مُصافاة الخِلان أم رِضى الدَّيّان!

بسم الله الرحمٰن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رُسُلِ الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.


أما بعد


قال عَزَّ وَجَلَّ في سياق ذِكر مناصحةِ إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقومه:


{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (العنكبوت: 25).


استنبط العلامةُ البقاعيُّ رَحِمَهُ اللهُ مِن هٰذه الآية الكريمة موعظةً نافعة في باب التعامُلِ مع الأصحاب، فيها التحذيرُ مِن موافقتِهم علىٰ معصيتِهم رجاءَ وصْفِ: طيِّب الصحبة، أو خوفَ وصف: سيّئ العِشرة!


فبَيْنَ هٰذا الخوف وذاك الرجاء تضيع شعيرةُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وتختلّ نيّةُ المحبةِ في الله، فلو أحبَّهم في الله حقًّا؛ لأمرَهم بما يُقرّبهم مِن ربِّهم، ونهاهم عن ضدِّه.


ولو تأمَّلَ العاقلُ لَعَلِمَ أنّ هٰؤلاء الصحب ما هم إلا ترابًا فوق ترابٍ، فلن ينفعه مدحُهم، ولن يضرَّه ذمُّهم، وأنهم لا يملكونَ أمرَ محبتِه أو بُغضِه، ﻓ "الْمِقَةُ مِنَ اللهِ تَعالَىٰ"([1])، يَضعها لِمَن أَحَبَّ مِن عِباده الموحِّدين المتّقين القائمين بما أَمر به -ومنه: الأمر بما أمر-، المنتهين عمّا نَهىٰ عنه -ومنه: اجتنابُ ترْكِ النهيِ عما نَهىٰ- عَزَّ وَجَلَّ وتَبارَك وتَقَدَّس.


وإلىٰ كلامِ العلامة المفسِّر.. قال رَحِمَهُ اللهُ:


"{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ساقه مَساق ما لا نِزاعَ فيه لِما قام عليه مِنَ الأدلة {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} فيُنْكِرُ كُلٌّ مِنهُم مَحَاسِنَ أَخيهِ، وَيَتَبَرَّأ منه بِلَعْنِ الأتْباعِ القادةَ، ولَعْنِ القادةِ الأتْباعَ، وتُنْكِرون كُلُّكُم عِبادةَ الأوثانِ تارةً إذا تَحَقَّقْتُم أنها لا ضرَّ ولا نفع لها، وتُقرَُّون بها أُخرىٰ طالبين نُصرتَها راجِين منفعتَها، وتُنكِرُ الأوثانُ عِبادتَكم وتَجحَدُ مَنفعتَكم، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} علىٰ ما ذُكر {وَمَأْوَاكُمُ} جميعًا أنتُم والأوثان {النَّارُ} لِتَزِيدَ في عذابِكُم ويَزداد بُغضُكم لها {وَمَا لَكُمْ} وأَعْرَقَ في النَّفْيِ فقال: {مِنْ نَاصِرِينَ } أصلاً يَحْمُونَكم منها.


ويَدخُلُ في هٰذا كُلُّ مَن وَافَقَ أصحابَهُ مِن أهْلِ المعاصي أو البَطالة على الرذائل ليَعُدُّوه حَسَنَ العِشْرَةِ، مُهَذَّبَ الأخلاقِ، لطيفَ الذَّاتِ، أو خوفًا مِن أنْ يَصِفوه بكثافةِ الطَّبْعِ، وسُوء الصُّحْبة، ولقد عَمَّ هٰذا لَعَمْري أهلَ الزمانِ لِيُوصَفُوا بِمُوافاةِ الإخوان، ومُصافاةِ الخِلان، مُعْرِضِينَ عن رِضى الملِكِ الدَيِّان!". ا. ﻫ مِن "نَظْم الدُّرَرْ في تناسُبِ الآياتِ والسُّورْ" (5/ 552).







([1]) إحدىٰ تراجم الإمام البخاري –رَحِمَهُ اللهُ- في (كتاب الأدب) مِن "صحيحه"، ترجم بها لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَىٰ جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا؛ فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا؛ فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ».