صَلاةٌ فِي إِثْرِ صَلاةٍ، لا لَغْوَ بَيْنَهُمَا: كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
أمّا بعدُ
روى الإمامُ أبو داود في "سُننه" (كتاب الصَّلاة/ باب صَلاةِ الضُّحَى) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

«صَلاةٌ فِي إِثْرِ صَلاةٍ، لا لَغْوَ بَيْنَهُمَا: كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ».


كما رواه بأتمّ منه في (باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ)، وجاء فيه: (عَلَىٰ أَثَرِ صَلاةٍ).
وقد حسّنه أبي –رَحِمَهُ اللهُ- في عَدَدٍ مِن كُتبه، منها: "صحيح سنن أبي داود" (567 و 1166).

قال العلامةُ بدر الدين العَيني في "شرح سنن أبي داود" (3/ 38):
"قوله: «صَلاةٌ عَلى إِثْرِ صَلاةٍ» أي: صلاةٌ عُقيب صلاةٍ، والأثر- بفتح الهمزة والثاء، وبكسر الهمزة وسكون الثاء- كلاهما بمعنى.
وارتفاعُ «صَلاةٌ» علىٰ أنه مبتدأ، ولا يقال: إنه نكرة؛ لأنها تَخصَّصت بقوله: «عَلىٰ إِثْرِ صَلاةٍ»، وخَبَرُه: قوله: «كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ».
قوله: «لا لَغْو بَيْنَهُمَا» أي: بين الصَّلاتَين، واللَّغْوُ: الباطلُ، مِن لغا الإنسانُ يَلغو، ولغى يلغي، ولغي يلغى؛ إذا تَكلَّم بالمُطَّرح مِن القول وما لا يَعْني.
ويجوز أن تكون «لا» لِنفي الجنس، ويكون «لَغْوَ» مَبنيًّا على الفتح، نحو: لا رجلَ في الدار، ويجوز أن تكون بمعنى (ليس)، ويكون «لَغْوٌ» مرفوعًا على أنه اسم (ليس)، وخَبَرُه: قوله: «بَيْنَهُمَا».
فإن قلتَ: ما موقع هٰذه الجملة؟
قلت: وقعتْ في المعنى صفةً كاشفةً لِلصلاة؛ لأن الصلاة التي تُكتب في عِلِّيين موصوفةٌ بشيئين:
الأول: أن تكون مكتنَفةً بصلاة أخرى.
والثاني: أن لا يكون بينهما لغوٌ وأباطيلُ؛ مِن الكذب والغيبة والنميمة، ونحو ذٰلك.
قوله: «كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» أي: مكتوبٌ فيها، كالحساب بمعنى: المحسوب، قال اللهُ تَعالى:
{ كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)} (المطففين).
وعليّون: جمعٌ، واحِدُه: عِلِّيّ، مشتقٌّ مِن العُلو، وهو للمبالغة، ويُقال: جُمِعَتْ كجمع الرجال؛ إذ لا واحد لها ولا تثنية.
وقال الفراء: اسم موضعٍ علىٰ صيغته، كعشرين وثلاثين.
وقال ابن مالك: عليّون اسم لأعلى الجنة، كأنه في الأصل (فعِّيل) مِن العلو، فجُمع جمْعَ ما يُعقَلُ، وسُمّي به أعلى الجنة، وله نظائر مِن أسماء الأمكنة، نحو: صريفون، وصفون، ونصيبون، وسَلحون، وقنسرون، ويَبْرون، ودارون، وفلسطون.
وقال ابن زيد: هي السماء السابعة.
وقال قتاده: إليها ينتهي أرواح المؤمنين.
وقال كعب: هي قائمة العرش اليمنى.
وقال الضحاك: هي سدرة المنتهى" اﻫ المراد مِن كلام العلامة العيني.

