الشيطانَ تَرْجُمُون


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد
قال الحافظ المنذري رَحِمَهُ اللهُ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا رَفَعَهُ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدِ الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ إبرَاهِيمَ تَتَّبِعُونَ».
رواه ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم واللفظ له، وقال:
صحيح على شرطهما.

"صحيح الترغيب والترهيب" (11- كتاب الحج/  10- الترغيب في رمي الجمار / 2/ 37/ ح 1156 (صحيح)).


فوائد
سئل أبي رَحِمَهُ اللهُ:
 هل رمي الجمرات يشترط فيه إصابة العمود أم اتجاه العمود؟
فأجاب:
لا ، هو المقصود الحوض، أن تقع الحصى فى الحوض، وليس المقصود إصابة العمود. وكثير من الناس يتوهمون -بهذه المناسَبة- أنَّ هناك شيطانًا ينتظر مِن الحُجاج أن يرموه بالحصوات! وهذا وهْمٌ [سائد] عند عامة الناس، هذه عبادةٌ وناحية تعبُّديَّة مَحْضة، لا يجوز لنا أن نُفَلْسِفَها، وإنْ كان أصلُها أنَّ الشيطان ظَهَر لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ هناك وأراد أن يَصرفه عن القيام بما أوحى اللهُ إليه مِن أن يَذبح ابنَه إسماعيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فظهر الشيطانُ هناك، فرماه أول مرة وفي المرة الثانية والثالثة ، لكن ليس هناك شيطان قابِع ينتظر هناك الحُجاجَ أن يرموه! فهي -إذًا- عمليَّة تعبُّديَّة فيها تذكيرٌ بتلك الحادثة الجليلة العظيمة، التي فدى اللهُ عَّزَّ وجَلَّ إسماعيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بذلك الكبش العظيم. فالمقصود بأن تُرمى الجمرات فى مكان الحوض، وليس المقصود إصابة مثل هذا العمود؛ لأنه في اعتقادي -هذا العمود- لم يكن منصوبًا فى عهد النبيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم" اﻫ تقييدًا من "سلسلة الهدى والنور" (الشريط 377/ الدقيقة 32) .
وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في سياق كلامٍ له في التحذير من الغلوِّ عمومًا، ومُعلِّقًا على حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: «هَاتِ الْقُطْ لِي». فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: «بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» رواه النسائي وغيره، وهو في "الصحيحة" (1283):
"فماذا يفعل الناس اليومَ حينما يرمون الجمرات؟ نرى العجب العجاب! الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجَّه المسلمَ أن يلتقط حصيات صغار؛ لأن المقصود ليس هناك محاربة مادية، وإنما هي محاربة معنوية روحية، فلذلك أوصى بعدم تكبير الحصاة، ثم لعلها تصيب رؤوسَ كثيرٍ مِن الذين اجتمعوا حول الجمرة، وهذا يقع كثيرًا، فإذا كانت الحصاة كبيرة فقد تؤذي مَن أصابته، اليوم نرى حول الجمرة النِّعالَ متراكمة بعضُها فوق بعض! لأن الجهال من المسلمين لم يتأدَّبوا بأدب الدِّين، فهم يتصوَّرون أن هناك شيطانًا فعلًا واقفًا ينتظرهم ليرجموه! والحقيقة ليس كذلك، وإنما هناك مكان خرج فيه الشيطان لأبينا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فرماه في الجمرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة" اﻫ المراد من كلام أبي رَحِمَهُ اللهُ، تقييدًا من "شرح صحيح الترغيب والترهيب" (الشريط 59/ الدقيقة 10:45).

وقال العلامة العثيمين رَحِمَهُ اللهُ:
"ورمي الجمرات الحكمةُ منه: إقامةُ ذِكر الله عَزَّ وَجَلَّ كما في حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما جُعِلَ الطوافُ بالبيتِ وبِالصَّفا والمروةِ ورَمْيُ الجمارِ لِإقامةِ ذِكرِ اللهِ»([1])، ولهذا يشرع أن يكبِّر عند رمي كل حصاة من أجل أن يعظِّم اللهَ تعالى بلسانه كما هو معظِّمٌ له بقلبه؛ لأن رمي الجمرات على هذا المكان أظهرُ ما فيه من المعنى المعقول هو التعبُّد لله، وهذا كمال الانقياد؛ إذ إنَّ الإنسان لا يعرف معنى معقولًا واضحًا في رمي هذه الحصى في هذا المكان سوى أنه يتعبد لله عَزَّ وَجَلَّ بأمرٍ وإن كان لا يعقل معناه على وجه التمام تعبُّدًا لله تعالى وتذللًا له، وهذا هو كمال الخضوع لله عَزَّ وَجَلَّ، ولهذا كان في رمي الجمار تعظيمٌ لله باللسان وبالقلب. أما ما اشتهر عند الناس مِن أنهم يَرمون الشياطين في هذه الجمرات فهذا لا أصل له، وإن كان قد رُوي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بسندٍ ضعيفٍ أنه قال: (الشَّيطانَ تَرمون)، فإنما يَقصِد بذلك إنْ صحَّ عنه هذا الخبر أو هذا الأثر فالمراد: أنكم تغيضون([2]) الشيطان برميكم هذه الجمرات، حيث تعبَّدتم لله عَزَّ وَجَلَّ بمجرد أنْ أمَركم به، من غير أمرٍ معقولٍ لكم على وجه التمام.
وما قيل أيضًا إن صح- من أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان الشيطان يعرض له في هذه المواقف ليحول بينه وبين تنفيذ أمر الله تعالى بذبح ولده فكان إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يرميه بهذه الجمرات؛ فإنه لا يستلزم أن يكون رمينا رميًا لإبليس؛ لأن إبليس لم يتعرَّض لنا في هذه الأماكن، ونظير هذا: أن السعي إنما شرع من أجل ما جرى لأم إسماعيل رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ومعلوم أنَّ تردُّد أمِّ إسماعيل بين الصفا والمروة سببُه طلبُ الغوث لعلَّها تجد من يكون حولها ويسقيها ويطعمها، ونحن في سعينا لا نسعى لهذا الغرض. فكذلك رمي الجمرات، حتى لو صحَّ أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يرمي الشيطان بهذه الجمرات مع أنه بعيد؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ جَعَل لنا دواءً نرمي به الشيطان إذا عرض لنا، وهو: أن نستعيذ بالله منه ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200، وفصِّلت: 36]. إذًا؛ الحكمة مَن رمي الجمرات هو كمالُ التعبُّدِ لله تعالى والتعظيم لأمره، ولهذا يحصل ذكر الله بالقلب واللسان" اﻫ من "شرح حديث جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صفة حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (ص 79 و80، ط 2، 1427ه، دار المحدِّث).

الإثنين 10 ذي القعدة 1439 هـ


([1]) رواه أبو داود وضعفه الوالد رَحِمَهُ اللهُ؛ "ضعيف سنن أبي داود" الأمّ (328).
([2]) كذا في الكتاب بالضاد، وكذلك هي في "مجموع فتاوى العلامة العثيمين" (24/ 500)، ولم أصل إلى الأصل الصوتيّ لأتأكّد، وقد تصح لغةً بمعنى: تتنقصون. والله أعلم.