منهجُ الأنبياء في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ -من "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)


101- ما هو منهجُ الأنبياء في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ؟

البيان
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىٰ آلِهِ وأصْحابِه وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسانٍ إِلىٰ يومِ الدِّينِ. أمّا بعد:
قال الإمامُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ(1)؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ(2) (النساء: من الآية 165).
وَأَّولُهُمْ: نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ(3).
وَآخِرُهُمْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(4).
وَالدَّلِيلُ عَلَىٰ أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ(5) (النساء: من الآية 165)
وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولًا مِنْ نُوحٍ إِلَىٰ مُحَمَّدٍ(6)، يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ(7).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّٰهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ(8) (النَّحل: من الآية 36)).
_____________
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"(1) أَي: أَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ: نَوْحٍ عَلَيهِ السَّلَامُ، إِلَىٰ آخِرِهِمْ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ:
يَدْعُونَ إِلَىٰ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
مُبَشِّرَيْنِ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَىٰ مَا دَعَوْا إِلَيهِ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرامَتِهِ.
وَمُنْذِرَيْنَ مُحَذِّرِيْنَ مَنْ عَصَاهُمْ غَضَبَ اللهِ وَسَخَطَهُ وَعِقَابَهُ.
(2) فَلَا يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا أَرْسَلْتَ إِلَينَا رَسُولًا، مَا أَنْزَلْتَ إِلَينَا كِتَابًا، فَانْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَتَبْيِيْنِ الْحَقِّ لَهُمْ، وَرَكْزِ الْفِطَرِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَانْقَطَعَتِ الْمَعْذِرَةُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ.
(3) كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا حَدَثَ الشِّرْكُ بِسَبَبِ الْغُلُوِّ فِي الصَّالِحِينَ؛ أُرْسِلَ إِلَيهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَىٰ أَهْلِ الْأَرْضِ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِيْنَ.
(4) وَهُوَ آخِرُ الرُّسُلِ إِلَىٰ أَهْلِ الْأَرْضِ، بِالْكُتَّابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّيْنَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَـٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ (الأحزاب: مِن الآية 40).
وَثَبَتَ عَنْه مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَىٰ ذَٰلِكَ، وَاشْتَهَرَ كَذِبُ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَهُ، وَأَخْبَرَ بِذَٰلِكَ أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ[1]، وَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعِيْسى ابْنُ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مِنْ أُمَّتِهِ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِيْنَ.
(5) أَي: مِنْ بَعْدَ نُوْحٍ، فَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ وَأَوَّلُ نَذِيرٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَقولُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيكَ، بِنَاءً عَلَىٰ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ (النَّساء: مِن الآية 153)، ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللّٰهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام: مِن الآية 91)، فَقَالَ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ (الأنعام: مِن الآية 91)، وَقَالَ: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (النَّساء: مِن الآية 163)، وَذَكَرَ عِدَّةً مِنَ الرُّسُلِ، أَي: فَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ كَمَا أَنْزَلَ عَلَيهِمْ... إِلَىٰ أَنْ قَالَ: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (النَّساء: مِن الآية 165).
وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ! كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ:
«مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا». قُلْتُ: كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ:
«ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ»[2].
فَأَقَامَ تَعَالَى الْحُجَّةَ، وَقَطَعَ الْمَعَاذِيرَ، بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ.
(6) فَنُوْحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَىٰ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَا طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ؛ إلَّا وَقَدْ بَعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولًا؛ إِقَامَةً مِنْهُ تَعَالَىٰ لِلْحُجَّةِ عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَإِيْضَاحًا لِلْمَحَجَّةِ، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: مِن الآية 15).
وَلَمَّا كَانَتِ الرُّسُلُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ؛ قَيَّضَ اللهُ لِهَٰذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةَ هُدًى، حَفِظَ اللهُ بِهِمْ دِيْنَهُ، وَأَقَامَ بِهِمُ الْحُجَّةَ عَلَىٰ عِبَادِهِ، وَلَا تَزَالُ إِلَىٰ قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، إِلَىٰ قِيَامِ السَّاعَةِ»[3].
