الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم خُدّامُ أنفُسِهِم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمَّد، وعلىٰ آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلىٰ يوم الدِّين.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ، رِعَايَةَ إِبِلِنَا، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإذَا رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ».
فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ! مَا أَجْوَدَ هَٰذِهِ!
رواه مسلم وأبو داود –واللفظ له- والنسائي وابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه"، وهو بعض حديث.
ورواه الحاكم إلا أنه قال:
«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ؛ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» الحديث. وقال:
"صحيح الإسناد".
(أوجب) أي: أتىٰ بما يوجِب له الجنة.

"صحيح الترغيب والترهيب" (5-  كتاب الصلاة/ 14- الترغيب في الصلاة مطلقًا، وفضل الركوع والسجود والخشوع/ 1/ 282 و283/ ح 395 (صحيح لغيره)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هُم أصحابُ مَن حَثَّهم علىٰ أن لا يَسألوا الناسَ شيئًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، كما في حديث عوفِ بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وفيه: «فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَٰئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ»! "صحيح مسلم" (1043).
بل أَمَرَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ:
«اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ السِّوَاكِ»!
رواه البزّار وغيره عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وصححه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1450)، وسيأتي في "صحيح الترغيب والترهيب" (818).
هُم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خُدّامُ، عُمّالُ، مُهَّانُ أنفسِهم!
عن يحيَى بن سعيدٍ أنهُ سألَ عَمْرةَ عنِ الْغُسلِ يومَ الجُمعةِ؟
فقالتْ: قالتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
(كانَ الناسُ مَهَنَةَ (وفي طريقٍ: عُمَّالَ) أنفُسِهم، وكانُوا إِذا راحُوا إِلى الجُمعةِ راحُوا في هيْئَتِهِم، [وكانَ يكون لهم أرواحٌ]، فقيلَ لهم: "لوِ اغتسَلْتُمْ").
"مختصر صحيح الإمام البخاري" للوالد رَحِمَهُ اللهُ (1/ 274/ ح 461).
وعند أبي داود وغيره: (كَانَ النَّاسُ مُهَّانَ أَنْفُسِهِمْ). "صحيح سنن أبي داود" (2/ 181/ ح 379).
وقد استعمل –أبي رَحِمَهُ اللهُ– هٰذا الوصفَ السامي (خُدَّام أنْفُسِهم) في الدعوةِ إلىٰ خُلُقٍ نبيل؛ استنادًا إلىٰ حديثٍ آخر، أنقله مِن "صحيحته":
"فضْلُ المفْطِر على الصائمِ في السَّفَر
85 – «ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ[1]، وَاعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ! ادْنُوَا فَكُلَا».
رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في " المصنف " (ج 2 / 149 / 2) ، والفريابي في
"الصيام" (4 / 64 / 1) عنه وعن أخيه عثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا عمر بن سعد أبو داود عن سفيان عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:
"أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ بِ(مَرِّ الظَّهْرَانِ)، فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «ادْنُوَا فَكُلَا»، فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ، فَقَالَ: «ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ» الحديث.
وكذا أخرجه النسائي (1 / 315) وابن دحيم في " الأمالي " (2 / 1) من طرق أخرىٰ عن عمر بن سعد به.
ثم أخرجه النسائي من طريق محمد بن شعيب: أخبرني الأوزاعي به مرسلًا لم يذكر أبا هريرة، وكذٰلك أخرجه من طريق علي - وهو ابن المبارك - عن يحيىٰ به.
ولعل الموصول أرجح؛ لأن الذي وصله وهو سفيان عن الأوزاعي ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تكن منافية لمن هو أوثق منه.
قلت: وإسناده صحيح علىٰ شرط مسلم، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" وقال: " فيه دليل علىٰ أنَّ لِلصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الْفِطْرَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ النَّهَارِ". كما في " فتح الباري " (4 / 158) .
وأخرجه الحاكم (1 / 433) وقال:
"صحيح علىٰ شرط الشيخين". ووافقه الذهبيُّ! وإنما هو علىٰ شرط مسلم وَحْده، فإنَّ عمر بن سعد لم يخرج له البخاري شيئًا.
