غير العالم ، وكما أذكر في مثل هذه المناسبة : أن الله عز وجل قد أكمل النعمة بكتابه ، وجعله دستوراً للمؤمنين به ، من ذلك أن الله تعالى قال : { ... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الانبياء: من الآية 7)، فالله سبحانه وتعالى قد جعل المجتمع الإسلامي قسمين : عالماً ، وغير عالم ، وأوجب على كل منهما مالم يوجبه على الآخر ، فعلى الذين ليسوا بعلماء أن يسألوا أهل العلم ، وعلى العلماء أن يجيبوهم عما سألوا عنه.
فالواجبات مِن هذا المنطلق تختلف باختلاف الأشخاص ، فالعالم اليوم عليه أن يدعو إلى دعوة الحق في حدود الاستطاعة ، وغير العالم عليه أن يسأل عما يهمه بحق نفسه، أو من كان راعياً ؛ كزوجة أو ولد أو نحوه ، فإذا قام المسلم من كلا الفريقين بما يستطيع فقد نجا، لأن الله عز وجل يقول : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286).
نحن - مع الأسف - نعيش في مأساةٍ ألمت بالمسلمين ، لا يعرف التاريخ لها مثيلاً ، وهو تداعي الكفار على المسلمين؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل حديثه المعروف، والصحيح : ((تَدَاعَى عليكم الأممُ كما تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها))، قالوا : أمن قلّةٍ نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال :
((لا ، أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيل ، وَلَيَنْزَعَنّ اللهُ الرهبةَ مِن صدور عدوِّكم لكم ، وليقذِفَنَّ في قلوبكم الوَهْن" ، قالوا: وما الوَهْنُ يارسول الله ؟ قال : "حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت))
[2].
فواجب العلماء إذاً أن يجاهدوا في التصفية والتربية ، وذلك بتعليم المسلمين التوحيد الصحيح، وتصحيح العقائد، والعبادات ، والسلوك؛ كلٌّ حسب طاقته وفي البلاد التي يعيش فيها؛ لأنهم لا يستطيعون القيام بجهاد اليهود في صفٍّ واحد، ماداموا كحالنا اليوم متفرقين ، لا يجمعهم بلد واحد، ولا صف واحد ، فإنهم لا يستطيعون القيام بمثل هذا الجهاد لصدّ الأعداء الذين تداعوا عليهم ، ولكن عليهم أن يتخذوا كلَّ وسيلة شرعية بإمكانهم أن يتخذوها ؛ لأننا لا نملك القدرة المادية ، ولو استطعنا ؛ فإننا لا نستطيع أن نتحرك فعلاً ، لأن هناك حكومات وقيادات وحكاماً في كثير من بلاد المسلمين يتبنون سياسات لا تتفق مع السياسة الشرعية - مع الأسف الشديد -.
لكننا نستطيع أن نحقق - بإذن الله تعالى _ هذين الأمرين العظيمين اللذين ذكرتهما آنفاً، وهما: التصفية والتربية، وحينما يقوم الدعاة المسلمون بهذا الواجب المهم جداً في بلدٍ لا يتبنى سياسة لا تتفق مع السياسة الشرعية ، ويجتمعون على هذا الأساس ، فأنا أعتقد يومئذ أنه سيصدق عليهم قول الله عز وجل : {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّه} (الروم: من الآيتين 4-5) .

[**الواجب على كل مسلم أن يطبق حكم الله في شئون حياته كلها فيما يستطيعه]
إذاً؛ واجب كل مسلم أن يعمل ما باستطاعته ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وليس هناك تلازم بين إقامة التوحيد الصحيح والعبادة الصحيحة ، وبين إقامة الدولة الإسلامية في البلاد التي لا تحكم بما أنزل الله؛ لأن أول ما يحكم بما أنزل الله -فيه- هو إقامة التوحيد، وهناك بلا شك أمور خاصة وقعت في بعض العصور، وهي أن تكون العزلة خيراً مِن المخالطة ، فيعتزل المسلم في شعب من الشعاب ويعبد ربه ، ويكفّ مِن شرِّ الناس إليه وشره إليهم ، هذا الأمر قد جاءت فيه أحاديث جداً، وإن كان الأصل كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ((المؤمنُ الذي يُخالِط الناسَ ويصبرُ على أذاهم خيرٌ مِن المؤمنِ الذي لا يُخالط الناسَ ولا يصبر على أذاهم))
[3].
فالدولة المسلمة - بلا شك - وسيلة لإقامة حكم الله في الأرض ، وليست غاية بحد ذاتها.
ومن عجائب بعض الدعاة أنهم يهتمون بما لا يستطيعون القيام به من الأمور ، ويَدَعُون ما هو واجب عليهم وميسور!!
وذلك بمجاهدة أنفسهم، كما قال ذلك الداعية المسلم؛ الذي أوصى أتباعه بقوله: "أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم؛ تقم لكم في أرضكم".
ومع ذلك فنحن نجد كثيراً مِن أتباعه يخالفون ذلك ، جاعلين جل دعوتهم إلى إفراد الله عزوجل بالحكم ، ويعبرون عن ذلك بالعبارة المعروفة: "الحاكمية لله".
ولا شك بأن الحكم لله وحده، ولا شريك له في ذلك ولا في غيره، ولكن؛ منهم مَن يقلِّد مذهباً مِن المذاهب الأربعة اليوم، ثم يقول عندما تأتيه السُّنّةُ الصريحةُ الصحيحة: هذا خلاف مذهبي! فأين الحكم بما أنزل الله في اتباع السُّنّة؟!.

ومنهم مَن تجده يعبد الله على الطرق الصوفية ! فأين الحكم بما أنزل الله بالتوحيد؟! فهم يطالبون غيرهم بما لا يطالبون به أنفسهم. إن مِن السهل جداً أن تطبق الحكم بما أنزل الله في عقيدتك ، في عبادتك ، في سلوكك ، في دارك ، في تربية أبنائك ، في بيعك ، في شرائك، بينما من الصعب جداً ، أن تُجبر أو تزيل ذلك الحاكم الذي يحكم في كثير من أحكامه بغير ما أنزل الله ، فلماذا تترك الميسر إلى المعسر؟! .
هذا يدل على أحد شيئين : إما أن يكون هناك سوء تربية ، وسوء توجيه . وإما أن يكون هناك سوء عقيدة تدفعهم وتصرفهم إلى الاهتمام بما لا يستطيعون تحقيقه عن الاهتمام بما هو داخل في استطاعتهم.
فأما اليوم فلا أرى إلا الاشتغال -كل الاشتغال- بالتصفية والتربية، ودعوة الناس إلى صحيح العقيدة والعبادة ، كلٌّ في حدودِ استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه و[على] آله وسلم.

انتهى.
----------------------
[1] - حديث صحيح، وهو مخرج في "الصحيحة" (494)
[2] - حديث صحيح ، وهو مخرج في "الصحيحة" (958) .
[3] - حديث صحيح ، وهو مخرج في "الصحيحة" (939).