(7) يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ هَٰذَا الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَدَعْوَتُهُمْ كُلِّهُمْ إِلَىٰ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَزُبْدَةُ جَمِيعِ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ؛ فَفُرُوعٌ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا إلَّا بَعْدَ وَجُودِ التَّوْحِيدِ، وَلَا تُقْبَلُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيهَا إلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ دِينُ الرُّسُلِ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ، وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ الْخَلِيقَةُ، وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَخُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ.
(8) وَمِثْلُ هَٰذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّه لَا إِلَـٰهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) (الأنبياء)، وَغَيْرُ ذَٰلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَىٰ عِظَمِ التَّوْحِيدِ.
وَكِلَا الآيتين فِيهِمَا الْعُمُومُ الْوَاضِحُ: أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَوْمَهُمْ هُوَ التَّوْحِيدُ.
وأيضًا فِي أَفْرَادِ الرُّسُلُ جَاءَتِ الْآيَاتُ: كَمَا قَالَ عَنْ نُوْحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلَوْطٍ وشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ؛ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأُوا بِهِ قَوْمَهُمْ:
﴿أَنِ اُعْبُدُوا اللّٰهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ (المؤمنون: مِن الآية 32).
فَهَٰذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ، وَزُبْدَةُ الرِّسَالَةِ.
وَبِهِ تَعْرِفُ عَظَمَةَ شَأْنِ التَّوْحِيدِ.
وَمَعْرِفَتُكَ عَظَمَتَهُ بِأَنْ:
تَصْرِفَ هِمَّتَكَ إِلَيْهِ، وَإِلَىٰ مَعْرِفَتِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ غَايَةَ جُهْدِكَ، وَإِلَىٰ مَعْرِفَةِ مَا يُضَادُّهُ، وَمَا سِواه مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْفُرُوعِيَّةِ: بَعْدَ ذَٰلِكَ، فَيَهْتَمُّ الْإِنْسَانُ غَايَةَ الْاِهْتِمَامِ بِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الدَّيْنِ إِجْمَالًا قَبْلَ الْوَاجِبِ مِنَ الْفُرُوعِ؛ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَٰلِكَ، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةَ قَبْلَ الْأَصْلِ، فَلَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْلِ الدِّيْنِ إِجْمَالًا، ثُمَّ مَعْرِفَةِ فُرُوعِهِ تَفْصِيلًا.
وَفِي حَديثِ مُعَاذٍ لَمَّا بَعْثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ:
«إِنَّكَ تَأْتِي قَومًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ لِذَٰلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»[4]، وَهَٰذَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا التَّوْحِيدَ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَلَا يَدْعُوهُمْ لِلصَّلَاةِ إِنْ لَمْ يُطِيعُوهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْفَعُ وَلَا غَيْرُهَا بِدونِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ بِنَاءٌ عَلَىٰ غَيْرِ أَسَاسٍ، وَلَا فَرْعٌ عَلَىٰ غَيْرِ أَصْلٍ، وَالْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَالصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَتْ هِي عَمُودُ الْإِسْلَامِ؛ فَمَعَ ذَٰلِكَ لَمْ تُفْرَضْ إلَّا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ بِنَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ[5].
وَمِمَّا يُبِيِّنُ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ: كَوْنُهُ يُوجَدُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَوْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَةً وَاحِدَةٍ, وَذَٰلِكَ إِذَا اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ وَعَمِلَ بِهِ وَمَاتَ مُتَمَسِّكًا بِهِ، كَأَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، أَوْ يَمُوتَ.
وَالصَّلَاةُ لَا تَنْفَعُ وَحْدَهَا، وَلَوْ صَلَّىٰ وَزَكَّىٰ وَصَامَ، إِذَا لَمْ يَعْتَقِدِ التَّوْحِيدَ.
