تقديم الاتباع على اجتهاد الآباء

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (كتاب الحج/ بَاب الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ) عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ؟! حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (3/ 397 و398) -أثناء شرحه للمتن -:
" وَكَانَ اِبْن عُمَر يَتْبَع فِي ذَلِكَ أَبَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَه اِسْتِدَامَة الطِّيب بَعْدَ الْإِحْرَام كَمَا سَيَأْتِي ، وَكَانَتْ عَائِشَة تُنْكِر عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَقَدْ رَوَى سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ عَائِشَة كَانَتْ تَقُول:
" لَا بَأْس بِأَنْ يَمَسّ الطِّيب عِنْدَ الْإِحْرَام " قَالَ: فَدَعَوْت رَجُلًا وَأَنَا جَالِس بِجَنْبِ اِبْن عُمَر فَأَرْسَلْتُه إِلَيْهَا وَقَدْ عَلِمْتُ قَوْلهَا وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْمَعهُ أَبِي ، فَجَاءَنِي رَسُولِي فَقَالَ إِنَّ عَائِشَة تَقُول: لَا بَأْس بِالطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَام، فَأَصِبْ مَا بَدَا لَك . قَالَ: فَسَكَتَ اِبْن عُمَر . وَكَذَا كَانَ سَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر يُخَالِف أَبَاهُ وَجَدَّهُ فِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَة ، قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ: " أَخْبَرَنَا عَمْرو بْن دِينَار عَنْ سَالِم أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْل عُمَر فِي الطِّيب ثُمَّ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَة " فَذَكَرَ الْحَدِيث ، قَالَ سَالِم :
سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَع ". ا.هـ

علّق الوالد رحمه الله، فقال:
"وهكذا فليكن تحقيقُ الاتباعِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم! فرحِمَ اللهُ أولئك الآباءَ الذين خلّفوا أمثالَ هؤلاء الأبناء، الذين يُقدّمون سنّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على اجتهاد آبائهم، فأين منهم هؤلاء الخَلَف الذين تتضح لهم السُّنةُ الصريحة في المسألة ثم لا يتّبعونها، ويؤثرون عليها تقليَد المذهب أو الجمهور، بحجة أنهم أعلم منا بالسُّنة! أفلم يكن عمر وابنه عبد الله أعلم مِن عبد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر بالسّنة بصورة عامة؛ فما الذي حملهما على مخالفة أبويهما؟ أهو اعتقادهما أنهما أعلم منهما؟ حاشاهما من ذلك، وإنما هو ثبوت السنة لديهما، وليس معنى ذلك عندهما أنهما أعلم من أبويهما في كلّ ما سواها، فهل للمقلّدين أن يَعتبروا بذلك، ويُفردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتباع؟!".
"مختصر صحيح الإمام البخاري" (1/455) مكتبة المعارف

عَنْ أَنَسٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ
وَالِدِهِ
وَوَلدِهِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
متفق عليه