التعريفُ النّبويُّ للإحسان -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

69- كم رُكْنًا لِلإحْسَان؟
وكَم دَرَجةً؟
بَيِّنِي؛ شَارِحَةً التَّعْرِيْفَ النَّبَوِيَّ[1] لِلإحْسَان.

البيان
قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ:
(الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ.
رُكْنٌ وَاحِدٌ*.
وهُوَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ**، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ***» ).
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"* أَيْ: شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أَرْكَانًا كَمَا ذَكَرَ لِلإِسْلامِ وَالإِيْمَانِ.
** أَيْ: الإحْسَانُ هُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللهِ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ؛ كَالْصَّلاةِ، أَوِ الْمَالِيَّةَ؛ كَالْذِّبْحِ، كَأَنَّكَ تُشَاهِدُ مَعْبُودَكَ الَّذِي قُمْتَ بَيْنَ يَدِيْهِ، وَقَرَّبْتَ لَهُ الْقُرْبَانَ، وَأَطَعْتَهُ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا انْكَشَفَتِ الْحَقِيْقَةُ لِلْقَلْبِ، وَبَلَغَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ إِلَىٰ حَدٍّ كَأَنَّهُ يُطَالِعُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَلاَلِ، وَأَحَسَّتِ الرُّوْحُ بِالْقُرْبِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ كَقُرْبِ الْمَحْسُوسِ مِنَ الْمَحْسُوسِ، حَتَّىٰ شَاهَدَ رَفْعَ الْحِجَابِ بَيْنَ روحِهِ وَقلْبِهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ أَفْضَى الْقَلْبُ وَالرُّوحُ حِيْنَئِذٍ إِلَى الرَّبِّ، فَصَارَ يَعْبُدُهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ[2].
*** أَيْ وَإِنْ لَمْ تَعْبُدْهُ عَلَى اسْتِحْضَارِ الدَّرَجَةِ الأُوْلَىٰ -دَرَجَةِ الْمُرَاقَبَةِ-؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَرَاكَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بَصِيْرٌ، مُطَّلِعٌ عَلَىٰ جَمِيعِ خَفِيَّاتِكَ.
فَهَاتَانِ دَرَجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَكْمَلُ مِنَ الأُخْرَىٰ. فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ عَلَىٰ عِبَادَةِ اللَّهِ كَأَنَّكَ تُشَاهِدُهُ؛ فَاعْبُدْهُ عَلَىٰ مَرْأًى مِنَ اللهِ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لِجَمِيعِ مَا تَفْعَلُهُ" اﻫ من "حاشية ثلاثة الأصول" ص90 و91.
مَزِيدُ بَيَانٍ
قال الإمام العثيمين رَحِمَهُ اللهُ:
"فبيَّن النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنَّ الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، يعني:
تُصَلِّي وكأنَّكَ تَرى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

وتُزكِّي وكأنَّكَ تراه.

وتصوم وكأنَّكَ تراه.

وتَحجّ وكأنَّكَ تراه.

تتوضأ وكأنَّكَ تراه.

وهٰكذا بقيَّة الأعمال.
وكونُ الإنسانِ يَعبد اللهَ كأنه يَراه دليلٌ:
على الإخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ.
وعلىٰ إتقانِ العمل في مُتابعةِ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لأنَّ كلَّ مَن عَبَدَ اللهَ علىٰ هٰذا الوصف فلا بد أن يَقع في قلبه مِن مَحبَّةِ اللهِ وتعظيمِه ما يَحملُه علىٰ إتقانِ العمل وإحكامه.
«فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» أي: فإن لم تَعبد اللهَ علىٰ هٰذا الوصف؛ فاعبُدْهُ علىٰ سبيلِ المراقبة والخوف «فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
ومعلومٌ أنَّ عبادةَ اللهِ علىٰ وجْه الطَّلَبِ أكملُ مِن عِبادته علىٰ وجْه الهرَب! فها هنا مرتبتان:
المرتبة الأولىٰ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، وهٰذه مرتبةُ الطَّلَب.
والثانية: أن تَعْبد اللهَ وأنتَ تَعْلم أنه يَراك، وهٰذه مرتبةُ الهرَب.
وكلتاهما مرتبتان عظيمتان، لٰكنَّ الأُولىٰ أكملُ وأفضل" اﻫ من "شرح رياض الصالحين" (1/ 480 و481، ط 1426، مدار الوطن للنشر - الرياض).
الإثنين 20 رمضان 1434


[1] - قال فضيلة العلامة الشيخ عبيد الجابري حَفِظَهُ اللهُ:
"هٰذا تعريفٌ نبويٌّ مِن مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا مجال لأحد حتىٰ يتصرف فيه أو يقول نحفظه أو نعبِّر عنه بالمعنىٰ أو باللفظ، جملتان: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، لا تَخفىٰ عليه منك حركةٌ ولا سَكَنة. والأدلةُ عليه مِن الكتاب الكريم كثيرةٌ" اﻫ مِن "إتحاف العقول بشرح الثلاثة الأصول" ص 123، ط 1، 1426ﻫ، دار المدينة النبوية).
[2] - مِن جُملةِ "وَبَلَغَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ" إلىٰ هنا؛ هو كلامُ الإمامِ ابنِ القيِّم -رَحِمَهُ اللهُ- بشيءٍ مِن الاختصار، ينظر "مدارج السالكين" (4/ 65، ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).