الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيةُ مِن مَراتِبِ الدِّينِ - مِن "حاشية ثلاثة الأصول" -


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

58- ما هي الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيةُ مِن مَراتِبِ الدِّينِ؟
وما تَعْريفُها؟
وما الفَرْقُ بَيْنها وبين المرتبةِ الأُوْلَىٰ؟

البيان

قال شيخ الإسلام الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإيْمَانُ).
قال العلامةُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"قَدَّمَ الْمَرْتَبَةَ الأُولَىٰ، وَهِي الإسْلامُ، وَثَنَّىٰ بِمَرْتَبَةِ الإيمانِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ مَرْتَبَةِ الإسْلامِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهَا.
وَأَهْلُهُ هُمْ خَوَاصُّ أَهْلِ الإِسْلامِ، وَأَهْلُ الإسْلامِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ: {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوٓا۟ أَسْلَمْنَا} (الحُجُرات: مِن الآية 14).
فَإِنَّ مَنْ حَكَمَتْ لَهُ النُّصُوصُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ عَلَىٰ كُلِّ حَالٍ.
فَإِنَّ الإيمانَ وَصْفٌ أَعَلَىٰ مِنْ وَصْفِ الإسْلامِ؛ لأَنَّه مُشْتَقٌّ مِنَ الأَمْنِ، فَهُوَ مِنَ الأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّذِي يُؤْتَمَنْ عَلَيهِ، وَيَكُونُ خِفْيَةً.
والإسْلامُ مِنَ الأُمُورِ الْمُدْرَكَةِ الْمَحْسُوسَةِ فِي الظَّاهِرِ، مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْلِيمِ، أَوِ الْمُسَالَمَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإذا أُطْلِقَ الإيْمانُ فِي النُّصُوصِ؛ دَخَلَ فِيه الإسْلامُ، وَإذا أُطْلِقَ الإسْلامُ؛ لَمْ يَدْخُلْ فِيه الإيْمانُ[1].
وَمِنْ أُثْبِتَ لَهُ الإيْمانُ فِي النُّصُوصِ فَإِنَّه ثَابِتٌ لَهُ الإسْلامُ.
وَالْمُسْلِمُ لابُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيْمانٌ يُصَحِّحُ إسْلامَهُ، وَإلا كَانَ مُنَافِقًا، وَلٰكِنْ لا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُمْدَحَ بِهِ وَيُثْنَىٰ عَلَيْهِ، بَلْ إيْمانُهُ نَاقِصٌ، وَيَأْتِي تَمْثيلُهُ.
والإيْمانُ الشَّرْعِيُّ:
قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجوارحِ، وَيَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقَصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
فَدَخَلَ فِيه جَمِيعُ الْمَأْمُوراتِ، سَواءٌ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ.
وَدَخَلَ فِيه تَرْكُ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، سَواءَ كَانَ ذٰلِكَ الْمَنْهِيُّ يُنَافِي أُصُولَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ لا؛ فَإِنَّ تَعْرِيفَهُ الْمَذْكُورَ يَشْمَلُ ذٰلِكَ.
فَمَا مِنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الطَّاعَاتِ إلا وَهِيَ مِنَ الإيْمانِ، وَلا تَرْكِ مُحَرَّمٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إلا وَهُوَ مِنَ الإيْمانِ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 82 و83.


[1] - أُراه يعني المطْلَقَ الكاملَ، كما سيتّضح مِن عباراتٍ تاليةٍ هنا وفي خاتمةِ كلامِه -رَحِمَهُ اللهُ- عنِ المراتب.
والقاعدةُ التي تنضبط بها هٰذه المسألةُ وتجتمع بها النصوصُ: أنّ الإسلامَ والإيمانَ مِن الألفاظ التي إذا اجتمَعَتِ افْتَرَقَتْ، وإذا افْتَرَقَتِ اجْتَمَعَتْ، فإذا أُفْرِدَ الإسلامُ؛ فإنَّه يَدْخُلُ فيه الإيمانُ، ومِن أدلّةِ ذٰلك: الأمرُ العظيم: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: من الآية 102)، ودعاءُ يوسفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {تَوَفَّنِى مُسْلِمًۭا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (يوسف: من الآية 101)، وقولُه جَلَّ جَلالُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلَامُ} (آل عمران : من الآية 19)، فلا شك أنّ الإسلام هنا يَدخُل فيه الإيمان. يُنظر "تفسير القرآن الكريم"/ سورة آل عمران، لفضيلة الشيخ العثيمين (1/ 588 و589، ط 1، رمضان 1426 ﻫ، دار ابن الجوزي).
ووَفْقَ قاعدةِ الاجتماع والافتراق؛ قال الإمامُ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ- في شرحِ هٰذا الموضع مِن "ثلاثة الأصول":
"الإيمان: هو ما يتعلَّق بالقلوب، مِنَ التَّصديقِ بِالله, وأنه ربُّ العالَمين، وأنه هو المستَحِقُّ لِلعِبادة، والتصديقِ بالملائكةِ وبالكُتبِ وبالرُّسلِ، وبالبعثِ بَعْدَ الموتِ والجنةِ والنارِ، وبالقَدَرِ خيرِهِ وشَرِّهِ، كلُّ هٰذا يتعلَّق بالقلوب.
فهو أصْلٌ مِنَ الأصولِ التي لا بُدَّ منها؛ فلا إسلامَ إلا بإيمانٍ، ولا إيمانَ إلا بإسلام، فلا بُدَّ مِن هٰذا وهٰذا:
لا بُدَّ مِن إسلامِ الجوارح.
ولا بُدَّ مِن إسلامِ القلوبِ وإيمانِها.
ولِهٰذا جَمَع اللهُ بين الأمْرَينِ في كتابِه العظيم، وهٰكذا الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَهُما جميعًا.
فالإسلامُ هو الانقيادُ الظاهِرُ بِطاعةِ اللهِ وتَرْكِ مَعْصيتِه.
والإيمانُ يَشْمَل الأعمالَ الباطِنةَ مما يتعلَّقُ بالقلوبِ وتصْديقِها.
ويُطْلَقُ الإسلامُ على الإيمانِ، ويُطْلَقُ الإيمانُ على الإسلامِ.
فإذا قيل: الإيمان؛ عَمَّ الجميعَ.
وإذا قيل: الإسلام؛ عَمَّ الجميعَ، قال تَعَالَىٰ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ} (آل عمران: 19)، فيَعُمُّ ما يتعلَّق بالباطن والظاهر.
وهٰكذا الإيمانُ؛ إذا أُطِْلقَ عَمَّ الجميعَ؛ لِقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيح: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، [فَـ]أَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلٰهَ إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَىٰ عَنِ الطَّرِيقِ»، فالإيمان هنا يَعُمُّ الجميعَ، فيَعُمُّ أرْكانَ الإسلامِ، ويَعُمُّ جميعَ الأعمالِ الظاهرة، كما يَعُمُّ الباطنة، كما أنه يَشمل الإحسانَ" اﻫ مِن "شرح ثلاثة الأصول" لسماحة الشيخ ابن باز (ص 64 و65، ط 1 ، 1418 ﻫ، دار المسير- بواسطة الشاملة).
الخميس 4 ربيع الآخر 1434 ﻫ.