ما حكم تجويد القرآن الكريم؟ لفضيلة العلاّمة: (اللّحيدان) حفظه الله تعالى

ما حكم تجويد القرآن الكريم؟
لفضيلة العلاّمة: (اللّحيدان)
حفظه الله تعالى


بسم الله الرّحمن الرّحيم
الفتوى:
السّائل:
ما حكم تجويد القرآن؛ هل هو واجب؟


أجاب فضيلة العلاّمة: (اللّحيدان)؛ حفظه الله تعالى:
إتقان القرآن بإخراج الحروف من مخارجها ـ على القادر على ذلك ـ: (واجب).
وأمّا: التّفنّن، والتّنطّع، والمدّ الزّائد، والضّغط القويّ على حروف الغنّة؛ بحيث تكاد الصّنعة أن تذهب بما يدعو للتّدبّر والتّأمّل، فلا يستحسن ذلك.
أمّا إخراج الحروف من مخارجها، وإعطاؤها حقّها في ذلك؛ فواجب على: (القادر عليه).
ومن لم يقدر؛ فيفعل ما يستطيعه؛ الّذي يقرأ القرآن وهو شاقّ عليه؛ يُتَعْتِع؛ له الأجر مرّتين، أمّا: (الماهر فيه)؛ فله شأن آخر!
...........................................
انتهى تفريغ كلامه حفظه الله تعالى، من خلال ما اتّضح لي سماعه؛ من الرّابط الصّوتيّ:
http://fatawa-salafia.forumsdediscussions.com/montada-f7/topic-t537.htm
ــــــــــــــــــــــــــ
من فوائد تلك الفتوى:
بعد فتوى فضيلة الشيخ: (اللّحيدان) حفظه الله تعالى؛ نستطيع ـ وبعون الله ـ أن نجيب على الأسئلة التّالية:
س1: ما حكم تجويد القرآن الكريم؟
س2: على من ينطبق ذلك الحكم؟
س3: بمَ علّق ـ فضيلته ـ على: المبالغة في أحكام التجويد؟
س4: ماذا يفعل؛ من لا يقدر على تطبيق أحكام التّجويد؟
س5: هل هناك فرق بين الذي يتتعتع بتلاوة القرآن الكريم، والماهر به؟
ـــــــــــــــــــــــ
من ثمرات تلك الفتوى:
المبادرة إلى تعلّم التّجويد ـ دون مبالغة ـ آملين أن ندخل في زمرة: (الماهر بالقرآن).
نسأل الله من فضله...

توضيح بشأن كتاب (الدليل إلى تعليم كتاب الله الجليل)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأطيب الصلاة والسلام على نبينا خاتم رسل الله


إلى مَن يهمّه الأمر


نودّ أن ننبّه الكِرام قُرّاءَ كتابِنا (الدليل....) ، ومَن ينوي قراءتَه – سيما وأننا وجدناه مؤخرًا قد أُنزل مُصوّرًا كاملاً في الشبكة في عدة مواقع - إلى أننا بصدد إجراء العديد مِن التعديلات المهمة عليه، وسيعاد طبع الكتاب بناءً عليه إن شاء الله تعالى، والحمد لله ذي المنة، نسأله الهدى والسداد
آمين..


كتبته المؤلفتان:


حسانة وسكينة ابنتا محمد ناصر الدين بن نوح الألباني رحمهم الله

تابع 3 / التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام

[** بيان عدم وضوح العقيدة الصحيحة ولوازمها في أذهان الكثيرين]
أريد من هذا المثال أن أبين أن عقيدة التوحيد بكل لوازمها ومتطلباتها ليست واضحة للأسف في أذهان كثير ممن آمنوا بالعقيدة السلفية نفسها ، فضلاً عن الآخرين الذين اتبعوا العقائد الأشعرية أو الماتريدية أو الجهمية في مثل هذه المسألة ، فأنا أرمي بهذا المثال إلى أن المسألة ليست بهذا اليسر الذي يصوره اليوم بعض الدعاة الذين يلتقون معنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة، إن الأمر ليس بالسهولة التي يدعيها بعضهم ، والسبب ما سبق بيانه من الفرق بين جاهلية المشركين الأولين حينما كانوا يُدْعَون ليقولوا : "لا إله إلا الله" فيأبون ؛ لأنهم يفهمون معنى هذه الكلمة الطيبة ، وبين أكثر المسلمين المعاصرين اليوم حينما يقولون هذه الكلمة ؛ ولكنهم لا يفهمون معناها الصحيح ، هذا الفرق الجوهري هو الآن متحقق في مثل هذه العقيدة ، وأعني بها علو الله عز وجل على مخلوقاته كلها ، فهذا يحتاج إلى بيان.
ولا يكفي أن يعتقد المسلم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5). "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء "
[1]، دون أن يعرف أن كلمة "في" التي وردت في هذا الحديث ليست ظرفية ، وهي مثل "في" التي وردت في قوله تعالى : {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ....} (الملك: الآيتان 15-16). ؛ لأن "في" هنا بمعنى "على" والدليل على ذلك كثير وكثير جدًا ؛ فمِن ذلك : الحديث السابق المتداول بين ألسنة الناس ، وهو بمجموع طرقه -والحمد لله – صحيح.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" ارحموا مَن في الأرض " لا يعني الحشرات والديدان التي هي في داخل الأرض ! وإنما مَن على الأرض ؛ مِن إنسان وحيوان ، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : "...يرحمكم من في السماء " ، أي : على السماء ، فمثل هذا التفصيل لا بد للمستجيبين لدعوة الحق أن يكونوا على بينة منه ، ويقرب هذا :
حديث الجارية -وهي راعية الغنم- ، وهو مشهور معروف ، وإنما أذكر الشاهد منه ؛ حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أين الله ؟" قالت له : في السماء"
[2] . لو سألت اليوم كبار شيوخ الأزهر - مثلاً - أين الله ؟ لقالوا لك : في كل مكان! بينما الجارية أجابت بأنه في السماء ، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ ؛ لأنها أجابت على الفطرة ، وكانت تعيش بما يمكن أن نسميه بتعبيرنا العصري ( بيئة سلفية) لم تتلوث بأي بيئة سيئة - بالتعبير العام -؛ لأنها تخرجت كما يقولون اليوم من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه المدرسة لم تكن خاصة ببعض الرجال ولا ببعض النساء ، وإنما كانت مشاعة بين الناس وتضم الرجال والنساء وتعم المجتمع بأكمله ، ولذلك عرفت راعيةُ الغنم العقيدة؛ لأنها لم تتلوث بأي بيئة سيئة ؛ عرفت العقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة وهو مالم يعرفه كثير ممن يدعي العلم بالكتاب والسنة.
واليوم أقول : لا يوجد شيء من هذا البيان والوضوح بين المسلمين بحيث لو سألت -لا أقول : راعية غنم، بل - راعي أمة أو جماعة ؛ فإنه قد يحار في الجواب كما يحار الكثيرون اليوم إلا مَن رحم الله، وقليل ما هم !!!

_______________


[1] - حديث صحيح، وهو مخرج في "الصحيحة" (925)
[2] - رواه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه .

