دعاءُ أربابِ الهِمَمِ العالية

دعاءُ أربابِ الهِمَمِ العالية
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
قال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ:
"ومِن أجمع الأدعية وأنفعها: دعاءُ أربابِ الهِمم العالية، الذين جَمع اللهُ لهم بين خَيري الدنيا والآخرة. قال تعالى:
﴿وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾ [البقرة].
فصدَّروا دعاءهم بقولهم: ﴿رَبَّنَا﴾، وذلك متضمنٌ لِاستحضارهم معنى:
تربيةِ اللهِ العامة، وهو الخَلقُ والتدبير، وإيصالُ ما به تستقيم الأبدان.
والتربيةِ الخاصة لخيار خَلقه، الذين ربَّاهم بِلُطفه وأصلح لهم دينَهم ودنياهم، وتولَّاهم فأخرجهم مِن الظلمات إلى النور.
وهذا متضمنٌ لِافتقارهم إلى ربهم، وأنهم لا يقدرون على تربية نفوسهم من كل وجه، فليس لهم غير ربهم يتولاهم ويصلح أمورهم، ولهذا كانت أغلبُ أدعية القرآن مصدَّرةً بالتوسُّل إلى الله بربوبيته؛ لأنها أعظمُ الوسائل على الإطلاق التي تحصل بها المحبوباتُ وتندفع بها المكروهاتُ.
وحَسَنةُ الدنيا: اسمٌ جامعٌ للعلم النافع والعمل الصالح، وراحة القلب والجسم، والرزق الحلال الطيب، من كل مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومنكحٍ ومسكنٍ، ونحوِها، فهي اسمٌ جامعٌ لحُسن الأحوال، وسلامتِها مِن كل نقص.
وأما حَسَنةُ الآخرة: فهي كل ما أعدَّه اللهُ لأوليائه في دار كرامته، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشر.
ولما كانت حسنةُ الدنيا والآخرة تمامُها وكمالُها الحفظَ مِن عذاب النار، والحفظَ من أسبابه -وهو الذنوب والمعاصي-؛ قالوا: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
فاشتمل هذا الدعاءُ على كلِّ خيرٍ ومطلوبٍ محمود، ودفعِ كلِّ شرٍ وعذاب، ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بهذا الدعاء كثيرًا[1]" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص124 و 125، ط 1428ﻫ، دار المعالي).
دعاءُ النقلِ مِن عافيةٍ إلى عافية
قال الوزير ابن هبيرة رَحِمَهُ اللهُ:
"في هذا الحديث مِن الفقه: هو أنّ هذه الكلماتِ جامعةٌ لخير الدنيا والآخرة؛ لأنه إذا طَلَبَ في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة؛ فقد طَلَب الحسنين في الدنيا والآخرة.
و﴿حَسَنةً﴾ صفةٌ لِموصوفٍ محذوف، وفي حذفِه فوائدُ:
وهي أنّ كلَّ مطلوبٍ مِن النعمةِ والقربةِ والحياةِ والعافيةِ والنُّصرةِ والبركةِ والكفايةِ والإصابة وغير ذلك -يجوز أن يكون في الموصوف، فلما حَذَفَ الموصوفَ وذَكَرَ الصفة؛ جاز أن ينصرف ذلك إلى ذلك كلِّه!
وقولُه: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ دعاءُ عارِفٍ أن أقلَّ قليلٍ مِن آلاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في الدنيا والآخرة لا يَقوم له العبد، فمَن طلب أن يؤتيَه اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً؛ فقد طَلَبَ أن يَنقله مِن عافيةٍ إلى عافية، ويُقّلِّبُه مِن نعمةٍ إلى نعمة، فلم يَبق في ذلك ما يُخاف على هذا العبد إلا ما عساه أن يتوجَّهَ إليه مِن عقوبةٍ على خطاياه. ولَمَّا كان مِن الجائز أن يَنال حسنةَ الآخرةِ بعد مسيسِ شيءٍ مِن عذابِ النار، فقال بعد السؤالَين: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، فتَمَّ له الدعاءُ وشملَهُ الاحتياطُ" اﻫ من "الإفصاح عن معاني الصحاح" (5/ 249، ط دار الوطن).

الأحد 2 رمضان 1438هـ




[1] - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا! آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». متفق عليه.