والغرضُ مِن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ...» الإنكارُ وبيانُ أنَّ الأفضل أن يُفطِرا ولا يُحْوِجَا الناسَ إلىٰ خِدْمتِهما، ويبيِّنُ ذٰلك ما روى الفريابيُّ (67 / 1) عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال:
"لا تَصُمْ في السَّفَر؛ فإنهم إذا أَكلوا طعامًا؛ قالوا: ارْفَعُوا لِلصَّائم! وإذا عَمِلُوا عَمَلًا قالوا: اكْفُلُوا لِلصَّائم! فيَذْهَبُوا بِأجْرِك!". ورجاله ثقات.
قلت: ففي الحديث توجيهٌ كريم، إلىٰ خُلُقٍ قويم، وهو الاعتمادُ على النَّفْس، وترْكُ التواكُلِ على الغير، أو حَمْلِهم علىٰ خدمته، ولو لسببٍ مشروعٍ كالصيام، أفليس في الحديث إذن ردٌّ واضح علىٰ أولٰئك الذين يستغلُّون عملهم، فيحملون الناس على التسارُع في خدمتهم، حتىٰ في حمل نعالهم؟!
ولئن قال بعضهم: لقد كان الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَخدمون رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن خدمة، حتىٰ كان فيهم مَن يَحمل نعليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عبد الله بن مسعود.
فجوابُنا: نعم، ولٰكن هل احتجاجهم بهٰذا لأنفسهم إلَّا تزكيةٌ منهم لها، واعترافٌ بأنهم ينظرون إليها علىٰ أنهم ورَثَتُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العلم حتىٰ يصح لهم هٰذا القياس؟!
وايم اللهِ! لو كان لديهم نصٌّ علىٰ أنهم الوَرَثَةُ لم يَجُزْ لهم هٰذا القياس، فهٰؤلاء أصحابُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهودُ لهم بالخَيرية -وخاصة منهم العشرة المبشَّرين بالجَنة-، فقد كانوا خُدَّامَ أنفسِهم، ولم يكن واحدٌ منهم يُخدَم مِن غيرِه عُشرَ مِعشارِ ما يُخدَم أولٰئك المعنيُّون مِن تلامذتهم ومريديهم! فكيف وهم لا نصَّ عندهم بذٰلك، ولذٰلك فإني أقول: إنَّ هٰذا القياسَ فاسدُ الاعتبارِ مِن أصله، هدانا اللهُ تَعَالَىٰ جميعًا سبيلَ التواضع والرشاد" اﻫ مِن "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 168 – 170).
وبعد!
فهنيئًا لمن جَبَلَه خالقُه -سبحانه- علىٰ هٰذا الخُلُق الكريم، وإنها لمن النِّعَم أن يكون عيشُ المرءِ بين مَن يتحلَّون بهٰذه الحلية النفيسة، فإنه سيرىٰ صورًا مِن المتابَعة لِلصحابة الكرام رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ولتابعيهم بإحسان، وإن لم يكن ثمة سوطٌ يَسقط ليُتناوَل! وسيتعلّم أنْ ماذا يَضُرُّ مَن يقوم مِن مكانه ويمشي هٰكذا إلىٰ أن يصل إلىٰ مفتاح الضوء أو مفتاح مكيّف الهواء لِيفتحه أو يغلقه، ولو كان هناك قريبًا من هٰذا المفتاح صديقُه أو شقيقُه أو ربَّما ابنُه!
جاء في "الطبقات" لابن سعد (7/ 387 – ط الخانجي) عن الوليد بن سليمان رَحِمَهُ اللهُ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا سَمَرَ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ أَسْرَجَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ, وَإِذَا سَمَرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَسْرَجَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ نَعَسَ السَّرَّاجُ, فَقَامَ إِلَيْهِ لِيُصْلِحَهُ, فَقِيلَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّا نَكْفِيكَ. فَقَالَ:
أَنَا عُمَرُ حِينَ قُمْتُ، وَأَنَا عُمَرُ حِينَ جَلَسْتُ!".
وجاء نحوُه عن رجاء بن حَيْوَة -رَحِمَهُ اللهُ- في "الزهد" للإمام أحمد (1721 – الكتب العلمية)، وفيه أنه قال:
"قُمْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَجَعْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ!".
والأمثلةُ كثيرة جدًّا، إنما المقصودُ هنا التنويهُ وحسْب؛ فالاستغناءُ عن الناس دوحةٌ ضخمةٌ عديدة الأغصان، وفيما سبق فروعٌ رقيقةٌ منها، تهِفُّ عمَّا وراءها مِن عظيم! وقد خَصَّص الحافظ المنذريُّ -رَحِمَهُ اللهُ- في هٰذا الكتاب بابًا للترهيب مِن المسألة والترغيب في التعفُّف، وسيأتي عليه الانتخابُ إن شاء اللهُ تعالىٰ، وإنما عجلت بالتنبيهِ لسببين:
1) لأن هٰذا الحديث ليس في ذاك الباب؛ فهو ليس علىٰ شرط المنذريِّ في تضمُّن الحديثِ لترغيبٍ أو ترهيبٍ. وبعبارة أخرىٰ: لم يَرِدْ وَصْفُ «خُدَّام أنفُسِنا» في هٰذا الكتاب إلَّا هنا، فلم تَرْضَ نفسي أن أدع جَلْوَ مرآتِه، وما طابت بإنساء الاستمداد مِن نورِ مشكاتِه!
2) لقُرْبِ العهدِ بالصيام، وامتدادِه باستحبابِ صيام الستِّ مِن شوال، فلْيتأمّلِ الصائمُ في السَّفر مع رِفقةٍ مفطرين؛ إنْ رام الأفضل!

السبت 9 شوال 1436هـ





[1] - أي شُدُّوا الرَّحْلَ لهما على البَعير. منه.