انتهى من ص25 - 29 ، ويتبع إن شاء الله


تابع / التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام

[**وجوب الاهتمام بالعقيدة لا يعنى إهمال باقي الشرع من عبادات وسلوك ومعاملات وأخلاق ]
وأعيد التنبيه بأنني لا أعنى الكلام في بيان الأهم فالمهم وما دونه على أن يقتصر الدعاة فقط على الدعوة إلى هذه الكلمة الطيبة وفهم معناها، بعد أن أتم الله عز وجل علينا النعمة بإكماله لدينه!
بل لا بد لهؤلاء الدعاة أن يحملوا الإسلام كُلاً لا يتجزأ ، وأنا حين أقول هذا بعد ذلك البيان الذي خلاصته : أن يهتم الدعاة الإسلاميون حقاً بأهم ما جاء به الإسلام ، وهو تفهيم المسلمين العقيدة الصحيحة النابعة من الكلمة الطيبة "لا إله إلا الله "، أريد أن أسترعي النظر إلى هذا البيان لا يعني أن يفهم المسلم فقط أن معنى : "لا إله إلا الله"، هو لا معبود بحق في الوجود إلا الله فقط ! بل هذا يستلزم أيضاً أن يفهم العبادات التي ينبغي أن يُعبد ربنا عز وجل بها ، ولا يوجَّه شيءٌ منها لعبدٍ مِن عباد الله تبارك وتعالى ، فهذا التفصيل لا بد أن يقترن بيانه أيضاً بذلك المعنى الموجز للكلمة الطيبة ، ويحسن أن أضرب مثلاً أو أكثر مِن مثل حسبما يبدو لي؛ لأن البيان الإجمالي لا يكفي.
أقول : إن كثيراً من المسلمين الموحدين حقاً والذين لا يوجهون عبادةً مِن العبادات إلى غير الله عز وجل؛ ذهنهم خالٍ مِن كثير مِن الأفكار والعقائد الصحيحة التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة ، فكثير من هؤلاء الموحدين يمرون على كثير من الآيات وبعض الأحاديث التي تتضمن عقيدةً؛ وهم غير منتبهين إلى ما تضمنته ، مع أنها من تمام الإيمان بالله عز وجل.
خذوا مثلاً عقيدة الإيمان بعلو الله عز وجل ، على ما خلقه ، أنا أعرف بالتجربة أن كثيراً مِن إخواننا الموحدين السلفيين يعتقدون معنا بأن الله عز وجل على العرش استوى، دون تأويل ، ودون تكييف ، ولكنهم حين يأتيهم معتزليّ عصريّ ، أو جهميّ عصريّ ، أو ماتريدي، أو أشعري، ويُلقي إليه شبهةً قائمة على ظاهر آيةٍ لا يَفهم معناها الموسوِس ولا الموسوَس إليه ، فيحار في عقيدته ، ويضل عنها بعيداً ، لماذا؟ لأنه لم يتلقَّ العقيدةَ الصحيحة مِن كلِّ الجوانب التي تعرض لبيانها كتابُ ربِّنا عز وجل وحديثُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فحينما يقول المعتزلي المعاصر : اللهُ - عز وجل - يقول : {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ....} (الملك: الآيتان 15-16). و أنتم تقولون : إن الله في السماء ، وهذا معناه أنكم جعلتم معبودكم في ظرف هو السماء المخلوقة!! فإنه يلقى شبهة على مَن أمامه .

