(رُصُّوا صُفوفَكم)، وفائدة في هيئة القدمين

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عن أَنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال:
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنْ تَسْويَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ».
رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وغيرهم، وفي رواية للبخاري:
«فَإن تَسْوِيَةَ الصفوفِ مِنْ إقامَةِ الصَّلَاةِ».
ورواه أبو داود، ولفظه:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«رُصُّوا(1) صُفُوفَكُمْ، وَقارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأعْنَاق، فَوَالَذِي نَفْسيِ بِيَدِهِ! إنِّي لَأرَى الشَيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الحَذَفُ[1]».
رواه النسائي، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" نحو رواية أبي داود.
(الخَلَل): بفتح الخاء المعجمة واللام أيضًا: هو ما يكون بين الاثنين من اتِّسَاعٍ عند عدم التراصِّ.
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) "من (الرَّصِّ)، يقال: رصَّ البناءَ يرصُّه رصًّا: إذا ألْصق بعضَه ببعض، ومنه قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾. ومعناه تضامُّوا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع.
قلت: وذلك بأن يُلصق الرجلُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَكَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ، كما ثبت ذلك عن الصحابةِ وراءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فراجع له «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (٣٢)، وحديث أنس بن مالك الآتي قريبًا، ومثله حديث النعمان بن بشير الآتي (32 - باب/5).
وبهذه المناسبة أقول : فلا تغترَّ -أخي القارئ- بمَن حاد عن هدي السلف في هذه المسألة، وزعم "أنها هيئةٌ زائدة على الوارد، فيها إيغال في تطبيق السُّنة"؛ فإنه تأوَّلَ هذه النصوصَ العَمَليةَ وعَطَّلها، كما تأوَّل علماءُ الكلام النصوصَ العِلْميةَ ودلالاتِها على الإثبات وعطَّلوها! وهذه غفلة أو زلَّةُ عالم فاضل، وددنا أنه لم يقع فيها. انظر "الصحيحة" (6/77)" اﻫ .

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 29- الترغيب في الصف الأول، وما جاء في تسوية الصفوف والتراصِّ فيها/ 1/ 332/ ح 494 (صحيح)).


فائدة:
سئل أبي رَحِمَهُ اللهُ:
ماهو المقدار الذي يفتح المُصلِّي به بين قدميه؟
فأجاب:
"ليس فى هذا السؤال سُنَّة، والمسلم إذا صلَّى وَحْدَه أو إمامًا؛ وقف الوقفةَ التي يرتاح لها، سواءٌ فَرَّجَ بين قدميه خمس أصابع -كما تقول بعض المذاهب بدون حُجة!- أو أكثر من ذلك، أو أقلَّ، المهمّ يقف الوقفة التي لا يتضايق منها.
لكنْ -كما قلتُ- هذا في حالة كونه يُصلِّي وحدَه منفردًا أو إمامًا.
أمّا إذا كان يُصلي فى الصفّ؛ فهناك وَقفة مُتكلَّفة لابد منها؛ لابد مِن التفريج بين القدمَين بحيث تلتصِقُ قدمُه اليمنى بِقَدم جارهِ اليسرى، وقدمُه اليسرى بِقَدم جاره اليمنى، ونصير صفًّا -كما قال تعالى-: ﴿كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [سورة الصف، من الآية: 4].
فالصفُّ الذي يصفُّونه اليوم، الرجالُ فضلًا عن النساء[2]، النساء أَبْعد ما يَكُنَّ عن التراصِّ في الصفّ! الرجال أحسن منهن لكنْ بقليل!
فتسوية الصفوف مع تراصِّ الأقدام والمناكب هذا مِن واجبات الصلاة، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«سَوُّوا صفوفكم؛ فإنَّ تسوية الصفوفِ» في رواية يقول:
«مِن إقامة الصلاة ».
وفى أخرى يقول:
«مِن تمام الصلاة».
فالصلاة التي لا تُسَوَّى فيها الصفوف فهي ناقصة، بدليل هذا الحديث، لذلك؛ يجب التراصُّ بالأقدام.
وهذا التراصُّ يتطلَّب فرجة، تختلف مِن إنسان لآخر، مِن إنسان بَدِين -مثلًا- فينبغي أن يوسّع قدمَيه كثيرًا، إلى إنسان نحيف، فعلى نِسبةِ نحافته تكون الفرجةُ بين قدميه.
وينبغي أن يلاحظ في هذه المناسَبة -الرجالُ فضلًا عن النساء- أن التفريجَ بين القدمين لا يَلزم أن يكون مبالَغًا فيه بحيث إننا حينما نسعى للتفريج بين القدمين -لِلَصْقِ الأقدام بعضِها ببعض- نَعمل فرجةً بين المنكب والمنكب! يكون كما يقول المثلُ العامِّي: (نريد أن نكحّلها؛ نعميها!)؛ لأنه يجب لصق الأقدام ولصق المناكب أيضًا، المنكب مع المنكب والقدم مع القدم....
هذا التفريجُ المبالَغ فيه يَفعله بعضُ إخواننا السلفيين حرصًا وجهلًا: حرصًا منهم على لصق القدم بالقدم، هو يَنقل رجلَه قليلًا.. وذاك ليس سلفيًا ولا هو سُنيّ، بمجرد أن يشعر أنه مسَّتْ قدمُ جاره قدمَه؛ يهرب عنه! ماذا يفعل صاحبُنا؟ أيضًا نقلة ثانية؛ وحتى ربما يفرِّج بين رجليه كي يلحق به!
يا أخي! ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [سورة يونس، من الآية 99]؟! أنت اعمل واجبك، مجرد ما تنقل قدمك قليلًا وأحسستَه هَرَب؛ فهمتَ أنه ليس على السُنَّة؛ اتركه، فلا توجِدْ شُقَّةً ما بينك وبينه حتى في المنكب في الكتف!
هذا أدبٌ يجب أن يلاحظه السلفيون نساءً ورجالًا، لصقُ القدم بالقدم، والمنكب بالمنكب، ليس أن نلصق القدم بالقدم فقط ونفرّج بين المنكب والمنكب! لا.
وإذا أخذنا القضية بالعقل: لصق المنكب بالمنكب أحسن مِن لصق القدم بالقدم مع التفريج بين المنكبين.
عندنا صور عديدة:
الصورة الكاملة: لصقُ القدم بالقدم والمنكب بالمنكب.
الصورة الثانية: لصقُ المنكب بالمنكب مع عدم لصق القدم بالقدم.
الصورة الثالثة: لصق القدم بالقدم والتفريج بين المناكب. وهذه المرتبة الثالثة.
المرتبة الرابعة والأخيرة: التفريج بين الأقدام وبين المناكب؛ وهنا هذا الصف مُهَلْهَل! ما هو كالبنيان المرصوص!
فهذا الجواب بالنسبة لما يتعلق بالتفريج بين القدمين:
إذا صلى وحده إمامًا أو منفردًا ؛ لا يوجد سُنَّة معيَّنة.
أما إذا صلى في الصف؛ فلابد من لصق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم اهـ كلام أبي رَحِمَهُ اللهُ، قيَّدتُه بشيء من الاختصار والتصرف.