وَبِذَٰلِكَ يُعْرَفُ عِظَمُ شَأْنِ التَّوْحِيدِ، وَمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ إلَّا بِتَرْكِ الْعِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَمَا دَخَلَ الشَّيْطَانُ عَلَىٰ مَنْ دَخَلَ، وَلَا مَزَّقَ عُقُولَ مَنْ مَزَّقَ, وَلَا وَقَعَ مَنْ وَقَعَ؛ إِلَّا مِنْ آفَةِ قَوْلِهِمْ: يَكْفِي النُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ، وَمُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ، حَتَّىٰ أَنَّ مِنْ عُلَمَائِهِمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ التَّوْحِيدَ أَصْلًا؛ وَذَٰلِكَ لِأَنَّهُمُ ابْتُلُوْا بِالشِّرِكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَثْرَةِ الشُّبَهَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَبِذَٰلِكَ خَفِيَ التَّوْحِيدُ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْعَلْمَ؛ لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَإلَّا؛ فَمَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ مِنْ أَهَوْنِ مَا يَكُونُ وَأَسْهَلِهِ إِجْمَالًا، كَمَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ التَّوْحِيدَ وَالشِّرْكَ، فَمَنْ قَالَ: (لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ)؛ يَتْرُكُ الشِّرْكَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ مُنَافٍ لِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَلِهَٰذَا لَمَّا دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ:
«قُوْلُوا: لَا إِلٰهَ إلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا»[6]؛ قَالُوا:
﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ۤ: 5).
وَأَمَّا حِينَ كَثُرَتِ الشُّبَهَاتُ؛ صَعُبَ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ضِدِّهِ، وَكَثُرَ النِّفَاقُ، وَصَارَ الْكَثِيرُ يَقُولُهَا وَيَعْبُدُ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ، فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 128 - 133 .
____________
~~~ توكيدٌ وتجديد~~~
قال العلَّامة الشيخ ربيع المدخلي -حَفِظَهُ اللهُ- في كتابه الفريد المفيد "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمةُ والعقل":
"وقد حدّد اللهُ غاياتِهم وبَيَّن دعواتهم فقال:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّٰهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (النَّحل: من الآية 36). وقال تعالىٰ:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) (الأنبياء).
وقال تعالىٰ:
﴿رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) (النساء).
فهٰذه مهمَّتُهم، وهٰذه غايتُهم:
دعوةٌ إلىٰ توحيدِ الله.
وتحذيرٌ مِن الشرك والمعاصي.
وتبشيرُ المؤمنين.
وإنذارُ الكافرين المعاندين.
وقد أدَّوا واجبَهم، ووصلوا جميعًا إلىٰ منازلِ الفلاح والنّجاح، ونَصَرهم اللهُ علىٰ أعدائهم في الدنيا، وينصرهم غدًا يوم يَقوم الأشهاد، والكافرون -بهٰذه المقاييس الصحيحة- هم الفاشلون الأخْسَرون المغلوبون في الدنيا والآخرة.
قال تعالىٰ:
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) (الصافَّات).
وقال تعالىٰ:
﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) (المجادلة)" اﻫ مِن "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله" ضمن "مجموع كتب ورسائل وفتاوى فضيلة الشيخ العلّامة ربيع بن هادي المدخلي" (1/ 353، ط1، 1431ﻫ، دار الإمام أحمد).
وقد ذكر -حَفِظَهُ اللهُ- أَوْجُهَ كونِ بدءِ جميعِ الأنبياءِ بإصلاحِ الجانبِ العَقَديِّ ومحاربةِ الشركِ ومظاهرِه- هو مُقتضى الحكمةِ والعقل، أَنقلها باختصارٍ؛ تشويقًا لقِراءتها مِن مَنبَعِها:
"أولًا: أنّ المفاسدَ المتعلِّقةَ بعقائدِ الناس مِن الشرك والخرافات وأنواع الضلال- أخطرُ آلافَ المرَّات مِن المفاسدِ المترتِّبةِ علىٰ فسادِ الحُكْم وغيرِه، فإنْ لم نَقُلْ هٰذا ونَعتقدْه؛ سَفَّهْنا مِن حيث لا نَشعر جميعَ الأنبياء! ونَعوذ باللهِ مِن الضَّلال.
ثانيًا: إنَّ اللهَ ما أَرسل الرسلَ إلَّا ليُعَلِّموا الناسَ الخيرَ، ويُنذروهم بطْشَ اللهِ والشر.
