دعاءُ حَمَلةِ العرشِ ومَن حولَه مِن الملائكة المقرَّبين

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
 قال العلّامة السعديُّ رَحِمَهُ اللهُ:
ومِن ذلك: دعاءُ حَمَلةِ العرشِ ومَن حولَه مِن الملائكة المقرَّبين، حين دَعَوا للمؤمنين:
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)﴾ [غافر][1].
وهذا دعاءٌ جامع، وتوسُّلٌ نافع، فتوسَّلوا بـ:
ربوبيَّةِ اللهِ تعالى.
وسعةِ عِلمه ورحمتِه المتضمِّنِ عِلمَه بحال المؤمنين، وما خَلَقهم عليه مِن الضعف، ورحمتَه إياهم- لكونه جَعَل الإيمانَ أعظمَ وسيلةٍ تُنال بها رحمتُه-:
أن يَغفر للمؤمنين الملتزِمين للإيمان، وهم الذين تابوا مما يَكرهه الله، واتَّبَعوا سبيلَه بالتزامِ ما يحبُّه ويرضاه، فيغفرَ ذنوبَهم، ويقيَهم أشدَّ العذاب وهو عذابُ الجحيم،
وأن يُنيلَهم أعظمَ الثواب- وهو دخولُ جناتِ عدنٍ التي وَعَدَهم على ألسنةِ رسلِه- وتمامُ ذلك: أن يُقِرَّ أعينَهم باجتماعِهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم الصالحين.
ثم توسَّلوا بكمالِ عِزَّةِ اللهِ وكمالِ حِكمته؛ لأنَّ المقامَ يناسب هذا:
فمِن كمالِ عِزَّتِه واقتدارِه:
أن يحفظَهم ويَحُولَ بينهم وبين السيئات، ويَصرفَ عنهم السيئات، ويُنيلَهم أنواعَ المثوبات.
ومِن كمالِ حكمته: أنَّ الموصوفين بتلك الصفات هم أهلٌ لِأن يَغفرَ لهم ويَرحمهم، ويَدفعَ عنهم السوءَ ويُنيلَهم الأجر.
ولَمَّا دَعوا أن يَغفرَ لهم السيئاتِ التي فعلوها؛ دَعَوُا اللهَ أن يَقيَهم سيئاتِ أنفسِهم الأمَّارةِ بالسوء، بأن يُحَبِّبَ إليهمُ الإيمانَ، ويُزيِّنَه في قلوبهم، ويُكرِّهَ إليهمُ الكفرَ والفسوقَ والعصيان، ويجعلهم مِن الراشدين، وأنَّ مِن لازمِ وِقاية السيئاتِ حصولَ رحمةِ الله.
وهذا دعاءٌ عظيمٌ صادِرٌ مِن أعظمِ الخلقِ معرفةً بالله، ولذلك وَصَفَ الله مَن حَصَلتْ له هذه الأمورُ بالفوز بكلِّ مطلوب، والنجاةِ مِن كلِّ مرهوب، فقال: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾" اﻫ من "المواهب الربانية" (ص 137و138، ط3، 1428، دار المعالي).
وله -رَحِمَهُ اللهُ- كلامٌ نفيس وفوائد قيمة على هذا الدعاء العظيم، ذكره في "تيسير الكريم الرحمٰن" أنقل منه خاتمته إذ قال:
"وقد تضمَّن هذا الدعاءُ مِن الملائكة:
q كمالَ معرفتِهم بربِّهم.
q والتوسَّلَ إلى اللهِ بأسمائه الحسنى، التي يحبُّ مِن عِبادِه التوسُّلَ بها إليه.
q والدعاءَ بما يناسب ما دَعَوُا اللهَ فيه، فلما كان دعاؤهم بحصولِ الرحمة، وإزالةِ أثرِ ما اقتضتْه النفوسُ البشريةُ التي عَلِمَ اللهُ نقْصَها واقتضاءها لِمَا اقتضتْه مِن المعاصي، ونحو ذلك مِن المبادئ والأسباب التي قد أحاط الله بها علمًا؛ توسَّلوا بالرحيم العليم.
وتضمَّن:
q كمالَ أدبِهم مع الله تعالى بإقرارِهم بربوبيَّتِه لهم الربوبيةَ العامةَ والخاصة، وأنه ليس لهم مِن الأمر شيء، وإنما دعاؤهم لربهم صَدَر مِن فقيرٍ بالذات مِن جميع الوجوه، لا يُدْلِي على ربِّه بحالةٍ مِن الأحوال، إنْ هو إلا فضلُ الله وكرمُه وإحسانُه.
وتضمَّن:
q موافقتَهم لربِّهم تمامَ الموافَقة، بمحبةِ ما يحبُّه:
مِن الأعمال التي هي العباداتُ التي قاموا بها، واجتهدوا اجتهادَ المحبِّين.
ومِن العُمَّال الذين هم المؤمنون الذين يحبُّهم اللهُ تعالى مِن بين خَلقه، فسائر الخلق المكلَّفين يبغضهم اللهُ إلا المؤمنين منهم، فمِن محبةِ الملائكةِ لهم دَعَوا الله، واجتهدوا في صلاح أحوالهم؛ لأن الدعاء للشخص مِن أدل الدلائل على محبته؛ لأنه لا يدعو إلا لمن يحبه.
وتضمَّن ما شرحه اللهُ وفصَّله مِن دعائهم بعد قوله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾:
q التنبيهَ اللطيفَ على كيفية تدبُّرِ كتابه، وأن لا يكون المتدبِّر مُقتصرًا على مجردِ معنى اللفظ بمفردِه، بل ينبغي له أن يتدبَّر معنى اللفظ، فإذا فهمه فهمًا صحيحًا على وجهه؛ نظر بعقله إلى ذلك الأمر والطُّرق الموصلةِ إليه وما لا يتمُّ إلا به وما يتوقَّف عليه، وجزم بأنَّ الله أراده، كما يجزم أنه أراد المعنى الخاصَّ الدالَّ عليه اللفظ.
والذي يوجب له الجزمَ بأنَّ اللهَ أراده: أمران:
أحدهما: معرفته وجزمه بأنه مِن توابع المعنى والمتوقِّف عليه.
والثاني: عِلمُه بأنَّ الله بكل شيء عليم، وأنَّ الله أمرَ عِباده بالتدبُّر والتفكُّر في كتابه.
وقد عَلِمَ تعالى ما يَلزم مِن تلك المعاني. وهو المخبِر بأنَّ كتابَه هدًى ونورٌ وتبيانٌ لكلِّ شيء، وأنه أفصحُ الكلامِ وأجلُّه إيضاحًا، فبذلك يحصُل للعبدِ مِن العلم العظيم والخير الكثير، بحسَبِ ما وفَّقه اللهُ له، وقد كان في تفسيرنا هذا كثير مِن هذا مَنَّ به اللهُ علينا. وقد يَخفى في بعض الآيات مأخذُه على غير المتأمِّل صحيحِ الفكرة.
ونسأله تعالى أن يفتح علينا مِن خزائن رحمته ما يكون سببًا لِصلاح أحوالنا وأحوال المسلمين، فليس لنا إلا التعلُّق بكَرمه، والتوسُّل بإحسانه، الذي لا نزال نتقلَّب فيه في كل الآنات، وفي جميع اللحظات، ونسأله مِن فضله أن يَقيَنا شرَّ أنفسِنا المانعَ والمعوِّقَ لوصول رحمته، إنه الكريم الوهاب، الذي تفضَّل بالأسباب ومسبباتها.
وتضمَّن ذلك:
q أنَّ المقارِن مِن زوجٍ وولدٍ وصاحِبٍ، يَسْعَد بِقَرِينِه، ويكون اتصالُه به سببًا لخيرٍ يحصل له خارجٍ عن عمله وسببِ عمله، كما كانت الملائكة تدعو للمؤمنين ولمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وقد يقال: إنه لا بد من وجود صلاحهم لقوله: ﴿وَمَنْ صَلَحَ﴾، فحينئذ يكون ذلك مِن نتيجة عملِهم، والله أعلم" اﻫ من "تيسير الكريم الرحمٰن" (ص733، ط1، 1421هـ، مؤسسة الرسالة).

الأربعاء 10 ذو القعدة 1438



[1] - الآيةُ الأولى مع مَطلعها: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)﴾.