ص22 – 25 ويتبع إن شاء الله

تابع 2 / التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام

تابع / التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام
** [غالب المسلمين اليوم لا يفقهون معنى لا إله إلا الله فهماً جيداً ]:
أما غالب المسلمين اليوم الذين يشهدون بأن " لا إله إلا الله " فهم لا يفقهون معناها جيداً ، بل لعلهم يفهمون معناها فهماً معكوساً ومقلوباً تماماً ؛ أضرب لذلك مثلاً : بعضهم ألف رسالة في معنى " لا إله إلا الله " ففسرها : لا رب إلا الله!!
وهذا المعنى هو الذي كان المشركون يؤمنون به وكانوا عليه ، ومع ذلك لم ينفعهم إيمانهم هذا ، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} (لقمان: من الآية25).
فالمشركون كانوا يؤمنون بأن لهذا الكون خالقاً لا شريك له ، ولكنهم كانوا يجعلون مع الله أنداداً وشركاء في عبادته ، فهم يؤمنون بأن الرب واحد ولكن يعتقدون بأن المعبودات كثيرة ، ولذلك رد الله تعالى - هذا الاعتقاد - الذي سمّاه عبادة لغيره من دونه، بقوله تعالى : {....وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى....} (الزمر: من الآية3).
لقد كان المشركون يعلمون أن قول : " لا إله إلا الله " يلزم له التبرؤ من عبادة ما دون الله عز وجل ، أما غالب المسلمين اليوم ؛ فقد فسروا هذه الكلمة الطيبة " لا إله إلا الله " بـ : " لا رب إلا الله !! " فإذا قال المسلم : "لا إله إلا الله" ، وعبد مع الله غيره؛ فهو والمشركون سواء - عقيدة - وإن كان ظاهره الإسلام ؛ لأنه يقول لفظة : "لا إله إلا الله" فهو بهذه العبارة مسلم ظاهراً ، وهذا مما يوجب علينا جميعاً - بصفتنا دعاة إلى الإسلام- الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجة على مَن جهل معنى" لا إله إلا الله " وهو واقع في خلافها ؛ بخلاف المشرك ؛ لأنه يأبى أن يقول : " لا إله إلا الله " فهو ليس مسلماً لا ظاهراً ولا باطناً.
فأما جماهير المسلمين اليوم هم مسلمون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى)
[1].
لذلك ؛ فإني أقول كلمة - وهي نادرة الصدور مني - ، وهي : إن واقع كثير من المسلمين اليوم شرٌّ مما كان عليه عامةُ العرب في الجاهلية الأولى مِن حيث سوء الفهم لمعنى هذه الكلمة الطيبة ؛ لأن المشركين العرب كانوا يفهمون ، ولكنهم لا يؤمنون ، أما غالب المسلمين اليوم ، فإنهم يقولون ما لا يعتقدون ، يقولون : "لا إله إلا الله" ، ولا يؤمنون -حقاً - بمعناها .
لذلك فأنا أعتقد أن أول واجب على الدعاة المسلمين حقاً هو أن يدندنوا حول هذه الكلمة، وحول بيان معناها بتلخيصٍ ، ثم بتفصيل لوازم هذه الكلمة الطيبة؛ بالإخلاص لله عز وجل في العبادات بكل أنواعها ؛ لأن الله عز وجل لما حكى عن المشركين قولهم : {... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... } (الزمر: من الآية3)، جعل كل عبادة توجه لغير الله كفراً بالكلمة الطيبة : "لا إله إلا الله".
لهذا ؛ أنا أقول اليوم : لا فائدة مطلقاً مِن تكتيل المسلمين ومِن تجميعهم ، ثم تركهم في ضلالهم دون فهم هذه الكلمة الطيبة ، وهذا لا يفيدهم في الدنيا قبل الآخرة !
نحن نعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً مِن قلبه؛ حرم الله بدنه على النار " وفي رواية أخري :" دخل الجنة "
[2] . فيمكن ضمان دخول الجنة لمن قالها مخلصاً، حتى لو كان بعد لأيٍ وعذابٍ يمسُّ القائلَ ، والمعتقد الاعتقاد الصحيح لهذه الكلمة ، فإنه قد يعذب بناءً على ما ارتكب واجترح مِن المعاصي والآثام ، ولكن سيكون مصيره في النهاية دخول الجنة .
وعلى العكس من ذلك ؛ من قال هذه الكلمة الطيبة بلسانه ، ولَمّا يدخل الإيمان قلبه ؛ فذلك لا يفيده شيئاً في الآخرة ، قد يفيده في الدنيا النجاة من القتال ومن القتل إذا كان للمسلمين قوة وسلطان ، وأما في الآخرة فلا يفيده شيئاً إلا إذا كان قائلاً لها وهو فاهم معناها أولاً ، ومعتقداً لهذا المعنى ثانياً ؛ لأن الفهم وحده لا يكفي إلا إذا اقترن مع الفهم الإيمان بهذا المفهوم ، وهذه النقطة ؛ أظن أن أكثر الناس عنها غافلون ! وهي : لا يلزم مِن الفهم الإيمان، بل لا بد أن يقترن كلٌّ مِن الأمرين مع الآخر حتى يكون مؤمناً ، ذلك لأن كثيراً مِن أهل الكتاب مِن اليهود والنصارى كانوا يعرفون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسولٌ صادقٌ فيما يدعيه من الرسالة والنبوة ، ولكن مع هذه المعرفة التي شهد لهم بها ربُّنا عز وجل حين قال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: من الآية 146)، ومع ذلك هذه المعرفة ما أغنت عنهم مِن الله شيئاً، لماذا ؟ لأنهم لم يصدقوه فيما يدعيه مِن النبوة والرسالة ، ولذلك فإنّ الإيمان تسبقه المعرفة ولا تكفي وحدها ، بل لا بد أن يقترن مع المعرفة الإيمان والإذعان ، لأن المولى عز وجل يقول في محكم التنزيل : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (محمد: من الآية19).
وعلى هذا ، فإذا قال المسلم : "لا إله إلا الله" بلسانه ؛ فعليه أن يضم إلى ذلك معرفة هذه الكلمة بإيجاز ثم بالتفصيل ، فإذا عرف وصدَّق وآمن ؛ فهو الذي يصدُق عليه تلك الأحاديث التي ذكرتُ بعضَها آنفاً ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى شيءٍ مِن التفصيل الذي ذكرته آنفاً : (مَن قال : لا إله إلا الله ؛ نفعته يوماً مِن دهره)
[3]. أي كانت هذه الكلمة الطيبة بعد معرفة معناها منجية له مِن الخلود في النار ، وهذا أكرره لكي يرسخ في الأذهان ، وقد لا يكون قد قام بمقتضاها مِن كمال العمل الصالح، والانتهاء عن المعاصي، ولكنه سلم مِن الشرك الأكبر، وقام بما يقتضيه ويستلزمه شروط الإيمان؛ مِن الأعمال القلبية - والظاهرية حسب اجتهاد بعض أهل العلم، وفيه تفصيل ليس هذا محل بسطه - وهو تحت المشيئة ، وقد يدخل النار جزاء ما ارتكب أو فعل مِن المعاصي أو أخلَّ ببعضِ الواجبات ، ثم تنجيه هذه الكلمة الطيبة، أو يعفو الله عنه بفضل منه وكرمه ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم المتقدِّم ذكره : (مَن قال : لا إله إلا الله ؛ نفعته يوماً مِن دهره)، أما مَن قالها بلسانه ولم يفقه معناها ، أو فقه معناها ولكنه لم يؤمن بهذا المعنى؛ فهذا لا ينفعه قولُه : "لا إله إلا الله"، إلا في العاجلة إذا كان يعيش في ظل الحكم الإسلامي وليس في الآجلة .
لذلك لا بد مِن التركيز على الدعوة إلى التوحيد في كل مجتمع أو تكتل إسلامي يسعى- حقيقة وحثيثاً - إلى ما تدندن به كل الجماعات الإسلامية أو جلّها ، وهو تحقيق المجتمع الإسلامي، وإقامة الدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله على أي أرض لا تحكم بما أنزل الله.
هذه الجماعات أو هذه الطوائف لا يمكنها أن تحقق هذه الغاية التي أجمعوا على تحقيقها وعلى السعي حثيثاً إلى جعلها حقيقة واقعية إلا بالبدء بما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم.
_______________________________
[1] - البخاري (25) ، ومسلم (22) عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
[2] - حديث صحيح ، وهو مخرّج في "الصحيحة" (3355)
[3] - حديث صحيح، وهو مخرج في "الصحيحة" (1932)
ص 14 - 22 ، ويتبع إن شاء الله

التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام - كتيب للوالد رحمه الله

(كتيّبٌ أُودعتْ فيه إحدى فتاوى الوالد رحمه الله، وسأنقله على أجزاء إن شاء الله) :

التوحيد أولاً
يا دعاة الإسلام
من فتاوى محدّث العصر
محمد ناصر الدين الألباني
رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب:70-71) .
وبعدُ : فهذه واحدة من فتاوى العلامة محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - نفردها اليوم بالطبع لأهميتها، ولحاجة الناس إليها.

سؤال : فضيلة الشيخ لا شك أنكم تعلمون بأن واقع الأمة الديني واقع مرير من حيث الجهل بالعقيدة ، ومسائل الاعتقاد ، ومن حيث الافتراق في المناهج وإهمال نشر الدعوة الإسلامية في أكثر بقاع الأرض طبقاً للعقيدة الأولى والمنهج الأول الذي صلحت به الأمة ، وهذا الواقع الأليم لا شك بأنه قد ولد غيرة عند المخلصين ورغبة في تغييره وإصلاح الخلل ، إلا أنهم اختلفوا في طريقتهم في إصلاح هذا الواقع ؛ لاختلاف مشاربهم العقدية والمنهجية - كما تعلم ذلك فضيلتكم - من خلال تعدد الحركات والجماعات الإسلامية الحزبية والتي ادعت إصلاح الأمة الإسلامية عشرات السنين ، ومع ذلك لم يكتب لها النجاح والفلاح ، بل تسببت تلك الحركات للأمة في إحداث الفتن ونزول النكبات والمصائب العظيمة ، بسبب مناهجها وعقائدها المخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ؛ مما ترك الأثر الكبير في الحيرة عند المسلمين - وخصوصاً الشباب منهم - في كيفية معالجة هذا الواقع ، وقد يشعر الداعية المسلم المتمسك بمنهاج النبوة المتبع لسبيل المؤمنين ، المتمثل في فهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان من علماء الإسلام ؛ قد يشعر بأنه حمل أمانة عظيمة تجاه هذا الواقع وإصلاحه أو المشاركة في علاجه .
· فما هي نصيحتكم لأتباع تلك الحركات أو الجماعات ؟
· وما هي الطرق النافعة الناجعة في معالجة هذا الواقع ؟
· وكيف تبرأ ذمة المسلم عند الله عز وجل يوم القيامة ؟
الجواب:
[يجب العنايةُ والاهتمامُ بالتوحيد أولاً، كما هو منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام ]