قال الله تعالىٰ:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (البقرة: من الآية 213).
وقال تعالىٰ:
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (الأنعام: 48).....
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ»[7].
وقال تعالىٰ:
﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: من الآية 35).
وقال تعالىٰ:
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النور: من الآية 54).
وهٰذه -مهمَّةُ الإنذارِ والتبشيرِ والإبلاغِ- مهمَّةٌ جليلةٌ عظيمة نبيلة، يكفيها عَظَمةً ونُبلًا أنَّها مهمَّةُ الأنبياءِ وتتناسب مع مكانتهم الرفيعة؛ فإنها أَشَقُّ وأَعظم ما يتحمَّله البَشَرُ ووَرَثَتُهم مِن الدعاةِ الصادقين المخلصين السائرين في مناهجهم، ولهٰذا قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ»[8].
ثالثًا: أنّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ لم يُكلِّفْهم ابتداءً -كما في سِيَرِهِم وقصصِهم- بإقامةِ دُوَلٍ وإسقاطِ أخرىٰ، وذٰلك في غاية الحكمة؛ لأنَّ الدعوةَ إلىٰ إقامةِ دولةٍ تَلُوح فيها المطامعُ لِطُلَّابِ الدنيا وطُلَّابِ الجاهِ والمناصبِ وأصحابِ الأغراضِ والأحقادِ وأصحابِ التطلُّعاتِ والطُّموحات، فما أَسْرع ما تستجيب هٰذه الأصنافُ لِلدَّعوةِ إلىٰ قيامِ دولةٍ يَرُون فيها تحقيقَ مآرِبهم وشهواتِهم ومطامِعِهم.
لِمِثل هٰذه الاعتبارات -واللهُ أعلم- وغيرِها مما يَعلمه اللهُ الخَلَّاقُ العليمُ الحكيمُ ابتعدَتْ دعواتُ الأنبياءِ ومناهجُهم عن استخدامِ هٰذا الشِّعار البرَّاق الملوِّح أو المصرِّح بالأطماع والشهوات العاجلة، وسَلكتْ منهجًا حكيمًا نزيهًا شريفًا ينطوي على الابتلاءِ والاختبارِ، فيتَّبعهم ويؤمن بهم كلُّ صادقٍ مخلصٍ متجرِّدٍ مِن كلِّ المطامعِ والأغراض الشخصية، لا يريد بإيمانِه وتوحيدِه وطاعةِ رسلِ اللهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا الجنةَ ومرضاةَ ربِّه، ولا يخاف إلَّا مِن غضبِه وأليمِ عقابه" اﻫ المراد باختصار مِن المصدر السابق (1/ 308 – 311).

الجمعة 11 المحرم 1435


[1] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّىٰ يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ» متفق عليه، واللفظ للإمام مسلم (157).
[2] - صحَّحه الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- لغيره؛ "موارد الظمآن" (1745)، وفيه: (مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا) بدون (أَرْبَعَةٌ). وصحَّح عددَ الرسل (ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ) لذاته؛ ينظر "الصحيحة" (6/ ق1/ 363/ 2668)، و"هداية الرواة" (5/ 254).
[3] - أَقرب لفظٍ -مِن حديث الطائفة المنصورة- إلىٰ ما ذكره -رَحِمَهُ اللهُ- هو حديثُ قُرَّةَ بنِ إِياسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّىٰ تَقُومَ السَّاعَةُ» رواه ابن حبان وغيرُه وصحَّحه أبي رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "التعليقات الحِسان" (61).
[4] - بهٰذا السياق هو مركَّبٌ مِن روايتين:
1) «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَىٰ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَىٰ، فَإِذَا عَرَفُوا ذَٰلِكَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ» "صحيح البخاري" (7372).
2) «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَىٰ شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَٰلِكَ» الحديث؛ "صحيح مسلم" (19).
[6] - رواه الإمام أحمد وغيرُه وصححه الوالد رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "التعليقات الحِسان علىٰ صحيح ابن حبّان" (6528).
[7] - متفق عليه، واللفظ للإمام البخاري (7416).
[8] - رواه الإمام الترمذي وغيره، وصححه أبي؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (143).