تفسيرٌ موجَزٌ لقوله تعالىٰ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-



نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

103- فسِّري آيةَ ﴿لا إكراه في الدِّين﴾ بإيجاز، مع بيانِ دلالتها علىٰ:
(لا إلٰه إلا الله).

البيان
الحمدُ للهِ وَحْده، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ مَن لا نبيَّ بَعْدَه.
أمّا بعد:
قال الإمامُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّاب -رَحِمَهُ اللهُ- بعد بيانه فريضةَ الكُفرِ بالطاغوت:
(وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(1) قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(2) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّٰهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ(3) لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) (البقرة).
وَهَٰذَا هُوَ مَعْنَىٰ (لَا إلٰهَ إِلَّا اللهُ)(4) ).
_____________
قال الشيخُ العلَّامةُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
 "(1) "أَي: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّه بَيِّنٌ وَاضِحٌ جَلِيٌّ دَلائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ، لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، فَمَنْ هَدَاهُ اللهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ؛ دَخَلَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمى اللهُ قَلْبَهُ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا"[1].
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَدَدٍ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ أَرَادُوا اسْتِرْدَادَهُمْ لَمَّا أُجْلِيْتْ بَنَوْ النَّضِيرِ[2].
وَقِيلَ: كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ[3].
قَالَ الشَّيْخُ[4]:
"شُرِعَ الْجِهَادُ عَلَىٰ مَرَاتِبَ:
فَأَوَّلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ الْإِذْنَ فِيهِ بِقَولِهِ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (الحج: مِن الآية 39).
ثُمَّ نَزَلَ وُجُوبُهُ بِقَولِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ الآية (البقرة: من الآية 216)، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِقِتَالِ مَنْ سَالَمَهُمْ، وَكَذَا مَنْ هَادَنَهُمْ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ فِي (بَراءَةٌ) الْأَمْرَ بِنَبْذِ الْعَهْدِ وَقِتَالِ الْمُشْرِكِيْنَ كَافَّةً، وَبِقِتالِ أَهْل الْكِتَابِ[5] إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يُبِحْ تَرْكَ قِتَالِهِمْ وَإِنْ سَالَمُوهُمْ وَهَادَنُوهُمْ هُدْنَةً مُطْلَقَةً مَعَ إِمْكَانِ جِهَادِهِمْ"[6].
وَقَالَ ابْنُ الْقِيِّمِ:
"كَانَ مُحَرَّمًا.
ثُمَّ مَأْذُونًا فِيهِ.
ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَنْ بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ.
ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِجَمِيع الْمُشْرِكِيْنَ"[7].
قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (التَّوْبة: مِن الآية 5)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ»[8].
(2) أَي: ظَهَرَ وَتَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْإِيْمَانُ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْهُدَىٰ مِنَ الضَّلَالِ؛ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَىٰ ذَٰلِكَ.
(3) أَي: تَمَسَّكَ بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ (الْعُرْوَةُ الْوُثْقَىٰ)، وَاسْتَمْسَكَ بِالشَّيْءِ وَتَمَسَّكَ بِهِ وَأَمْسَكَ: أَخَذَ بِهِ، وَتَعَلَّقَ وَاسْتَعْصَمَ.
وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى: الْقَوِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ وَلَا تَنْفَصِمُ.
فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْحِيدِ -دِيْنِ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ، الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ دِيْنًا سِوَاهُ-؛ وَصَلَ الْجَنَّةَ بِكُلِّ حالٍ.
(4) فَإِنَّ مَعْنىٰ (لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ): كُفْرٌ بِالطَّاغُوتِ، وَإِيْمَانٌ بِاللهِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ[9]" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 133 – 136.