بالإضافة لما ورد في السؤال - السابق ذكره آنفاً - من سوء واقع المسلمين ، نقول : إن هذا الواقع الأليم ليس شراً مما كان عليه واقع العرب في الجاهلية، حينما بعث إليهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لوجود الرسالة بيننا ، وكمالها ، ووجود الطائفة الظاهرة على الحق ، والتي تهدي به ، وتدعو الناس للإسلام الصحيح ؛ عقيدة ، وعبادة ، وسلوكاً ، ومنهجاً .
ولا شك بأن واقع أولئك العرب في عصر الجاهلية مماثل لما عليه كثير من طوائف المسلمين اليوم !.
بناء على ذلك نقول : العلاج هو ذاك العلاج، والدواء هو ذاك الدواء ، فبمثل ما عالج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الجاهلية الأولى ، فعلى الدعاة الإسلاميين اليوم - جميعهم - أن يعالجوا سوء الفهم لمعنى " لا إله إلا الله " ، ويعالجوا واقعهم الأليم بذاك العلاج والدواء نفسه
. ومعنى هذا واضح جداً إذا تدبرنا قول الله عز وجل: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) .
فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في معالجة مشاكل المسلمين في عالمنا المعاصر وفي كل وقت وحين ، ويقتضي ذلك منا أن نبدأ بما بدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو إصلاح ما فسد من عقائد المسلمين أولاً ، ومن عبادتهم ثانياً ، ومن سلوكهم ثالثاً .
ولست أعني من هذا الترتيب فصل الأمر الأول بدءاً بالأهم ثم المهم ثم ما دونه ! وإنما أريد أن يهتم بذلك المسلمون اهتماما شديداً كبيراً ، وأعني بالمسلمين بطبيعة الأمر الدعاة ، ولعل الأصح أن نقول : العلماء منهم؛ لأن الدعاة اليوم - مع الأسف الشديد - يدخل فيهم كل مسلم ولو كان على فقر مدقع من العلم ، فصاروا يعدّون أنفسهم دعاة إلى الإسلام .
وإذا تذكرنا تلك القاعدة المعروفة - لا أقول : عند العلماء فقط بل عند العقلاء جميعاً - تلك القاعدة التي تقول : "فاقد الشيء لا يعطيه " ؛ فإننا نعلم اليوم بأن هناك طائفة كبيرة جداً يعدون بالملايين من المسلمين تنصرف الأنظار إليهم حين يطلق لفظة : الدعاة ؛ وأعني بهم : جماعة الدعوة ، أو : جماعة التبليغ ، ومع ذلك فأكثرهم كما قال الله عز وجل : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (لأعراف: من الآية187) .
ومعلوم من طريقة دعوتهم أنهم قد أعرضوا بالكلية عن الاهتمام بالأصل الأول، أو بالأمر الأهم ، من الأمور التي ذكرتُ آنفاً ، وأعني : العقيدة والعبادة والسلوك ، وأعرضوا عن الإصلاح الذي بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم بل بدأ به كل الأنبياء ، وقد بينه الله تعالى بقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل: من الآية36) . فهم لا يعنون بهذا الأصل الأصيل والركن الأول من أركان الإسلام - كما هو معلوم لدى المسلمين جميعاً -، هذا الأصل الذي قام يدعو إليه أول رسول من الرسل الكرام، ألا وهو نوح صلى الله عليه وسلم قرابة ألف سنة ، والجميع يعلم أن الشرائع السابقة لم يكن فيها من التفصيل لأحكام العبادات والمعاملات ما هو معروف في ديننا هذا؛ لأنه الدين الخاتم للشرائع والأديان ، ومع ذلك؛ فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يصرف وقته وجل اهتمامه للدعوة إلى التوحيد ، ومع ذلك أعرض قومه عن دعوته كما بين الله عز وجل ذلك في محكم التنزيل: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } (نوح:23) .
فهذا يدل دلالة قاطعة على أن أهم شيء ينبغي على الدعاة إلى الإسلام الحق الاهتمام به دائماً هو الدعوة إلى التوحيد، وهو معنى قوله تبارك وتعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (محمد: من الآية19) .

هكذا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم عملاً وتعليماً .
أما فعله : فلا يحتاج إلى بحث ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي إنما كان فعله ودعوته محصورة في الغالب في دعوة قومه إلى عبادة الله لا شريك له .
أما تعليماً : ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الوارد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له : (ليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك .....) الحديث[1] .
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبدأوا بما بدأ به، وهو الدعوة إلى التوحيد ، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً جداً بين أولئك العرب المشركين ؛ من حيث إنهم كانوا يفهمون ما يقال لهم بلغتهم ، وبين أغلب العرب المسلمين اليوم الذين ليسوا بحاجة أن يدعوا إلى أن يقولوا : لا إله إلا الله ؛ لأنهم قائلون بها على اختلاف مذاهبهم وطرائقهم وعقائدهم ، فكلهم يقولون : لا إله إلا الله ، لكنهم في الواقع بحاجة أن يفهموا معنى هذه الكلمة الطيبة ، وهذا الفرق فرق جوهري بين العرب الأولين الذين كانوا إذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : لا إله إلا الله؛ يستكبرون ، كما هو مبين في صريح القرآن العظيم ، لماذا يستكبرون ؟ لأنهم يفهمون أن معنى هذه الكلمة أن لا يتخذوا مع الله أنداداً وألا يعبدوا إلا الله ، وهم كانوا يعبدون غيرَه ، فهم ينادون غير الله، ويستغيثون بغير الله ؛ فضلاً عن النذر لغير الله ، والتوسل بغير الله ، والذبح لغيره، والتحاكم لسواه ....إلخ.
هذه الوسائل الشركية الوثنية المعروفة التي كانوا يفعلونها ، ومع ذلك كانوا يعلمون أن من لوازم هذه الكلمة الطيبة " لا إله إلا الله " مِن حيث اللغة العربية أن يتبرؤوا مِن كل هذه الأمور ؛ لمنافاتها لمعنى " لا إله إلا الله ".
_____________
[1] - رواه البخاري (1395)، ومسلم (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
انتهى من ص 3 – 13 . ويتبع إن شاء الله

بداية كتابات الصوفية وموقف السلف منها

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله
قال فضيلة الشيخ ربيع المدخلي - حفظه الله - في كتابه "كشف زيف التصوف" ص15 – 17 :