الأحد 15 شعبان 1437ه



[1] - "في "القاموس": (والحذف) ... غَنَمٌ سُودٌ صِغَارٌ حِجَازِيَّةٌ أَو جُرَشِيَّةٌ، بِلا أَذْنَابٍ، ولا آذَانٍ". من تعليق الوالد على الكلمة في حديثٍ سَبَقَ (1/ 330).
[2] - الدرسُ موجَّهٌ للنساء، والسائلةُ امرأة.

وأنَّى بالتوبةِ منها لِمَنْ لم يَعْلَمْ أنها بدعة؟!

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد
عقد الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- فصلًا في (القول على الله بغير علم) قال فيه:
"فَذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْبِدَعِ.
وَأَنَّى بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، أَوْ يَظُنُّهَا سُنَّةً، فَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا؟! فَلَا تَنْكَشِفُ لِهَذَا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَّا بِـ:
تَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ
وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا
وَدَوَامِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا.
وَلَا تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أَبَدًا!
فَإِنَّ السُّنَّةَ بِالذَّاتِ تَمْحَقُ الْبِدْعَةَ، وَلَا تَقُومُ لَهَا، وَإِذَا طَلَعَتْ شَمْسُهَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ؛ قَطَعَتْ مِنْ قَلْبِهِ ضَبَابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وَأَزَالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلَالَةٍ، إِذْ لَا سُلْطَانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطَانِ الشَّمْسِ.
وَلَا يَرَى الْعَبْدُ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَيُعِينُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَتِهَا إِلَى نُورِ السُّنَّةِ، إِلَّا:
الْمُتَابَعَةُ
وَالْهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللَّهِ:
بِالِاسْتِعَانَةِ
وَالْإِخْلَاصِ
وَصِدْقِ اللَّجْإِ إِلَى اللَّهِ
وَالْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِهِ، بِالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى:
- أَقْوَالِهِ
- وَأَعْمَالِهِ
- وَهَدْيِهِ
- وَسُنَّتِهِ.
«فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ" اﻫ من "مدارج السالكين" (1/ 648 و649، ط2، 1429ه، دار طيبة).

الثلاثاء 10 شعبان 1437ه

مَن حافَظ عليها كان له أَجْرُه مرَّتين

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بـ (الْمُخَمَّصِ)، وَقَالَ:
«إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا؛ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ». الحديث.
رواه مسلم والنسائي.
(المخمص): بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والميم جميعًا، وقيل: بفتح الميم وسكون الخاء وكسر الميم بعدها، وفي آخره صاد مهملة: اسمُ طريق(1).
__________
[تعليق الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) أي: في جبل (عَير) إلى مكة. كما في "معجم البلدان"، وقيّده بالضبط الثاني، كـ (مَنْزِل)، وبه صرّح في "القاموس"، وبالضبط الأوّل قُيِّدَ في "مسلم"، وقيل غير ذلك.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5- كتاب الصلاة/ 23- الترغيب في المحافظة على الصبح والعصر/ 1/ 315/ ح 460 (صحيح)).


فائدة في معنى « كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ»
قال شيخ الإسلام ابنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- في "شرح عمدة الفقه" (2/161و162 – ط المجمع):
"فبَيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ مَن قبْلنا ضيَّعوها، وما هذا شأنه فهو جدير أن يؤمر بالمحافظة عليه، وأنَّ لنا أجرين بهذه المحافظة، وهما -والله أعلم- الأجران المشار إليهما بقولِه تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، وفي المَثَلِ المضروب لنا ولأهل الكتابين، وهو ما رواه جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، ومَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلى قِيراطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ الْعَصْرِ إِلَى مَغِيب الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ. فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً. قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي، أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. وذلك إنما استحققنا الأجرين بحفظ ما ضيَّعوه وهو صلاة العصر" اﻫ .

وقال الطيبي -رَحِمَهُ اللهُ- في "شرحه على المشكاة" (4/ 1124 – ط 1، 1417ﻫ، مكتبة نزار مصطفى الباز):
"قوله: «أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ» أقول:
إحداهما للمحافظةِ عليها خلافًا لمن قبلهم.
وثانيتهما أجرُ عملِه كسائر الصلاة" اﻫ.