ويتجلَّىٰ معنىٰ (عِلِّيِّين) مِن كلامٍ لِلحافظ الإمام الطبري –رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيرِه لآيةِ سورة المطففين، إذ قال بعد أن عَدَّد الأقوالَ بنحو ما ذكره العلامةُ العَيني:
"وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذٰلِكَ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ فِي عِلِّيِّينَ؛ وَالْعِلِّيُّونَ: جَمْعٌ، مَعْنَاهُ: شَيْءٌ فَوْقَ شَيْءٍ، وَعُلُوٌّ فَوْقَ عُلُوٍّ، وَارْتِفَاعٌ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ، فَلِذٰلِكَ جُمِعَتْ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، كَجَمْعِ الرِّجَالِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَاثْنَيْهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: أَطْعِمْنَا مَرَقَةَ مَرَقِينَ: يَعْنِي اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ..... وَكَذٰلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ جَمْعٍ لَمْ يَكُنْ بِنَاءٌ لَهُ مِنْ وَاحِدِهِ وَاثْنَيْهِ، فَجَمَعَهُ فِي جَمِيعِ الإِنَاثِ وَالذُّكْرَانِ بِالنُّونِ، عَلَىٰ مَا قَدْ بَيَّنَّا، وَمِنْ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: عِشْرُونَ وَثَلاثُونَ.
فَإِذَا كَانَ ذٰلِكَ كَالَّذِي ذَكَرْنَا؛ فَبَيِّنٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَفِي عِلِّيِّينَ} مَعْنَاهُ: فِي عُلُوٍّ وَارْتِفَاعٍ، فِي سَمَاءٍ فَوْقَ سَمَاءٍ، وَعُلُوٍّ فَوْقَ عُلُوٍّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذٰلِكَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَإِلَىٰ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِلَىٰ قَائِمَةِ الْعَرْشِ، وَلا خَبَرَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ بِأَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ بَعْضُ ذٰلِكَ دُونَ بَعْضٍ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي ذٰلِكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
إِنَّ كِتَابَ أَعْمَالِ الأَبْرَارِ لَفِي ارْتِفَاعٍ إِلَىٰ حَدٍّ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مُنْتَهَاهُ، وَلا عِلْمَ عِنْدَنَا بِغَايَتِهِ، غَيْرَ أَنَّ ذٰلِكَ لا يَقْصُرُ عَنِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، لإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ الْتَأْوِيلِ عَلَى ذٰلِكَ" اﻫ مِن "تفسير الطبري" ط دار هجر (24/ 210 و211).

وجاء في "عون المعبود" (4/ 168):
صَلاة فِي إِثْر صَلاة»: أَيْ صَلاة تَتْبَع صَلاةً وَتَتَّصِل بِهَا، فَرْضًا أَوْ سُنَّة أَوْ نَفْلاً" اﻫ.
وفيه أيضًا (2/ 264):
لا لَغْو بَيْنهمَا»: أَيْ بِكَلامِ الدُّنْيَا" اﻫ.


وقال العلامة عبد المحسن العبّاد -حَفِظَهُ اللهُ تَعالىٰ- في معنى الحديث:
"يعني: أنه يُرفَع شأنُه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وتُرفَع درجتُه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، ما دام أنه صلاة علىٰ إثرِ صلاةٍ، والذي بينهما خالٍ مِنَ اللَّغو، ليس فيه إلا ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، وما يعود على الإنسان بالخير، ولا يأتي بسيئاتٍ وبكلامٍ سيِّئ ولغوٍ بين تلك الصلاتين، فإنّ هٰذا في أعلى الدرجات، وفي أعلى المنازل، ويَكتُب الله ذٰلك له، ويُثْبته عنده، ويحصِّل بذلك الدرجاتِ العالية والمنازلَ الرفيعة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ........ ومِن المعلوم أنّ الإنسان إذا أدَّى الصلواتِ الخمس وحفظ لسانَه فيما بين كلِّ صلاةٍ وصلاة؛ فلا شكَّ أنه علىٰ خير، ولا شك أنّ ذٰلك يَرفع شأنَه ودرجته عند الله عَزَّ وَجَلَّ" اﻫ.  

وسئل -حفظه الله- في شرح الرواية الأخرى عن مناسَبةِ الحديث لباب (صَلاةِ الضُّحَى)؛ فقال:
"بالنسبة لصلاة الضحىٰ؛ لا تَظهر مناسبتُه تمامًا، إلا أنَّ كونه صلاةً بَعْدَ صلاةٍ وأنه لا يَحصُل بينهما لغوٌ؛ أنّ ذٰلك مكتوب، يعني أيّ صلاة، ومِن ذٰلك: صلاةُ الفجر وصلاةُ الضحى؛ فإنّ هٰذه صلاةٌ في إثر صلاةٍ ولا لغو بينهما، يعني أن هٰذا مِن جملة ما يَدخل تحت عموم الحديث؛ لأن الحديث ليس خاصًّا بصلاةٍ مُعيَّنة، وإنما هو صلاةٌ في إثر صلاة، يعني صلاةٌ عقِبَ صلاة، سواء كانت فريضةً بعد فريضة، أو نافلتين بينهما فراغ، كلُّ ذٰلك صلاةٌ في إثر صلاة، حيث لا لغو بينهما.
 «كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ»: يعني: مكتوبٌ في عِلِّيين، تَكتبه الملائكةُ وتَرفعه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وتَصعد به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن الأعمالَ الصالحةَ تُرفَع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ" اﻫ.
***
رمضان 1432