"بداية كتابات الصوفية -فيما أعلم- هي كتابات الحارث بن أسد المحاسبي أحد تلاميذ يزيد بن هارون الذي يُعدُّ في أتباع التابعين آخر القرون المفضلة، وكان الحارث من المعاصرين للإمام أحمد وإخوانه من أئمة الحديث والسنة.
ألَّف الحارث كتبًا للصوفية فأنكرها أهل السُّنة ومنهم الإمام الحافظ أبو زُرعة. قال الحافظ الذهبي :
(قال الحافظ سعيد بن عمرو البرذعي:
شهدت أبا زرعة وقد سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل :
"إياكَ وهذه الكُتُب، هذه كُتُبُ بِدعٍ وضلالاتٍ، عليك بالأثَرِ؛ فإنكَ تجِد فيه ما يُغْنِيك"
قيل له: في هذه الكتب عِبْرة، فقال:
"مَن لم يكن له في كتابِ الله عِبْرة؛ فليس له في هذه الكتب عِبْرة، بَلَغَكُم أنّ سفيان ومالِكًا والأوزاعيَّ صنّفوا هذه الكُتُبَ في الخطرات والوساوس؟! ما أَسْرَعَ الناس إلى البدع!"
[1]
مات الحارث سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيفَ المتأخرين كـ (القوت) لأبي طالب؟! وأين مثل القوت؟! كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم , وحقائق التفسير للسلمي؟!؛ لطار لبُّه، كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في "الإحياء" من الموضوعات؟! كيف لو رأى "الغنية" للشيخ عبد القادر؟! كيف لو رأى "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية"؟! بلى، لما كان الحارث لسان القوم في ذاك العصر كان مُعاصره ألف إمام في الحديث فيهم مثل أحمد بن حنبل وابن راهويه، ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي وابن شحانة كان قطب العارفين كصاحب "الفصوص" وابن سفيان
[2]، نسأل الله العفو والمسامحة. آمين) "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (2/166) .
وقال ابن الجوزي: "وبالإسناد إلى أبي يعقوب إسحاق بن حية قال: "قال: سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات فقال :
"ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون"
وقد روينا في أول كتابنا هذا عن ذي النون نحو هذا.
وروينا عن أحمد بن حنبل أنه سمع كلام الحارث المحاسبي ، فقال لصاحب له:
"لا أرى لك أن تجالسهم"
وقال ابن الجوزي: وقد ذكر الخلال في كتاب "السُّنة" عن أحمد بن حنبل أنه قال :
"حَذِّروا مِن الحارث أشدَّ التحذير , الحارث أصلُ البليّة -يعني في حوادث كلام جهم- ، ذاك جالَسَهُ فلانٌ وفلانٌ وأَخْرَجهم إلى رأيِ جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط، ينظُرُ أيَّ يومٍ يَثِبُ على الناس". تلبيس إبليس (ص151) .
ثم نقل ما ذكره الذهبيُّ عن أبي زرعة قوله عن كُتُب الحارث: "إنها كتب بدع وضلالات .. إلخ " , تلبيس إبليس ( ص/150) .
فهذا هو موقف أئمة الإسلام الناصحين من التصوف وأهله: إدانة لمؤلفاتهم وتحذير من ضلالاتهم وشطحاتهم". ا.هـ

_________________
[1] - رواه البرذعي في "سؤالاته لأبي زرعة" (2/ 561 – 562 ط الجامعة الإسلامية) ، والخطيب في "تاريخه" (8/215) [المعتني].
[2] - كذا والصواب ابن سبعين.

طامع في المغفرة غير حاتم بها

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد..
فقد ذكر لنا سبحانه وتعالى مِن نبأ إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه كان مما قاله لأبيه وقومه:
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} سورة الشعراء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى:
· جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِقَلْبِهِ وَجِسْمِهِ
· وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ .
وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا .
§ فَمَنْفَعَةُ الدِّينِ: الْهُدَى ؛
§ وَمَضَرَّتُهُ: الذُّنُوبُ، وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ: الْمَغْفِرَةُ .
وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ .
§ وَمَنْفَعَةُ الْجَسَدِ: الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ
§ وَمَضَرَّتُهُ: الْمَرَضُ، وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ: الشِّفَاءُ".
ا.هـ "مجموع الفتاوى" (16/ 206).

وقال الحافظ القصاب رحمه الله:
"قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} فيه تخويفٌ للمؤمنين شديد أن يعملوا ولا يتّكلوا، إذ كان خليلُه – صلى الله عليه وسلم – طامعًا في غفران خطيئته غير حاتِمٍ بها على ربِّه؛ فمَن بَعْدَه مِن المؤمنين أحْرى أن يكون أشدَّ خوفًا مِن خطاياهم". ا.هـ "نكت القرآن" (3/ 529).

حكم التزاور في العيد

بسم الله الرحمٰن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله.

أما بعد..

سئل أبي رَحِمَهُ اللهُ:

سمعنا أنّ زيارةَ الناسِ بعضهم بعضًا يومَ العيد بدعةٌ، فالرجاء بيان الحكم فيما سَبَقَ مما يتعلّق بزيارةِ الإخوان وما يقوم به الناسُ في الأعياد؟
فأجاب:

نحن قلنا مرارًا وتكرارًا، ولسنا الآن بحاجة إلىٰ تفصيل ما تَكرَّر، فنقول بإيجاز:

زيارةُ الأحياءِ للأمواتِ يومَ العيد مِن مُحْدَثاتِ الأمور؛ لأنه يَعني تقييدَ ما أطلقه الشارعُ، الشارع الحكيم قال في الحديث الصحيح([1]):

«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، [أَلَا] فَزُورُوهَا؛ [فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الآخِرَةَ]».
فقوله: «أَلَا فَزُورُوهَا» أمرٌ عامّ، لا يجوز تقييدُه بزمنٍ أو بمكانٍ خاصّ؛ لأن تقييدَ النصِّ أو إطلاقَه ليس مِن وظيفةِ الناس، وإنما هو مِن وظيفةِ ربِّ العالمين الذي كَلَّف رسولَه الكريم، فقال له:

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

فما كان مِن نصٍّ مُطلَقٍ وهو مُقيَّد؛ بيَّنه، وما كان من نص عام وهو مخصَّص؛ خَصَّصه، وما لا؛ فلا، فحينما قال: «أَلَا فَزُورُوهَا» مطلقًا في كلِّ أيامِ السَّنَة، لا فَرْقَ بين يومٍ ويوم، ولا فَرْقَ بين زمَنٍ في يومٍ واحدٍ؛ صباحًا أو مساء، أو ظهرًا، نهارًا أو ليلاً.. إلىٰ آخره.

كذلك نقول: كما أنَّ زيارة الأحياء للأموات يومَ العيدِ خَصّ؛ كذلك زيارة الأحياء للأحياء يوم العيد خَصّ، كزيارةِ الأحياءِ للأموات.
الزيارةُ المشروعة يومَ العيد: هو ما أُلْغِيَ -مع الأسف الشديد- بسببِ تهافُتِ الناسِ علىٰ إقامةِ صلاةِ العيد في المساجد التي يَتفَرَّقون فيها، والواجبُ عليهم جميعًا أن يجتمعوا في المصلَّىٰ، المصلَّىٰ هو خارج البلد، يَتَّسِع لكلِّ أهلِ البلد، وهناك يلتقون، ويُصلُّون صلاةَ العيد، ويتعارفون بطبيعة الحال، عُطِّلتْ هٰذه السُّنّة التي واظَبَ عليها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ طيلةَ حياته.
وهنا ملاحظة مهمَّة جدًا يجب أن ننتبَّهَ لها، فإننا نَعْلم جميعًا قولَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ:

«صلاةٌ في مسجدي هٰذا بألفِ صلاة مما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام»([2]).
فمع أنَّ الصلاةَ في مسجِدِه بألف صلاة؛ ما كان يُصلي صلاةَ عيدِ الفطر وعيدِ الأضحىٰ إلا خارجَ هٰذا المسجد، وهو في المصلَّىٰ.

لماذا؟

لأنه يريد أن يَجْمَعَ المسلمين في المدينةِ مِن كلِّ مكانٍ مِنَ القُرى التي حولها في مكان واحد يتَّسِع لهم جميعًا.

هٰذه المصليات مع الزمن ومع ابتعادِ الناس عن:

· أولاً: التعرف علىٰ سُنَّة الرسولِ عليه السَّلام.

· وابتعادهم عما بقي عندهم مِن العلم بسُنَّةِ الرسول عليه السَّلام.

· ابتعادهم عن تطبيقها وعن العمل بها.

قنعوا بأن يقيموا صلاةَ العيد في المساجد، كما يَفعلون بصلاةِ الجمعة والصلواتِ الخمس.

أما السُّنّة؛ فاستمرَّ الرسولُ عليه السَّلامُ طيلةَ حياته ما صَلَّىٰ صلاةَ العيد في المسجد ولو مَرَّةً واحدة، وإنما دائمًا يصليها في المصلَّىٰ.

الآن منذ بضع سنين بدأ بعضُ المسلمين في مِثلِ هٰذه البلاد يَفيئون إلىٰ هٰذه السُّنّة؛ سُنَّةِ صلاةِ العيد في المصلَّىٰ.

ولا بد أنكم تَسمعون الآن بأنّ هناك مصلَّيات عديدة يُصلِّي فيها الناسُ بدل أن يصلُّوا صلاة العيد في المساجد.

ولٰكن بقي عليهم شيء واحد، ولعل هٰذه الظاهرة التي أشرتُ إليها مِن خروج الناس مِن المساجد في صلاة العيد إلى المصليات، لعل هٰذه الظاهرة بِشارةٌ إلىٰ أنه سيأتي يومٌ يجتمع المسلمون في مكانٍ واحد، في البلد الواحد، في مصلًّى واحد، كما يفعل المسلمون مِن جميع أقطارِ الدنيا يجتمعون في بلدة واحدة، وهي مكة وما حواليها مِن مِنى ومزدلفة وعرفة ونحو ذلك، ليس لهم بديل عنها، مع أنهم يُعَدُّون بالملايين.

ومهما كثُر الناسُ في البلدة الواحدة؛ فلن يَعجَزوا أبدًا أن يَجتمعوا في أرضٍ في مُصلًّى واحد، لعل خروجَهم الآن مِن المساجد إلى المصليات هو بشيرُ خيرٍ إلىٰ أنهم فيما بَعْدُ إن شاء الله حينما يَفهمون حقيقةَ معنىٰ قولِه عليه السَّلام: « يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ»([3])، وأنها هي الجماعة التي جمعهم الرسول عليه السَّلام بوسائله المشروعة، مِن تلك الوسائل: المصلَّى الواحد، وليس المساجد، بل ولا المصلَّيات العديدة في البلدة الواحدة.

فإذًا؛ الزيارة هٰذه أو تلك؛ هي مخالِفة للسُّنّة.

الزيارة تكون مشروعة يومَ العيد هو: أن يفِد الناس بجماهيرهم المتكاثِرة إلىٰ صلاة العيد في المصلَّىٰ، ولا شك أنّ الناس هناك سيتزاورون وسيتعارفون أكثرَ مِن هٰذه الزيارة التقليدية؛ لأنه حينما يزورُ بعضُهم بعضًا في العيد في الغالب يَزور بعضُهم مَن يعرفونَ، لٰكن ما أُتيحَتْ لهم الزيارة في أثناء السَّنَةِ، فخصَّصوا هذه الزيارة في يوم العيد، لذٰلك قلنا: زيارةُ الأحياء للأموات ليس مِنَ السُّنِّة في شيء، بل هو مِنَ البدع، وكذٰلك زيارةِ الأحياء للأحياء.
وما معنىٰ هٰذا؟

يجب أن تكون الزيارة سواءً مِن الأحياء للأموات ليست في السَّنَة مَرةً، وكذٰلك زيارة الأحياء للأحياء؛ ليست في السَّنة مَرة، وإنما يجب أن يستمر؛ لأنه في هٰذه الزيارة -زيارة الأحياء للأحياء- تحقيقَ المودة والتعارُف بين المسلمين، كما قال ربُّ العالمين:

{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].

أما زيارةُ الأحياء للأموات فيجب –أيضًا- أن تستمرّ؛ لتحقيق الغاية التي مِن أجلها أَمَرَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزيارة القبور بعد أن كان نَهىٰ عنها، ألا وهي قوله عليه السَّلام: «أَلَا فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الآخِرَةَ».

"سلسلة الهدى والنور" الشريط 527 ، الدقيقة ( 00:50:09 )
الرابط الصوتي:


dfdf

وسئل رَحِمَهُ اللهُ حولَ قضية الزيارات يومَ العيد كما يفعل كثيرٌ مِن الناسِ وتخصيصها، فالبعضُ امتنع عن الزيارة بحجة أن هٰذا شيء لم يرد في السُّنّة أو كذا، فما هو القول في هٰذا؟

جواب أبي رَحِمَهُ اللهُ:

نقول: بارك الله في هٰذا البعض، ونسأل اللهَ أن يجعلنا مِن ذاك البعض؛ لأننا نقول دائمًا وأبدًا.. واليوم كنا مع بعض إخواننا في هٰذا الحديث، قلتُ له: يبدو لك -يا فلان!- أنك لم تَسمَع الدعوة الجديدة التي كانت تُذكِّر مِن قديم فتقول أنّ مِنَ البدع الفاشية في هٰذا الزمان هو زيارة الأحياء للأموات، ألم تَسمع الدعوة الجديدة التي هي في أصلها دعوةٌ قديمة، وهي أنَّ زيارةَ الأحياءِ للأحياءِ يومَ العيد بدعة؟

ومِن أجل ذلك قلتُ لأبي (فلان) أولَ الجلوس -لٰكني لاحظتُ أنه ما انتبه، أنا قلتُ-: ما جئتُكَ عائدًا، إنما جئتُكَ زائرًا.

- مِن: عاد يعود، بمعنىٰ: زار...

أبي: الآن رجعتَ إلى اللغة..

- عيادة المريض: عاد يعود..

أبي: وهٰذه اللغة الآن ماذا عرفوها؟ "تعال لنُعيّد علىٰ فلان".

- يعني: نزوره في العيد..

أبي: هٰذا هو؛ فزيارةُ الأحياء للأموات في العيد؛ بدعة.

(انقطاع)... الأحياء هو مِن البدع.

- هٰذا قياس مع الفارق.

أبي: هٰذا ليس قياسًا.

- هناك لا يشعر الميت ولا يستفيد مِن هٰذه الزيارة، أما هنا -الأحياء للأحياء-؛ فهي الصلة وتوادّ وتحابّ.

أبي: يعني أنت لَمّا تزور الأموات لأجل أن يَحُسُّوا بزيارتك؟

- هناك لأجل الدعاء، لٰكن هنا هٰذا يوم عيد وفرح..

أبي: لا، أنا سؤالي مختصر يا أبا (فلان): لَمّا تزور الأموات يومَ العيد؛ تزورهم كي يَحُسُّوا بك؟

- لا... للدعاء لهم.

أبي: وغير أيام العيد؟ تزورهم حتىٰ يَحُسُّوا بك؟

.....

- لا

أبي: طيب؛ فإذًا؛ لماذا لا تزورهم مِن أجل الغاية التي أنت تزورهم في غير العيد، ما دام أنها غاية حَسَنة، فلماذا لا تزورهم في يومِ العيد مِن أجل هٰذه الغاية الحسنة؟

- غاية حسنة هنا؛ لأنها تتنافىٰ مع بهجة العيد وسرور العيد؛ يذهب إلى الأموات.