في مطابَقةِ (لا إلٰه إلا الله) لِآيةِ الترجمة
قال العلامة الشيخ محمد أمان الجامي رَحِمَهُ اللهُ:
"(﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّٰهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا﴾) هٰذه الآيةُ العظيمةُ حتىٰ في وَضْعِها موضوعةٌ علىٰ ترتيبِ (لا إلٰه إلَّا اللهُ) تمامًا:
لأن قولَه تعالىٰ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ يقابِل: (لا إلٰه).
وقوله تعالىٰ: ﴿وَيُؤْمِن بِاللّٰهِ يقابِل: (إلَّا الله).
مِن أَدَقِّ الآياتِ في تفسيرِ (لا إلٰه إلَّا اللهُ)؛ هٰذه الآية" اﻫ
مِن "شرح ثلاثة الأصول" له -رَحِمَهُ اللهُ- (الشريط 5، الدقيقة 1:15:13).


الجمعة 18 المحرم 1435ﻫ


[1] - قاله الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ؛ "تفسير القرآن العظيم" (1/ 682، ط2، 1420ﻫ، دار طيبة). وقال العلَّامة العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسير الآية: "هٰذه الجملة نَفْي، لٰكنْ هل هي بمعنى النهْيِ؛ أي: لا تُكرِهوا أحدًا على الدِّين. أو بمعنى النفْيِ؛ أي أنه لن يَدخل أحدٌ دِينَ الإسلام مُكرَهًا بل عنِ اختيار؛ لقولِه تعالىٰ بَعْدَ ذٰلك: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾؟ الجواب: تحتمل وَجهين" اﻫ. ثم قال في الفوائد: "مِن فوائد الآية: أنه لا يُكرَه أحدٌ على الدِّين؛ لوضوح الرُّشدِ مِن الغَيِّ؛ لقوله تعالىٰ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ؛ هٰذا على القول بأنها خبرية، أمَّا على القول بأنها إنشائية؛ فإنه يُستفاد منها أنه لا يجوز أن يُكرَه أحدٌ على الدِّين، وبَيَّنتِ السُّنَّةُ كيف نُعامِل الكُفَّار؛ وذٰلك بأنْ ندعوهم إلى الإسلام، فإنْ أبَوا فإلىٰ بَذل الجزية؛ فإنْ أبَوا قاتلناهم" اﻫ مِن "تفسير القرآن الكريم"/ سورة البقرة (3/ 264 و267، ط1، 1423ﻫ، دار ابن الجوزي)، ولأبي -رَحِمَهُ اللهُ- نحوُ هٰذا البيان في "سلسلة الهدىٰ والنُّور" (الشريط 442، الدقيقة 29:20).
[2] - روىٰ أبو داود (2682) وصحَّحه أبي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
«كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا فَتَجْعَلُ عَلَىٰ نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ﴾». قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْمِقْلَاتُ: الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ.
[3] - تُنظر هٰذه الأقوال وغيرها في "فتح القدير" للعلامة الشوكاني رَحِمَهُ اللهُ.
[4] - هو شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ.
[5] - وثمة قول آخر لِأهل العلم واختاره هو رَحِمَهُ اللهُ -أعني شيخَ الإسلام- والوالدُ رَحِمَهُ اللهُ؛ أنَّ الجزية تُقبل مِن جميع الكفار دون فرقٍ بين أهلِ الكتاب وغيرِهم، ينظر "منهاج السُّنَّة النبوية" للإمام ابن تيمية (5/ 179، ط1، 1406ﻫ، جامعة الإمام سعود)، و"الإرواء" (5/ 85 و86، ط1، 1399ﻫ، المكتب الإسلامي).
[6] - "الجواب الصحيح لمن بدَّل دِينَ المسيح" (1/ 233 و234، ط2، 1419ﻫ، دار العاصمة - الرياض)، وقد نقله المؤلف باختصارٍ وتصرُّف يسير.
[7] - في "زاد المعاد" (3/ 64، ط 3، 1418ﻫ، مؤسسة الرسالة).
[8] - مِن حديث بُرَيدة بن الحُصَيب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ "صحيح مسلم" (1731).