«مَن أحبَّ أن يُحَلِّقَ حَبيبَهُ حَلْقَةً مِن نار»

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ:
جَاءَتْ هِندُ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهَا فَتَخٌ مِنْ ذَهَبٍ -أَيْ خَوَاتِيمُ ضِخَامٌ-، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ يَدَهَا، فَدَخَلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَشْكُو إِلَيْهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَزَعَتْ فَاطِمَةُ سِلْسِلَةً فِي عُنُقِهَا مِنْ ذَهَبٍ، قَالَتْ:
هَذِهِ أَهْدَاهَا [إِلَيَّ] أَبُو حَسَنٍ.
فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسِّلْسِلَةُ فِي يَدِهَا، فَقَالَ:
«يَا فَاطِمَةُ! أَيَغُرُّكِ(1) أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي يَدِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ؟!».
ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ، فَأَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ بِالسِّلْسِلَةِ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَتْهَا، وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا غُلَامًا -وَقَالَ مَرَّةً: عَبْدًا، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا- فَأَعْتَقَتْهُ، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْجَى فَاطِمَةَ مِنَ النَّارِ».
رواه النسائي بإسناد صحيح(2).
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ(3) حَلْقَةً مِنْ نَارٍ؛ فَلْيُحَلّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ؛ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ بِسِوَارٍ مِنْ نَارٍ؛ فَلْيُسَوِّرْهُ بِسِوَارٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَلكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ؛ فَالْعَبُوا بِهَا».
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(قال الْمُمْلي) رَحِمَهُ اللهُ:
وهذه الأحاديث التي ورد فيها الوعيدُ على تَحَلّي النساء بالذَّهب يحتمل وجوهًا من التأويل:
أحدها: أن ذلك منسوخ؛ فإنه قد ثبت إباحة تَحَلِّي النساء بالذهب(4).
الثاني: أن هذا في حق مَنْ لا يؤدِّي زكاته دون من أداها، ويدل على هذا حديث عمرو بن شعيب وعائشة وأسماء(5).
وقد اختلف العلماء في ذلك، فروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه أوجب في الحلي الزكاة، وهو مذهب عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جُبَيْر، وعبد الله بن شداد، وميمون بن مهران، وابن سيرين، ومجاهد، وجابر بن زيد، والزهري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، واختاره ابن المنذر.
وممن أسقط الزكاة فيه: عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأسماء ابنة أبي بكر، وعائشة، والشعبي، والقاسم بن محمد، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة. قال ابن المنذر:
"وقد كان الشافعي قال بهذا إذْ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وقال: هذا مما أستخير اللهَ تعالى فيه".
وقال الخطابي:
الظاهرُ مِن الآياتِ يشهد لقول من أوْجَبَهَا، والأثر يؤيدها، ومن أسقطها ذهب إلى النظر، ومعه طرَف من الأثر، والاحتياط أداؤها. والله أعلم(6).
الثالث: أنه في حق مَنْ تزينت به وأظهرته(7)، ويدل لهذا ما رواه النسائي، وأبو داود عن رِبْعِي بن حِرَاش عن امرأته عن أُختٍ لحذيفة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«يَا مَعْشَرَ النِّسَاء! مَا لَكُنَّ في الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ بِهِ؟ أمَا إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأةٌ تَتَحَلىّ ذَهَبًا وَتُظْهِرُهُ إلا عُذِّبَتْ بِه».
وأُخت حذيفة اسمها فاطمة، وفي بعض طرقه عند النسائي عن رِبْعيٍّ عن امرأة عن أخت لحذيفة، وكان له أخواتٌ أدركْن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال النسائي:
"باب الكراهة للنساء في إظهار الحليِّ والذهب"، ثم صَدَّره بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمنع أهلَه الحلية والحرير، ويقول:
«إن كنتم تحبون حليةَ الجنة وحريرَها؛ فلا تلبسوهما في الدنيا».
وهذا الحديث رواه الحاكم أيضًا، وقال:
صحيح على شرطهما(8).
ثم روى النسائي في الباب حديث ثوبان المذكور، وحديث أسماء.
الرابع من الاحتمالات: أنه إنما منع منه في حديث الأسْوِرة والفَتَخَات لما رأى من غلظه؛ فإنه مظنة الفخر والخيلاء، وبقية الأحاديث محمولة على هذا.
وفي هذا الاحتمال شيء، ويدل عليه ما رواه النسائي عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نَهَى عن لُبس الذهب إلا مُقَطَّعًا»(9).
وروى أبو داود والنسائي أيضًا عن أبي قلابة عن معاوية بن أبي سفيان:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نهى عن ركوب النِّمَارِ(10)، وعن لُبس الذهب إلا مُقَطَّعًا».
وأبو قلابة لم يسمع من معاوية، لكن روى النسائي أيضًا عن قتادة عن أبي شيخ؛ أنه سمع معاوية، فذكر نحوه، وهذا متصل، وأبو شيخ ثقة مشهور.
_________
[تعليقات الوالد رَحِمَهُ اللهُ]:
(1) من (الغرور)، أي: يسرُّك هذا القولُ، فتصيري بذلك مغرورة، فتقعي في هذا الأمر القبيح بسببه؟! قاله أبو الحسن السندي.
(2) قلت: وهو كما قال، وقد سبقه وتبعه على ذلك غير ما واحد من الأئمة، ومع ذلك يأبى بعض أهل الأهواء إلا الطعن في الحديث، ويتكلَّف في اختلاق العلل له ما شاء له هواه تأييدًا منه للعامة. نسأل الله العصمة والسلامة. انظر الردّ المفصل في مقدمة "آداب الزِّفاف" (ص 17 – 30(.
(3) فعيل بمعنى مفعول، أي: محبوب، يقال في الأنثى والذكر، والمراد هنا الأول، أي: من نسائه وبناته، كما كنت شرحته في "آداب الزفاف". وقد بلغني منذ أيام أنّ بعض الفضلاء زعم أن هذا اللفظ "حبيبه" محرَّف، وصوابه: "جبينه" بالجيم! وهذا مما لا يكاد يُصدّق. فإنه لا يصدر ممن يفقه شيئًا من العربية وآدابها، مع كونه بدعًا من القول! فلعلَّ ذلك لا يصح عنه.
(4) قلت: هذا الجواب غير سديد إلا على افتراض ثبوت أن تحريم الذهب على النساء عام، وليس كذلك، فإنَّ أحاديث الباب فيها ما صح وما لم يصح، وما صح منها خاص بالذهب المحلَّق كما ترى، وهو الطوق، والسوار، والخاتم، وحينئذ فالعامُّ لا ينسخ الخاص، بل العكس هو الصواب، وهو أنَّ الخاص يخصص العامّ، والنص المخصص يسميه السلفُ ناسخًا، كما هو معروف عند العلماء. وما لم يصح من أحاديث التحريم لا حجة فيها، فهي على الإباحة العامة. وينتج منه أن الذهب[1] كله حلال على النساء إلا المحلَّق منه، وبهذا تجتمع الأحاديث، وما سوى ذلك مِن طرقِ الجمعِ والتأويلِ التي ذكرها المصنف وغيره؛ فهو ضعيف كما سترى. وتجد تفصيل هذا في كتابي "آداب الزفاف".
(5) قلت: لكن قصة بنت هُبيرة وفاطمة في حديث ثوبان (رقم 18 في الباب)، وكذا ما في حديث أبي هريرة هذا؛ مما لا يمكن حمله على ذلك؛ لأن الزكاة لم تذكر فيهما أصلًا، ولأنَّ الفضة كالذهب في إخراج الزكاة، وقد فرَّق حديثُ أبي هريرة بينهما، فحرَّم التزيُّنَ بالذهب المحلَّق، وأباح ذلك بالفضة حين قال: «وَلكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ؛ فَالْعَبُوا بِهَا». فهذا صريحٌ في أن الوعيد المذكور فيه ليس من أجل منع الزكاة، فبطل التأويلُ المذكور.
(6) "معالم السنن" (3/ 176)، والحقُّ وجوبُ الزكاة على الحلي، كما فصَّلتُه في "الآداب".
(7) قلت: هذا باطل أيضًا؛ فإنَّ حديث ربعي فرَّق أيضًا -كحديث أبي هريرة المتقدم- بين الذهب والفضة، وهما في الإظهار سواء، على أنَّ الحديث ضعيف؛ لِجهالة امرأة ربعي.
(8) قلت: ورواه غير الحاكم، (سيأتي في 18 - اللباس/ 4) إن شاء الله تعالى.
(9)  قلت: ووجه استدلال المصنف بهذا الحديث -على ما أشار إليه من ضعف الاحتمال المذكور- هو أنّ الحديث قد أباح الذهبَ المقطَّع (وهو ما ليس محلَّقًا؛ محيطًا بالعضو) إباحة مطلقة مع أنه مظنة الفخر والخيلاء، فلو كانت العلة المذكورة هي المظنة، لم يكن ثَمة فرق بين المقطَّع وغير المقطَّع من الذهب، بل أقول: ولا فرق في ذلك كله بين الذهب والفضة من جهة، ولا بينهما وبين الحرير وكلِّ زينة أخرى سواهما من جهة أخرى كما هو ظاهر لا يخفى.
والحقُّ أنَّ حديث ابن عمر هذا دليل قويّ في التفريق بين الذهب المحلَّق والذهب المقطَّع للنساء، فإنه يدل بمنطوقه على إباحته لهنَّ، وبمفهومه على تحريم غير المقطَّع من الذهب عليهنَّ، وهو ما صرَّحت به أحاديث الباب، وحمْلُه على الرجال وأنه أباح لهم الذهب المقطَّع؛ أبعد ما يكون عن الصواب. وتجد تفصيل القول في هذه المسائل في كتابي "آداب الزفاف" فراجعه.
(10) قال ابن الأثير: "وفي رواية (النمور) أي: جلود النمور، وهي السباع المعروفة، واحدها (نَمِر)".

"صحيح الترغيب والترهيب" (8- كتاب الصدقات/  2- الترهيب من منع الزكاة، وما جاء في زكاة الحلي/ فصل [في زكاة الحلي]/ 1/ 473-477/ ح 771و772 (صحيح)).

السبت 4 شوال 1437ه


[1] - يعني من الحُليّ؛ لأن السياق فيها، فهناك استثناء آخر وهو أواني الذهب، ينظر كلام أبي -رَحِمَهُ اللهُ- في مقدمة "الآداب" (46-49).