أبي: هٰذا هو القياس! وهل هٰذا هو الجواب؟! (يَضحَك رَحِمَهُ اللهُ).. الجواب بارك الله فيك..

- إذا كانت .. عادة جيدة؛ تعتبر مِنَ البدع أيضًا؟

أبي: اسمَعْ:

الجواب في موضوع زيارة الأحياء للأموات ليس مِن أجل هٰذا التعليل المنطقيّ بل الفلسفيّ الذي ربما يجيء واحدٌ متفلسِفٌ أكثر منكَ فيَقضي علىٰ فلسفتك، لٰكن الجواب هو:

"لو كان خيرًا لسبقونا إليه"، ما رأيكَ بهذا الجواب؟

- جيد.

أبي: فيه فلسفة؟!

- جيد.

أبي: طيب. "لو كان خيرًا لسبقونا إليه"، نحن الآن لَمّا نقول: زيارةُ الأحياءِ للأموات [في العيد] بدعة، لا يوجد عندنا نصٌّ في السُّنَّة فضلاً عن القرآن الكريم أنّ زيارةَ الأحياءِ للأموات في العيد بِدعة، ما عندنا شيء مِن هٰذا، وهٰذا القول يقال في كلِّ البدع، وهي –مع الأسف الشديد- بالأُلوف المؤلَّفة، كلُّ بدعة يقول فيها الرسولُ عليه السَّلام: «كُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة»([4]) لا يوجد نصٌّ في أيِّ بدعةٍ عنِ الرسول أنّ هٰذه بدعة، مع ذٰلك؛ العلماء مُجْمِعون على بِدعيَّةِ الأُلوف المؤلَّفة مِنَ الأمورِ الحادِثة بعد الرسول عليه السَّلام.

طيب؛ كيف نقول: هٰذه بدعة، ولا يوجد عندنا نص ببدعيّتها أو بإنكارها؟

بهٰذه الجملة المختصرة التي تدل عليها أدلةٌ مِن الكتاب والسُّنَّة كثيرة، وهي: "لو كان خيرًا؛ لسبقونا إليه".

ومِن الأدلة علىٰ ذٰلك: قوله تعالى:

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]

إذًا؛ هٰذا غير سبيل المؤمنين -أنّ الناس يَروحون يزورون القبورَ يوم العيد- لم يكن مِن سبيل المؤمنين، إذًا؛ نحن نُلَخِّص هٰذا الدليل وما شابهه مِن أدلة بكلمةٍ لكي نُبعِدَ الناس عن أيِّ مُحْدَثة بقولنا: "لو كان خيرًا؛ لسبقونا إليه".

فالآن؛ زيارة القبور -كمبدأ عام-؛ خير، ولا شك، لٰكن هٰذا المبدأ العام لَمّا خَصَّصه العُرْفُ الخَلَفِيّ بيومِ العيد ولا بد، وأطْلَقُوه في أيام السَّنةِ الأخرىٰ؛ صار بدعةً في الدِّين، ودفعناها بتلك الجملة الطيبة المبارَكة: "لو كان خيرًا؛ لسبقونا إليه".

فإذًا؛ زيارة الأحياء للأموات الأصلُ فيها أنها شَرْعٌ، ولا حاجةَ إلى الأدلة.

كذٰلك نقول: زيارةُ الأحياءِ للأحياء شَرْعٌ، لا يوجد خلافٌ في هٰذا.

فحينما يأتي مَن يُذَكِّر النَّاسَ الغافلين عن هَدْيِهِ عليه السَّلام، وعن هَدْيِ السَّلفِ الذين اتَّبعوه عليه السَّلام بإحسان، فيقول لهم:

زيارةُ الأحياءِ في العيد للأحياء؛ كزيارةِ الأحياءِ في العيد للأموات، لا فَرْقَ بين هٰذا وهٰذا إطلاقًا، إنْ طلبتَ الدليل علىٰ هٰذا؛ نذكّرك بالدليل علىٰ ذاك الذي اتفقنا عليه، وهو: زيارةُ الأحياءِ في العيد للأموات بدعة، نحن -والحمد لله، فيما أظن الآن، هٰذا الجمع القليل الطيب المبارَك إن شاء الله- متَّفقون علىٰ أن زيارة الأحياء في العيد للأموات بدعة، ومُقتَنعِون بها تمامًا، مُنطلقين مِن ذٰلك المنطِق الذي لَخّصناه آنفًا، هٰذا المنطِق ما ينبغي أن نخِلّ به، وأن نُعرِضَ عنه لأننا مغلوبون علىٰ أمرِنا ومعتادون عادةً تُشبِه تلك العادةَ التي اجتمعنا علىٰ إنكارها، وهي أننا اعتدْنا أنْ نزورَ المسلمين بمناسبة العيد، فنقول جازِمين قانِعين تمامًا بأنّ زيارةَ الأحياءِ في العيد للأحياء كزيارةِ الأحياءِ في العيد للأموات، ولا فرْق إطلاقًا.

فأيُّ إنسان يريد أن يقول: "يا أخي! ماذا فيها؟! زيارة الأحياء للأحياء في العيد أمر مشروع"، وكما قيل اليوم: ".. لِزيارة الأرحام"، وصار له سَنَة أو سنتين إلخ ما زارهم، هٰذا وَحْده يكفي لينبِّه علىٰ فسادِ هٰذه الزيارة؛ لأنهم يتواكلون ويتكاسلون عن القيام بواجبِهم، سواء كان بواجب زيارةِ الأحياء للأموات، التي ترقِّقُ القلوبَ وتذكِّر الآخرة؛ لا يفعلونها إلا أيش؟ يومَ العيد! وأيضًا شخص له رحمٌ يريد أن يَصِلَه، يقول: "يلا يلا" إلىٰ أن يجيء العيد، "الزيارة في العيد أفضل، لأنّ الزيارة في الأصل مشروعة، والعيد أيضًا أيامُه فاضلة"، لا؛ "لو كان خيرًا؛ لسبقونا إليه".

فكلُّ ما يُثْبَتُ به البدعةُ الأولىٰ؛ يُثْبَتُ به البدعة الأخرىٰ.

وكلُّ مَن يَعترِضُ على البدعة الأولىٰ؛ يلزمه أن يعترض على البدعة الأخرىٰ.

وكلّ مَن يَشُكُّ في البدعة الأُخرىٰ؛ يجب ويَلزمه أنْ يَشُكُّ في البدعة الأولىٰ، وإلا كان فِكْرُه متناقضًا.

ونسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يهدينا سواءَ السبيل.

انتهى، "سلسلة الهدى والنور" أواخر الشريط 530 ، وبداية الشريط 531
الرابط الصوتي:





([1])"صحيح مسلم" (977) دون الزيادات، وبها وغيرها: "صحيح الجامع" (4379 و 4584).
([2]) رواه الجماعة -إلا أبا داود- بلفظ: « صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ (في رواية: أَفْضَلُ) مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ».
([3]) رواه الترمذي (2166)، وصححه الوالد رَحِمَهُ اللهُ.
([4]) "صحيح مسلم" (867).